كان يذرع الممر جيئة وذهابا، وحيدا ويتأبط كتابا، كان حاد التقاطيع وأسمر، ونحيلا “كنواة البلح” كما يقول “ناظم حكمت”، منشغلا ويحدث نفسه دونما توقف على ما يبدو، يرتدي “روب نوم” قديما على بيجامته المصرية التصميم والصينية الصنع تقريبا، كان أشبه بأبطال “دويستوفسكي” المؤمنين بقدرهم التراجيدي، هكذا رأيت “عمر دبوب” لأول مرة.
كان ذلك بسجن الانضباط العسكري بالبركة في بنغازي، بالتحديد في فبراير عام 1975م، حيث كنا معتقلين إثر أحداث فبراير ذاك العام، كان معزولا عنا ويمنع علينا مخالطته أو الحديث معه، لم أكلمه، فقط كنت أراه يذرع ممر الزنزانات جيئة وذهابا، لم أكن أعرف من يكون فلم يمض على وجودي ببنغازي والجامعة أكثر من خمسة وثلاتين يوما فقط لاغير.
بعدها لم أقابله وظلت صورته وهو يذرع ممر الزنزانات إحدى صور معتقلي الأول.
في الحرس الجمهوري وفي معتقله أو سلخانته التي أقيمت خصيصا لنا “نحن طلبة جامعة بنغازي” عام 1976 رأيت للمرة الثانية “عمر دبوب” عبر كوة زنزانتي، لم يكن يذرع الممر ولم يكن يرتدي الروب على بيجامته، كان وملابسه ممزقا إثر سياط التعذيب والفلقة، لم يكن كأبطال “دويستوفسكي”، كان تماما كمسيح لحظة إنزاله عن الصليب في لوحات عصر النهضة، كان “حسن اشكال” والملازم أول “عبدالله السنوسي” قد أخرجاه من زنزانته ليستخدماه كوسيلة إيضاح لمصير من يعارض أو يتظاهر ضد الثورة كما يقولون، لتلاميذ إعدادية تم اعتقالهم إثر قيامهم بمظاهرة وأُحضروا إلى سلخانة الحرس الجمهوري بالبركة واُقتيدوا ليروا مصير من يتظاهر، كانوا وقد أحاطوا بجسد “دبوب” الممزق والنازف أشبه بملائكة أرعبها مصيرها الإنساني الرهيب، كانت طفولتهم تسحق أمام جسد دبوب النازف، وكانت تخطيطات لوحة المصير الليبي الأولى ترسم بالدم.
عمر دبوب، الشديد الصمت والهدوء تعرفت عليه بعد ذلك في سجون الجديدة والكويفية، لم أره خارج السجون أبدا، كان مناضلا قوميا ومعارضا لنظام المملكة، وبعد سبتمبر صار معارضا له أيضا كالكثيرين من حركة القومين العرب، كان سبتمبر شرسا في تعامله معهم، كان يبحث عن أتباع وليس عن حلفاء، ولم يكن بإمكان مناضل كدبوب أن يكون تابعا.
كانت ليبيا قد تحولت إلى قضيته الأساسية والأهم من كل قضايا العرب، لذا تحول إلى العمل الوطني.
كان الطلاب كل ما تبقى لليبيا في تلك المرحلة العصيبة والفاصلة من تاريخها، فلقد سقطت خيارات الانقلابات العسكرية، لذا وجد طالب الانتساب والمناضل القديم عمر دبوب نفسه وسط معمعة حراك الجامعة والثانويات ولم يتردد في الانتماء له والمساهمة في قيادته كعمل شعبي ونقابي، أدرك أن التغير لايمكن أن يكون فوقيا، بل يتأسس على قاعدة شعبية فاعلة.
كانت حرية العمل النقابي والأهلي واستقلالية الجامعة وتكوين اتحاد طلبة ليبيا أو بالأحرى توحيده، أهم شعارات ذاك العمل الذي انخرط فيه “دبوب” مع طلاب الجامعة والثانويات.
لم يكن “دبوب” انقلابيا ولم يخطط لإسقاط النظام كما قد يتصور البعض أو تصور النظام نفسه في تلك الفترة، بل ظل يعتقد أن على الشعب أن يصحح مسار النظام وأن يدفعه لمواقف أفضل لتأسيس التنمية والنهضة وبناء ليبيا الحديثة أولا.
“دبوب” الرصين والهاديء وعلى عكسنا جميعا، كل من كنا في قفص محكمة الشعب بشارع السيدي بطرابلس، ظل هادئا ورصينا لحظة قراءة أحكام الإعدام والمؤبد والسنوات بحقنا، لم يتكلم، لم يصرخ، ظل يحدق في البعيد، رغم أن الجميع شرعوا في الغناء “بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي” كان ذلك الغناء الممكن والمتاح لإسماع من كانوا بساحة محكمة شارع السيدي أننا ليبيون نحب ليبيا ونساق للإعدام والسجون.
عزل “دبوب” عنا بعد أخذنا لسجن الحصان الأسود فقد كان محكوما بالإعدام، وظللنا نؤكد لأنفسنا أنهم لن يعدموه، لا هو ولا رفيقه محمد بن سعود، ذلك مستحيل، هذا ما ظللنا نردده.
كنا معزولين تماما عن كل شيء، وكنا نهيء أنفسنا لسنوات طويلة في السجن، وكنا على قناعة بأننا سنلتقي ودبوب بعد أيام قليلة.
في اليوم الثامن من أبريل سرب لنا السجناء الجنائيون جريدة وعلى صفحتها الأولى كان “دبوب” يتدلى على حبل مشنقته ببنغازي وأدركت أنني لن أراه ثانية، وانهمرت مع رفاق زنزانتي في البكاء، كانت لوحة دبوب وقد مزقته السياط محاطا بأسراب تلاميذ الإعدادية المرعوبين وقد انهمروا أيضا بالبكاء وكانت “إلهام دبوب” الصغيرة إذَّاك كعصفور قصب ترفرف حول المشنقة، كانت تلك اللوحة قد هيمنت تماما على ماكنت أرى ولازلت أرى كلما تذكرت “دبوب”.
______________
نشر بموقع بوابة الوسط