قُبيل انفتاح زهرة الشمس و تخللها جريد النخيل الأخضر بسانية الحوش ، و قُبيل انبعاث زغاريد القصبي الصباحية ناشرةً صخب الحياة اللذيذ فوق مستنقعات الصمت الذي كان يستبد بالقرية طول الليل لتكنس عنها فقعات ذلك الصمت المُرعب الذي إن تخلله صوت فسيكون صوت الطيرة المزعومة أو ولولة سيارة إسعاف استيقظ قائدها على هدير حالة عاجلة ، يتراكم صوت الأم صادحاً في أذنِ عبسي الفتى الصغير ” عبسي نوض وليدي .. مش بتمشي السوق اليوم ؟ ” ، يستنكر عبسي الصوت للوهلة الأولى ، يتململ في فراشه ، يتقلب ليوحي لأمه بالانزعاج ، و بعد محاولات أمّه في إيقاظه … يغالب نفسه ، و ينكمش بجسده ، بحركات أفعوانية ينسلّ من الغطاء ، بإيحاء صبياني رافعاً يده دون إدراك منه يشير لأمه بأنّه استيقظ تماماً ، تتراجع الوالدة لكيْ تصنع النهار على مزاجِ أطفالها و تُعدّ الفُرن لصناعة خبز التنّور … اليوم خميس ، و الخميس يوم استثنائي جداً .
يغطسُ عبسي وجهه في حوض المياه ، يطيل مكوثه في الحمام ، يسمع صوت أمّه تناديه من وراء الباب ” عبسي … احميدة جاك ” ، يسبُ احميدة و يبرطم بكلمات غير مفهومة تدل على عدم الرضا … يمسحُ وجهه ، يصلي الصبح بسرعة خاطفة و كأنّما شبح الموت قد أعطاه مهلة ثوانٍ معدودة قبل أن ينهي صلاته الأخيرة ، تنهره والدته ، يتأفف في صمتٍ مقتضب ..
– صباح الخير ..
يقولها متثائباً و شبح النوم لا زال ماكثاً على عينيه …
– صباح الخير وليدي ، احميدة يراجي فيك قدام الباب .
– تبي حاجة من السوق ؟ .
– سلامتك ، جيبلنا معاك خضرة بس ، نديرلك فطور ؟؟ .
– لا لا … تو نفطر غادي .
يفتش في جيبهِ عن علكة قد اشتراها بالأمس ، يلقيها في فمه ، تبدأ رحلة المضغ و التي من المفترض أن تنتهي عند الإفطار تقريباً ، يبحث عن حذاءه ، يلتهم الحذاء أرجله الصغيرة المتآكلة بفعل التحامها المتواصل بالرمل و الصخور ، يبحث هنا و هناك عن عربته … يجدها مدسوسة بجانب بعض الخردوات ، يزيحها ، عجلة غزاها الصدأ و تآكلت جوانبها ، ذراعاها متصلان بحبل بلاستيكي أخضر اللون يكاد يغير في الجلد إذا مررته عليه ، يمسك بالذراعين و بحرفية يرفعها حتى مستوى كتفيه و يخرج بها لملاقاة احميدة ، يحيه تحية جافة ، يبتسم في وجهه بخفة ، ثم يرافقان بعضها عبر الأزقة ، و من زقاق إلى زقاق أخر ليجدا نفسيهما في طريق نصف أسفلتي ، نصف ترابي ، تمتد على جانبيه أشجار النخيل المتباهية بطولها المائلة على الطريق لتعطيه جاذبية خاصة … يسمي الناس الطريق بالملاحة ، يتذكر عبسي حديث جده المتواصل عن سباق السيارات في عهد الإيطالي و تشويق الحكايات التي يرسمها جده عن حلبة الملاحة أو الكورسة كما يحلو للبعض أن يسميها … كان يقول له أنّ الأطفال كانوا يخرجون مسرعين من على جانبي الطريق منتظرين تلك العربات السريعة تخترق حاجز الريح و رائحة البنزين المحترق تعطيهم نشوة مبهجة ، يصعد المهرة منهم أعلى الأشجار لكيْ يتحصلوا على رؤية أفضل ، كان عبسي مع كل كلمة يسمعها من جده عن أسطورة الملاحة يُمنّي النفس أن يمرح بسيارته الخاصة عبر هذا الطريق و يسترجع مجده الماضي . يحاول مُجاراة المستقبل و الماضي في آن واحد باصطناع حركات بهلوانية بالبرويطة ، يُحاذي برويطة احميدة و يناوشه ، يستفزه ، و تتداخل البرويطتان في سباق جنوني على الطريق العتيقة ، يبربر الاثنان مصطنعيْ صوت المحرك … تسقط العلكة المقذوفة من فمِ عبسي في خضمِ البربرة و قد نهشها الاضمحلال ، يسيران في خطين متوازيين .
مع متاهات الطريق ، يمر الفتيان بجانب الحمامات البخارية … يطلق الناس اسم ” الفوّار ” على المكان الذي ينتزعُ الأدران من الجسد انتزاعاً ، كان عبسي يتخيل إلى أي مدى سينكشف له بياض جسده إذا ما تحصل على حمام بُخاري مُنعش ، يُلامس شفتيه ، ينظر إلى كلتا يديه ، يدٌ سمراء يتخفى تحتها الجلد الأبيض توحي بجسد غير متناسق الألوان نتيجة لفح حرارة الشمس و الاحتكاك المتواصل بالتربة ، يواصل الفتيان رحلتهما حتى ينكشف لهما البحرُ جلياً ، تتسارع رائحة البحر لتُنعش صدر عبسي … يتنهد ، يجبر أنفه على استنشاق الرائحة مرةً و اثنتين و ثلاثة ، يبتسم ، يتقدمان بضع مترات ، في الأفق البعيد تُولد الشمس من جديد مخترقةً بشعاعها البسيط المكان ، ينعطفا يميناً ، تتبدى لهما أخيلة السيارات و الشاحنات و بوابة السوق من بعيد ، يستفز احميدة عبسي قائلاً ” الأخيرة أمنا … الأول بونا ” و يتسابقان حتى بداية السوق ، و البرويطتان ترتفعان و تنخفضان مع تكسرات و حفر الطريق الواسع . سوق سبان كما يحلو للكثير تسميته و سوق الخضرة كما يحلو للبعض هو ذلك السوق الشعبي المُترامي الأطراف و الذي لا يعترف بسلطة المكان و لا الزمان و لا سلطة الدولة التي حاولت في مرات كثيرة أن تغلقه أو أن تحاصره دون جدوى … تشتم رائحة الشاطئ العليلة ، ذات الشاطئ الذي نزل منه فرسان الملكة إيزابيلا مطاردين المورسكيين الهاربين من إسبانيا ، ذات الشاطئ الذي نزل منه مراد أغا ليخلص المدينة من غطرسة الإسباني .
في السوق خلق الله يجتمعون بأجناسهم و أشكالهم ، في السوق أيضاً لكل بضاعة بيّاعة و مناطق خاصة ، هناك عند الباب مباشرةً تنتشر بركات و سيارات الخضرة ، يجبُ أن تكون حاذقاً حتى لا تنخدع بالمنظر الخارجي للطماطم اللامع أو البطيخ الكبير ، في السوق لا يغرنّك شكل التفاح الذي يعتلي واجهة الصندوق ، لا شكل البطاطس و لا أي شيء يمكن قضمه .. في السوق أيضاً ، الجميع باعة و الجميع زبائن ، رائحة السوق غريبة تغلب عليها رائحة التربة المُنتعشة برشات الماء الحديثة ، يتباهى بعض الباعة بأسعار البضاعة الرخيصة … ينادي أحدهم من أعلى شاحنته ” زود زود … طماطم طازة ، القابينة بأربعة دينار” ” بذنجان ، كوسة ، قرعة طازة من الحوازة للسيارة ” . يساوم أحد الزبائن البائع و هو يقلب عينيه داخل صندوق طماطم يغرسها لكيْ يتأكد بأنّ البائع لا يخدعه فالعلاقة هنا علاقة دقائق فقط و هناك بعض الباعة المزيفين و الذين يمتهنون النصب و الاحتيال ، يبتهجُ وجه عبسي عندما يرى الزبون صاحب الشارب المعقوف قد امتلأت يداه بالأكياس يسرعُ إليهِ ببرويطته منادياً ” البرويطة بدينار … البرويطة بدينار ” ، يتجهم وجه الرجل ناظراً إلى عبسي بتكبر … يرمقه عبسي بنظرة من الحقد في داخله لتُترجم كابتسامة صفراء يصنطعها للحظات ، ” خوذ هادم و تعالَ وراي ” … يهرع عبسي لكيْ يضع الأكياس ببراعة في البرويطة ، و يتتبع الرجُل الكريه . من مظهر الرجُل يبدو عليه في بحبوحة من العيش قد أتى من وسط العاصمة إلا أنّ نثرات من البخل و الشُح قد لاحظها عبسي في تصرفاته فهو يساوم في كل شيء و بكل شيء … يقول عبسي في نفسه ” لا يهم … ما دام الدينار من نصيبي ” . يتخلص من حمولته الأولى … وسط زُحام السيارات المرصوفة بطريقة عشوائية ، يعودُ إلى مكان تجمع البراويط ينتظر زبوناً أخر ، يبحث وسط الزحام عن احميدة فيتبين أنّه قد تحصل على زبون … ينتابه شعور بالغبطة ، يرتاح قليلاً معزياً نفسه بأنّه يسبقه بزبون و ينتظر الثالي .
بعد عدة زبائن يقرر عبسي أن يتجول قليلاً ببرويطته لعلّ اصطاد له زبوناً ما ، يأخذ الزقاق الترابي الواصل بين المدخل و براريك الخضرة و براريك الملابس ، يغيب وسطَ هالات من الإعجاب بالملابس الصينية اللامعة ، يعجبه قميص لفريقه المفضل ، يتحسس جيبه ، يخذله ، يتحسر ، يحاول الكرة مرة أخرى عندما يتكشف له بائع أسمر البشرة لربما يكون نيجرياً أو تشادياً ، يبتسم بمكر ، يحاول مساومة البائع ” سديك .. بكم فانيلة ؟ ” ” فانيلة بعشرة دينار ” ” هلبا سديك .. ما في مساعدة ” ” ثمانية دينار ” ” خمسة ” ” ما يساعد سديك ” ” باهي ستة دينار ” ” سبعة أخر كلام ” ينطق رجل ما وراء الصحراء العين بلسانه الأعجمي ، يتأفف عبسي بصوت مسموع ثم يقرر أنّ لا بأس من التخلي عن دينار من أجل قميص فريقه المفضل ، يدفع الدنانير بمماطلة ، يكشر في وجه رجل ما وراء الصحراء ثم يبربر في نفسه ” عبيد ! ” .
يمرر جسمه في الزقاق المزدحم بالباعة و المتسكعين و المتفرجين ، يحاول أن يتفادى الاصطدام بأي شخص مُحتمل فآخر ما يريده هو التصادم مع من لا يهوى ، عند مفترق الأزقة ، ينعطف شمالاً مبتعداً عن باعة الحبوب و ثمار التخصيب إلى حيث يعبق شذى الوشق و الفسوخ و البائعات السودانيات بأجسامهم الغليظة و ركابهم الكبيرة ، يحاول مداعبة و مشاكسة بعضهن و يسرع الخطى حذراً ببرويطته مبتسماً ، يقف عند امرأة سمراء سمينة تتلفح فستاناً أزرقاً يزيدُ من سوادها . لا يشترِ عبسي إلا منها حتى أنّه صار زبونها المعتاد ، ” خالتي فاطمة ، نبي شكارة لُبان ، شكارتين وشق و شكارة فسوخ و بتساعديني زي العادة ” ، تبتسم المرأة تغرسُ يدها وسطَ كيس رقيق ثم تقسم جزءً من الأحجار السوداء اللزجة ، تزنها ، تفعل ذات الشيء مع اللُبان و الوشق .. و تتم الصفقة ! .
يمضي عبسي باقي جولته في السوق حيث الدجاج و الحمائم و الأرانب تُباع في الجهة الخلفية من السوق ، يذهله الأشكال و الأسماء الغريبة للحمام ،يطربه هديلها ، تسحره ألوانها ، تتراقص روحه لنشوة الحياة فيها . في هذه الجهة من السوق يتخلل الاحتيال بأعلى درجاته ، عليكَ أن تكون خبيراً جداً في أمراض و أنواع و أسعار الحيوانات قبل أن تُقدم على شراء واحد ، في الجهة المقابلة لباعة الحيوانات توجد بركات سندوتشات البيض و التونة و التي لها روادها من الباعة و فتيان البراويط كعبسي ، يتسكع عبسي قليلاً في السوق ، يتحصل على عدة زبائن ، عند الإعياء ، يبحثُ عن احميدة الذي يعمل بكد نظراً لتركيبته الجسمانية التي تفوق تركيبة عبسي ، تقع عيناه على احميدة و قد أصبح خالياً من الزبائن ، يلوح له من بعيد ، يتقدم احميدة بروية و ثقة نحو عبسي ، يفاخر بصوت مرتفع ” اليوم حصلت 25 كرية و مزال الوقت ” … يتجعد وجه عبسي قليلاً ثم يلفظ و بخبث موارياً عدد الزبائن لكي يغيظ احميدة ” 30 ! ” … يبهتُ وجه احميدة و يعزي نفسه قائلاً ” مزال الوقت ” .
يغوص الفتيان وسطَ رائحة البيض المقلي و هما يتسابقان على من يكمل شطيرته أولاً ، يتساقط فُتات خضم السباق ، يُكمل عبسي أولاً ضاحكاً بفمه المليء بالبيض ” غلبتك ! ” .. يحس بغصه تداعب صدره ، يتجرع المشروب الغازي المحصور داخل القنينة الزجاجية المُستهلكة العشرات أو ربما مئات المرات . ثم بعد ذلك يغيب الشبحان وسط الباعة و رواد السوق حتى منتصف النهار .. لكيْ يعود عبسي من الكورسة محملاً ببعض الدنانير و قميص رياضي و برويطة يحملُ على ظهرها حُلماً مُستقبلياً بأن يعيد للكورسة مجدها القديم .
3 تعليقات
جميل … تصوير رائع لنموذج ليبي صار من الماضي… أو هكذا اتمنى… كم كان شعبنا يقاسي… لقد قرأت أكثر من قصة او موضوع صحفي في شكل نقدي قبل ثورة 17 فبراير وكانت جميعها تعالج هذه الظاهرة من جانب اجتماعي وليس من جانب ابداعي… كان من اللازم في تصوري ان تعرف القارئ بمصطلحات (منطقة الكورسة بمنطقة سبان بتاجوراء حتى يعرف القاريء الزمان والمكان من هذه الاقصوصة)… اجدت… لك تحياتي..
أحسن يامحمد ..بلغة الفيس بوك أعجبني جداً
موفق دائماً .. صديقي المتميز النعاس
جميل جداً ..