1
… منتصف أغسطس.. جازية التي ترمّلت منذ صغرها.. تستلقي في ظل الخروبة.. تراقب القرون التي اسودّت بعد الضباب الأخير.. تهزّ رأسها.. تنهض على أربع.. تُجهِّز قِدْرها وموقدها.
2
… في الضحى تحتُّ قرون الخروب بعصا المكنسة.. تستمتع بالتساقط والخشخشة.. وتقافز القرون عند قدميها.. تكوّمها فوق الحصيرة.. تبدأ في دقّها فوق العتبة الإسمنتية.. تحفن الخروب المجروش داخل القِدْر.. تغرقه بالماء.
3
… تصفِّي الخروب.. بعد ترطيبه ليلة كاملة.. تُلقي بالنثل أمام بقرتها.. تضع القِدْر فوق موقد الغاز.. ترفع اللهب حتى تنبثق ألسنته من تحت الطنجرة.. تغفو.. تنهض على فترات لتطمئن على العصارة.
4
… في الضحى التالي تفوح رائحة الرُّبّ.. جازية ـــ التي لا تكف عن صنع الأشياء الحلوة ـــ تلقي رغيفاً من خبز التنور وسط فوران السائل الداكن.. فوح الرُّب ينتشر.. يتعدّى سياج بيتها.
5
… تكثر الطرقات على باب جازية…
جارتها القريبة تحضر كوباً من الشاي.. تدس أصابعها الثلاث الوسطى في القِدْر الذي يغلي.. تلحس.. تتمطّق.
الممرضة تطمئن على صحتها.. تأخذ لحسة.. تغمض عينيها.. تمتص لسانها.
قارئ عَدّادات الكهرباء يتحسس جبينها.. يأخذ لحسة.. يُمرّر لسانه على شفتيه مستقصياً أثر الرُّبّ.
حرس الغابات يأخذ لحسة طويلة.. من باب الاطمئنان على صحة الخروبة!
عابر سبيل يغمس إصبعين طويلتين.. يلعقهما.. معتذراً عن الوهم في الباب.
الكُرَة تسقط في حاجر البيت.. يلحقها فريق من اللاحسين الصغار.
ضابط القرية يرفع صوته من خلف الباب:
ـــ أنا يا عمّتي جازية لا أتحايل.. بصراحة سآخذ لحسة.. وقضمة من قَنّان الرُّبّ.
6
… آخر النهار.. جازية تنظر إلى الرُبّ القليل المتبقِّي في قاع القِدْر.. تتنهّد:
ـــ لحسوني!
تصبّ السائل الأسود الدبق الطري في زجاجة صغيرة حتى آخر قَطرة.. تُحكِم إغلاقها.. تمسحها بعناية.. تتأملها.. تُقرّبها من أنفها بيدين مرتجفتين.. تُغمض عينيها.. تأخذ نفَساً طويلاً…
تُجفلها طرقات متلاحقة على الباب…
***
(2010)