كان صاحبنا شاعر شعبي لا يُجرى. خاصتا إذا ما استفز واستثير الشاعر الكامن فيه. وجعل من موّهبته اداته للاشتباك والردع. فقد لاحظ ابناء جيله في هذا المضمار. هذه الخاصية في ملكته الشعرية. ورغم ذلك. كان البعض منهم. يذهب نحو الاحتكاك بها ومناكفته. رغم معرفتهم المُسبقة بصعوبة تحمّل ما قد يأتي على لسانه. ففي أحد المرات استثاره أحدهم تجمعهما بيئة اجتماعية واحدة. فجرد عليه صاحبنا لسان من نار. مما دفع بغريمه للاحتماء والاستنجاد بشاعر اخر. من ذات البيئة الاجتماعية الثقافية. فتوقف احتراما وأحجم عن الاستمرار في مُشاغلته.
لقد شكلت وصاغت صاحبنا. البيئة الاجتماعية الثقافية النفسية بمنطقة فزان الفضاء الجغرافي للجنوب الليبي. التي كانت بأربعينات القرن الماضي. تُغطيها اسمال من البؤس وفقر مستحكم. ارتسمت بيد شح مُركّب لحياة قاسية. طالت كل مفردات اليومي من حياة الناس. وتصادف كل هذا. مع يد فرنسية غاشمة تشد بخناق الحياة بفزان. وكان الفرنسي وفى تلك الظروف القاسية. التي تعصف بحياة الناس. يسعى نحو بناء تشكيل عسكري من الأهالي. ليكون رديف واحتياطي لقواته بفزان. فأعلن عن رغبته، تلك في جميع المراكز الادارية الرئيسية بفزان. لمن يرى في نفسه القدرة والكفاءة. يتقدم للجان القبول بتلك المراكز.
تقدم البعض الى تلك اللجان. ليس انحياز منهم إلى الفرنسي عن البلاد. بل ربما قد يتمكنوا من تخطى تلك الظروف الصعبة. التي كانت عثرة في طريق وصولهم الى ضروريات البقاء على وجه الحياة. كانت لجان القبول قد اعتمدت المعيار البدني الجسدي في قبولها للراغبين. فمن كانت له بُنية جسدية وافرة مسنودة بجملة حواس سليمة. يتم قبوله كمنتسب لتشكيل (الباندة) وهو مُسمى لوحدات جنود الاحتياط. ومن يقصر بدنه وجسده عن مطاولة ذلك. قد يُقبل كعسكري (كامات). وهو مسمى يطلق على جنود الخدمات الادارية. التي تسند لهم مهام الاشعال العامة داخل الثكنات العسكرية. ومن يبتعد من المتقدمين عن هاتين الدرجتين يُبعد ويٌستغنى عنه. وقد جاء تصنيف صاحبنا في هذه الفيئة الاخيرة. خرج صاحبنا من عند لجنة القبول. بمشاعر يملئها احباط من مناكفة حظ عاتر يلاحقه أنّ اتجه او اتجهت به الحياة.
في طريق عودته مع منتصف النهار الى منزل مُضيفيه. وكانوا هؤلاء من ميسُوري الحال بمقاييس ذلك الزمن الشظف، وذي مكانة في محيطهم الاجتماعي. ولا تنقص البعض منهم موّهبة النظم. عرف صاحبنا عند اجتماعهم على مائدة طعام الغذاء. ان خبر الاستغناء عن خدمته. قد سبقه الوصول الى بيت المضيف. تبين ذلك عندما توجه أحد شركائه على المائدة. بالحديث الى غير صاحبنا. كان يجلس قُبالته. وقال. هل سمعت ما قال الشاعر؟ ولم ينتظر ردا. واضاف قال الشاعر. (لاكْ باندة اُولاك عسكري كامات ** اٌولاك فاطمة تقدر ادير افتاته).
انتبه صاحبنا الى القول. وعرف بانه المعنى. فأسرّها في نفسه ولم يُبديها لهم. وانتظر حتى انتهوا من تناول (شاهي الغذاء) وهي أحد العادات بالجنوب الليبي. فالشاهي يعقب وجبة الطعام. ثم استوى صاحبنا في جلسته. وهو لا يزال تحت وطئت احباط يعبث بمشاعره. وبعدما تحسس ياقة قميصه وقُبَعت رأسه. توجّه بالحديث الى مَن جاء ببيت الشعر. وقال ألم تسمع رد الشاعر. ولم ينتظر واضاف كان رده يقول: – (اندريها محّبوكة ***اُو نعجن اُو نخبز وانشدو مبروكه) (ونطق وانْطبلْ على الدربوكه *** واهزْهزْ إكتُوفى كيف خَيى خواته). لم يستطع الحضور تمالك أنفسهم. فانفلتوا في ضحكات طويلة. ادمعت عيون بعضهم من شدّته. وانكفاء القليل على ظهره مقهقهنا.
كنت احول القول. من خلال هذا السرد لهذه القصة الواقعية. ان الضرف المكاني الزماني وما يعتمل به. سوف يكون له بلا ريب أثر قوى وواضح. على بلورة فكرة النص الإبداعي ومعالجته تأملا وتفكيرا. ومن ثم على صياغته كتابتا او شافهتنا او تصويرا. وهذا قد ظهر بوضوح في حالتنا هذه. في كيف رسمت حالة الاحباط. التي يمر بها شاعرنا الشعبي. وكيف تركت ضلالها على كركتر الصورة الهزلية الساخرة. التي رسمها لنفسه. جاعلا من الصورة الشعرية. وسيلته المُثلى لجلد ذاته المحبطة.
وهذا في تقديري. يتقاطع مع الضرف المكاني الزماني الاستثنائي. الذي رسمته انتفاضات 2011 م بليبيا. على البيئة الاجتماعية الثقافية النفسية الليبية. وكيف تعاطت وتفاعلت البيئة الاجتماعية الثقافية النفسية الطرابلسية مع هذا الضرف الاستثنائي. التي كانت مسرحا لشخوص واحداث رواية خبز على طاولة الخال ميلاد. وعلى الكيفية التي قارَبَ بها النص الروائي. هذا الضرف وكيفية تعاطت وتفاعلت ولازالت معه البيئة الاجتماعية الطرابلسية. وإن جاء كل ذلك على نحو مُضمر ومن وراء حجاب. عبر رسم الخريطة الجينيّة للبيئة الطرابلسية. في محاولة من النص لأتماس الاعذار لهذه البيئة ونخبها. وان جاء كل هذا عبر مُدخل ربما كان صادما للبعض.
*ما جاء بين قوسين ينطق بالعامية الليبية وبلهّجة اهل جنوب ووسط ليبيا.
الجنوب الليبي. 25-9-22 م