شاعرة صديقة من ليبيا هي الاستاذة خلود الفلاح، تثابر على التواصل مع الصحافة الثقافية في ليبيا وتسعى لتحريك الرواكد في وقت تمر به الحركة الثقافية بحالة من الجمود، بسبب تازم الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي انعكست على الحالة الثقافية، ولذلك فانه يعجبني اصرارها ومثابرتها، ولا اتردد كلما قصدتني في الرد على اسئلتها وهي دائما اسئلة ذكية تتناول القضايا العامة مع بعض التماس احيانا مع جوانب ذاتية معنية بحياة الكاتب، وليست بعيدة عما يهم القاريء المتابع لاعمال الكاتب والمتطلع لفهم الجوانب التي تلقى اضواء على ابداعه الادبي، وقد اعجبني سؤالا وصلني منها في لقاء صحفي اخير، يتصل بشعور الكاتب عندما يصل الى مرحلة متقدمة من عمره الادبي، وعما اذا كانت هناك لحظة يرى فيها انه قد اكمل واجبه نحو مشروعه في مجال الكتابة، وتاثير ذلك على مستوى ادائه وقدرته على الاستمرار والانجاز، فقلت لها في اجابتي على هذا السؤال:
ــ نعم ، هناك ما يمكن قوله ، في هذه المرحلة التي بلغتها من عمر الزمن، فقد نشرت اولى كتاباتي في الصحف عام 1959 وكنت في سن السادسة عشرة، أي ان عمرى الادبي سيكون قد بلغ ستين عاما، وهي بالتاكيد رحلة طويلة ، انجزت خلالها اكثر من مائة كتاب، بينها خمسة وخمسون كتابا سرديا هي اربعة وعشرون رواية واحدى وثلاثون مجموعة قصصية وعشرة كتب سيرة ذاتية وسبعة كتب تضم اكثر من اربعين نصا مسرحيا والبقية تراجم وادب رحلات ونصوص تاملات في صورة مقالات علاوة على عدد من البحوث والدراسات.
وما اقوله هو انني وان كنت فخورا بالمشروع الادبي الذي انجزته، فانني انجزته لانني احب ما اعمل واسعدني ان اكون في هذا المجال، كنت وانا اكتب امارس هوايتي ، كما يمارس محب السباحة هواية السباحة، غير ان هوايته لا ينتج عنها اثرا يبقى بعد اشباع الهواية ، بينما ينتج الكاتب او الفنان هذا الابداع الذي يبقى، لست نادما على انني قضيت هذا الوقت وافنيت هذا العمر في مهنة لا تقدم لصاحبها مردودا ماديا، لان هناك مردودا معنويا، يتصل بالمشاعر وثراء العواطف كما لا يخلو من مكافآت نتلقاها عندما نرى حب الاخرين لما نعمل واستمتاعهم به.
لا اعتقد ان هناك لحظة يقول فيها الكاتب انه حان ان اتوقف لانني انجزت مائة كتاب او الف كتاب، لانه سيواصل الكتابة طالما هو قادر على حمل القلم ، يحتفظ بكامل ملكاته سليمة ، ولا وجود لاعاقة عضوية او ذهنية تمنعه من ذلك، وبالنسبة لي فقد كنت ملاصقا لاثنين من كبار الكتاب تجاوزا سن التسعين هما المرحومان نجيب محفوظ ويوسف الشاروني وكان كل منهما في تمام لياقته الادبية، مثابرا على الكتابة، حتى النفس الاخير.
تتضاءل في مثل هذه السن الرغبات، وتنقص الى حدها الاذني مظاهر المنافسة واثبات الوجود كما كان يحدث في مراحل سابقة عندما نصل الى حد الدخول في معارك ومعامع من اجل التحقق والحصول على سبق في هذا النوع الادبي او هذا العمل الصحفي او هذا الموقع او غيره، مع انه لم يكن من طبعي ولا في سلوكي ان ادخل اية سباقات لها علاقة بالمناصب او الفوز بها لانني منذ البداية جعلت محور حياتي هو الكتابة لا التفت لغيرها ولا ابغي كسبا ولا مجدا في غير هذا المجال.
اذا كنت قد تركت بصمة في الادب العربي، واذا كنت قد حققت شيئا يبقى في التاريخ من كتاباتي فهو امر سياتي من يحكم لهذا الانتاج او عليه مع تقادم الايام والسنين، وبعد ان يكون الكاتب قد ترك موقعه في عالم الفناء الى عالم البقاء والخلود، حيث لايعنيه ما يقوله عنه الناس.
واحب ان استعين بكلمات قالها الاديب البريطاني سومرست موم عن كون التقدم في العمر يحرر الروح من كثير من الاشياء التي تصنع الغيرة وتصنع التنافس وتصنع الرغبة في تحقيق الانتصار في مضمار النجاح على بقية المتسابقين، باعتبار ان اشياء كثيرة يراها الانسان في مقتبل العمر ذات اهمية كبيرة وتصبح مع تقدم العمر لا اهمية لها، لقد صنعت كما يقول سومرست موم افضل ما استطيع صنعه بالمواهب التي حباني بها الله، والان فانني مرتاح لما صنعته ولا اجد في نفسي غيرة من نجاح الناجحين ولا اهتم بمن يتحمس لادبي او لا يتحمس له فقد اديت واجبي وليتفضل بقبولي من شاء ان يقبل وعدم القبول من شاء الا يقبل، فانا مرتاح لما فعلت، لانه اسعدني وجعل لحياتي معنى وكانت مهنة الكتابة مصدر الفرح الاساسي والرئيس في سنوات العمر المنصرمة، وارجو ان تكون كذلك بقية العمر.