بوابة الوسط
يوم الأحد، الذي يلتصق مباشرة بنهاية عطلات أعياد الميلاد ورأس السنة، يكون في لندن لزجا كئيبا لدرجة الغَمِّ؛ تكاد تخلو الشوارع من المارة. المحلات الكبيرة مغلقة؛ رذاذ متكاسل يتساقط ببلادة. ورؤوس أشباح ملفوفة بشيلانها الصوفية الداكنة مسرعة وحافلة حمراء بطابقين تتهادي عند رصيف حديقة هايد بارك التي أرنو إليها من وراء زجاج غرفتي بالطابق السادس. ملل وحنين إلى وطن يعيش فينا أطبقا علىّ تلك الليلة.
كنت قد نلت كفايتي من كل شيء، وأكلت ونمت ثم صحوت.. ولكن ذاك الأحد يتمطى، لا يريد أن ينتهي أبدا. وعدت إلى فراشي ـ وأخذت أتنقل، بملل من قناة إلى أخرى. لم أجد، مثلما اعتدت، برنامجا يشدني، على الرغم من أن برامج أعياد الميلاد التلفزيونية منتقاة بعناية. غمرني إحساس مزعج بأن العيد ليس عيدي، وطوقتني غربة موحشة. وددت لو أخرج من باب الفندق، فأجد نفسي في سوق الحوت أو في زنقة الحمّام.. أو باب بحر. وجدت برنامجا وثائقيا يتحدث عن الفيلة، شدني فشاهدته حتى نهايته.
يؤكد مقدم البرنامج على أن الفيلة تعلم صغارها وتؤدبها، وتتعاضد مع بعضها وقت الشدة، وهي تحب وتكره.. والعجيب أنها تتعلم من كبارها وتعتني بكهولها ولا تتخلى عنهم أبدا، يثيرها البعوض فتصرخ منه حد الجنون، تصرخ أيضا إن استفزها أحد ولا تتردد في مهاجمته، وتستكين ولا تنسى معروفا أبدا وتدافع عن صغارها حد القتال، وإنها مخلوقات لا يمكن التنبؤ بردود أفعالها، كثيرا ما أنقذ قطيع من الأفيال رفيق لهم أصيب بسوء نتيجة عملية صيد، أو حادث عرضي. ويراها المتخصصون قريبة من البشر في قناعاتها وسلوكها.
وتحدث، في ذلك البرنامج، خبير أفنى نصف قرن في دراسة سلوك الأفيال وأكد أنها ذكية كالبشر، وأحيانا تفوقهم. تحدث عن قطيع من الفيلة أخذ يغيرعلى معسكر في حديقة مفتوحة، يأخذ منها مؤنا فطوقوا المعسكر بسور فاقتحمته، فكهربوه، فابتعدت عنه، ولكن لم يمض وقتا طويلا حتى انتبهت الفيلة أنه بمجرد أن يتوقف المولد الكهربائي، وتطفأ أنوار المعسكر، يتوقف صعق السور المكهرب، فتقتحمه، فجعلوه مكهربا طوال الليل.. ولكن سريعا ما انتهبت إلى أن خراطيمها غير موصلة للكهرباء، فأزالت بها أسلاك الحاجز!.
بعضها له روح دعابة، إذ يتعمد الاختباء، ثم يظهر فجأة لإخافة الإنسان ويقف يهز أذنيه ساخرا، بعينين ساخرتين ضاحكتين. وتحدث عن فيل وسيم اقترب من قطيع يتحرك وكأنه يرقص، وسريعا ما انتبهت إليه إحدى الإناث فتسللت من القطيع واتجهت نحوه، وأخذت تدير رأسها وتهز أذنيها في استحياء وسريعا ما اقتربا من بعضهما البعض، وبحث لها الذكر العاشق عن عشب يبدو أنه محبب للإناث فقطعه بخرطومه وقدمه لها، وظلا طوال أيام مع بعضهما البعض، وأكد أنه شاهدهما يرفعان خرطوميهما إلى أعلى ويلتصق الفمان في قبلة طويلة، ثم اخذا يبتعدان عن بقية القطيع، فالأفيال خجولة، يصعب كثيرا أن تراها تمارس نداء الطبيعة، على الملاأ فهي كالإنسان!
وقال أيضا أن شهر العسل يدوم عشرة اشهر، إلى أن يبدأ وحم الأنثى وتفقد رغبتها في ذكرها، وتصبح رفيقتها أنثى اكبر منها لا تبتعد عنها طوال الوقت تعلمها الحيل الأنثوية كافة! ويستمر حمل الأنثى 21 شهرا وتنجب فيلا يبلغ وزنه حوالي 90 كيلوجراما وسريعا ما يقف على قدميه ويأخذ في الرضاعة من ثدي أمه الذي يقع بين قدميها الأماميتين، وهو يرضع بفمه وليس بخرطومه مثلما كنت أعتقد. وتأخذ الأم في حماية طفلها وإبعاده عن أي خطر. وتحدث أن فيلا نزقا صغيرا ابتعد قليلا عن أمه وكانا قريبين من مجرى قناة فصرخت الأم مرارا تحذره، ولكنه لم يأبه وسقط في الماء وسرعان ما انطلقت أمه وفيلة أخرى وأنقذا الرضيع بصعوبة، وما إن أخرجتاه حتى احتضنته برهة ثم ابتعدت عنه قليلا وصفعته بخرطومها صفعة قوية، لدرجة أن عنقي التف تلقائيا عن الشاشة!
وتتولى الفيلة الشابة رعاية الكهول منها التي لا تستطيع مسايرة القطيع في مسيرته، وكثيرا ما يتخلف فيل أو أكثر وتبقى مع الفيل الكهل تتعلم منه الحكمة والتجربة مقابل حمايته!
والفيلة ليست خرقاء، وهي رشيقة حتى أنها تستطيع السير فوق ثمرة جوز هند برشاقة ولا تكسرها، وهي حيوانات وفية، فلقد عالج مقدم البرنامج فيلا أصيب بجرح غائر في قدمه، ووصف ألم الفيل أول مرة من حرقة المطهر لجرحه فصرخ صراخا عظيما، ولكن بعد أن اعتاد العلاج أصبح ينتظره أمام كوخه، ويمد له قدمه إلى أن شُفى تماما. ولما التحق الفيل بقطيعة، ظل كلما يراه يأتي إليه ويلف خرطومه نحوه وكأنه يعانقه. وينام الفيل حوالي ثمان ساعات فيما يقضى ستة عشر ساعة يلتهم الحشائش، التي يحتاج منها حوالي 320 كيلوجراما، والفيل يبحث باستمرار عن الماء الذي يحتاج منه يوميا إلى حوالى 150 لترا. الفيل يتصرف كالإنسان في قناعاته وسلوكه بل يفوقه أحيانا في عواطفه. تلك الليلة أخرجتني الفيلة من حالة من الاكتئاب كادت أن تفسد بقية أيام تلك الرحلة.
بعد أيام، وفيما كنت أتسوق رأيت قلادة رائعة كانت سلسة أنيقة من الذهب تحمل فيلا صغيرا مرصعا بقطع صغيرة من الألماس، اشتريتها كهدية لابنتي بمناسبة دخولها الجامعة. لقد فرحت بها كثيرا، وزين الفيل عنقها، ولكن لم يخطر ببالي أبدا أنها ستحضر إلى بيتنا فيلا حقيقيا أصبح من أروع وأنبل أصدقائي!.