قصة

معـركـة الأوهـام

أحمد فكرون

من أعمال التشكيلي الليبي علي المنتصر
من أعمال التشكيلي الليبي علي المنتصر

 
بضوء الشمس المشع الذي هتك ستر الظلام، تبسمت الطبيبة في وجهي وقالت: حمود قم يا كسول ستغادرنا اليوم.
 
كان الأمر عندي سيان، سواء غادرت المستشفى أم لم أغادر فكلاهما سواء، رأيتها تُسِر لأبي حديثاً وأسلمته حاجياتي وبعض الأدوية. طوال الطريق لم أتفوه بكلمة واحدة حتى تساؤلات أبي عن حالتي كنت أرد عليها بابتسامات لطيفة.
 
في ركن البيت الغربي قرب النافذة جلست أشاهد غروب الشمس خلف غابة الزيتون، كان شبيهاً بذلك اليوم حيث كان الجميع منهمكين في الأعمال المنزلية ويقوم بعضهم باستقبال الضيوف وتسليتهم؛ فاليوم هو موعد عودة جدي من رحلة الحج، جلست إلى جانب جدتي المقعدة في غرفتها وطلبت إليها أن تحكي لي قصة الغول (زوبعة) الذي يعيش منذ مئات السنين في غابة الزيتون.
 
أجابت طلبي –بعد ضحكة متَأمّلة- وأسهبت في القول كان الغول يعيش في قصره عند شجرة الرمان في رأس تلة الغابة، حين تطاول عليه بعض المتهورين؛ وقطعوا أعرافاً من شجرة الرمان فحكم على جميع سكان القرية بقطع خلفهم؛ فتمثل لهم في جسد (بريـكة) الحبشية، وكان كل من ينظر إليها من النساء تجهض ما في بطنها ولم ينج من بطش الغول بيت، فاستنجد أهل القرية بالشيخ (بن عيسى) لما علموا عليهِ من التصوف والصلاح، فذهب (بن عيسى) إلى حيث يقطن الغول، وصارعه سبع ليال متتالية؛ وخرج من عنده بعهد أن يعمل الناس بغابة الزيتون صباحا وما أن يسدل النهار جفونه يترك الناس الغابة؛ في اليوم التالي مات الشيخ (بن عيسى).
 تعالت الأصوات: الزوبعة غدر بالشيخ!
 وعلت الأصوات يجب الثأر للشيخ
قال صوت آخر: سمعت أنه في مدينة قريبة يوجد شيخ صالح لم لا نطلب منهُ المدد والعون؟
قال كبير مريدي الشيخ: الآن لا شيء نفعله سوى دفن الشيخ، فإكرام الميت دفنه ومن بعدها سننظر في أمرنا.
 
استحسن الجميع هذا الرأي، وما أن وورِيَ الشيخ الثرى حتى ظهرت عليهم (بريكة) الحبشية؛ ومشت حتى وقفت على قبر الشيخ وطعنت نفسها سبع طعنات بالخنجر، وسط ذهول من الجميع وعدم إدراك لما يحدث.
قال كبير المريدين: يا قوم إن من قتل الشيخ هم أبناء الغول (زوبعة) وهو جاء إليكم ليصحح هذا الأمر، ويخبركم بأنه باق على عهد الشيخ فقتل أبناءه السبعة جزاء لما اقترفوه من خطأ.
وعرفانا من أهل القرية بجميل الشيخ يقيمون كل عام حفلا في ذكرى وفاة الشيخ عند قبره.
 
علا صوت من خارج الغرفة لقد، وصل الحاج خرجت مسرعا لأرى طقوس استقباله فالكل يعانق جدي ويحمد الله على سلامته، وبعد وجبة العشاء أضرمت النار لتحمى عليها جنبات الدفوف وعلى صوت أنين نفخ (الزكره) وعلى صرخات ضرب الطبول والدفوف هامت قلوب وتمايلت الرؤوس وجدي يجلس وسط الحلقة وبين الفينة والأخرى يأتيه أحد الرجال فيسقيه شرابا في كوب صغير.
 تساءلت في نفسي ما هذا الشراب الذي يتصارع الجميع للحصول عليه؟
 ويهيمون بشربه أهو نوع من المسكرات؟
 نقلت السؤال لأبي الذي كان يجلس بعيدا بين أقرانه فقال لي: هذا ماء زمزم ماء مبارك انفجر بئره من تحت قدمي نبي الله إسماعيل لكن ما يفعله جدك وأهل القرية ليس إلا وهم وجهل؛ لا تشاركهم ما يفعلون.
 قاطعه أحد أصدقائه بقوله: لا تسمع لقول أبيك فهو لا ينقم عليهم إلا لاسمه الذي اختاره جدك على اسم الشيخ -بن عيسى- تبسم أبي وغادرتهم إلى حيث يجلس جدي وسط حلقة الحضرة.
 
بعد أيام من الاحتفال كنت أسمع أبي يتكلم مع بعض رفقائه حول بحثه عن حاجة الإنسان للظلام فهو خلق في الظلام ولا أظنه يستغني عن الظلام الذي تكون فيه.
كانت عبارات أبي مثل السهام الناعمات تدخل أذني وتتجه نحو عقلي الباطن لتمخر تجاويفه في صوت مزعج حاد، أحببت المكوث في الظلام ولم أعد في تآلفٍ معَ الضوء والنهار؛ كانت نقطة حالكة السواد تتكون أمامي تكبر كل يوم بشكل كبير وملحوظ تغطي كل ما حولي تصدر نفس ذلك الصوت الحاد تحيطني من كل جانب إلى أين المفر؟
 أنت خلقت في الظلام وستعود إليه شئت أم أبيت.
أحمد.. أحمد..
 
فتحت عيني هل أنت بخير لقد كنت تهذي عن الظلام طيلة عشرة أيام أظنك حملت ما لا طاقة لك به.
أنا نسرين الطبيبة التي أشرفت على علاجك ستغادرنا هذه الأيام إن استمعت إلى نصائحي جيدا.
أمسكت بيدي وأخرجتني إلى باحة المستشفى رأيت النور يشع من جديد قالت لي: الإنسان تكون في الظلام، ولكنه لا يطيقه ولا يتحمله فهو يحب النور، ويعمل في النهار والظلام خلق لراحته فقط.
تبسمت لما استحسنت من قولها.
– الآن اذهب إلى حجرتك واسترخي، غدا سيأتي أبوك ليعود بك إلى المنزل.

مقالات ذات علاقة

أم الرزق

رشاد علوه

حدث ذات عمر

مقبولة ارقيق

بوابة جُحا المعرفية

محمد دربي

اترك تعليق