قراءات

عزة المقهور وثلاثون قصة طرابلسية (3)

سالم قنيبر

• مراتع الصبا… والعودة سنوات إلى الوراء…

– في العديد من هذه المجموعة القصصية سنجد حضورا للكاتبة يمثل وجودا لها في حركة أحداثها، في مراحل مختلفة من العمر، بدأ من طفولتها.. تتصدرها أحيانا وتظهر في مشاهد جانبية في أحيان أخرى.. تستحضرها الكاتبة، وتستعيد تفاصيل وقائعها، وتقدم معالم وملامح أشخاصها، وأماكن حدوثها، وتصفها  بجلاء وضوح وتفوق قدرة.. وهذه قصتها مع الدراجة أو (البشكليتة).

• البـشكليطة…

– وكان تطلعها لاقتناء (البشكليطة) قد تملكها، ، وهي تلعب مع الصغار في دائرة الحديقة التي تتوسط  الحي الذي تقيم فيه بشقة جدتها.. (الحي الذي يعرف بحي البالاصات بالظهرة).. وفي إحدى العطل الصيفية تقول… “وشيئا فشيئا بدأت تظهر (بشكليطة).. لأبناء الجيران الواحد تلو الآخر يقتصر ركوبها على الصبيان دون الفتيات.. ثم تضيف.. كنا نطلب منهم (دجيرو) واحد بس.. يعني الدوران لمرة واحدة حول الحديقة.. وما إن يكتمل حتى نجد الصبي فاتحا ما بين ساقيه يمنعنا من المرور لدورة أخرى… وما كانت أيا منا تحلم بدراجة تدور بها كما يحلو لها دون أن تستجدي..) وما كان حلما يتحقق واقعا.. فتصلها الدراجة مهداة.. وكادت تطير فرحا يوم وصلت (البشكليطة)  إلى بيت جدتها.. وكان استقبالها لها  بفرح غامر (كذلك الذي إستقبلت به جدتي عروس عمي) ” فرحة لا زالت تستطعمها.

– ولأنها تجيد استحضار ما (ترصده) عيناها أو يتحرك له وجدانها،  فكان لوصف هذه الدراجة التقدمة التي تستهل  به قصتها.. (كانت حمراء ذات قضبان حديدية تلتحم ببعضها يعلوها كرسي جلدي أسود مثبت على عنق حديدى تخرج من جانبيها دواستان مربعتان وتقف على عجلتين مطاطيتين تنتهي بعجلتين صغيرتين ممتدتين على الجانبين).

-ومع الدراجة والسماح لها باللعب في دائرة الحديقة وعدم تجاوزها يتجدد للقصة مسار آخر.. فهناك ما هو قائم خلف العمارات حيث الصبيان يصعدون بدراجاتهم  تلة حي الظهرة.. (صاليتة البيراوية).. أو البيرا أويا.. المنحدر الضيق المعبد الذي يبدأ من قلب منطقة الظهرة  وينتهي عند شارع الشط،.. والحدث الذي يرتبط بالمكان يأتي سردا في مشاهد متتابعة حركة وتصويرا.

• الدرجــاحة…

– ومن الدراجة إلى (الدرجاحة) التي كان لها أثر ظاهر في ذكريات طفولتها.. إختصتها بقصة تحمل إسمها وقدمتها كتابة لوحات تفصيلية متحركة. تقول في نهايتها (تختفي الدراجيح من أماكن إقامتنا لكن مكانها يظل عالقا بالذاكرة تدور في مراتع الصبا فتتراءى لنا الدرجيحة وهي تهتز في قوتها وعنفوانها.. نشير إلى موضعها ونحن نعود سنوات إلى الوراء،.. وتأتي الصور بالأسود والأبيض غائمة كأنها نيجاتيف نبتسم ونقول هنا كانت الدرجيحة).

– ومن خلال المشاركة في الحياة مع جدتها التي تقوم بكفالتها بغياب والديها عن البلاد.. سنلتقي بالبعض من شخصيات رواياتها اللاتي يترددن على (اللاي) – كما تناديها -.. أو هي تقوم بزيارتهن وتصطحب (بنية ولدها) معها.

• هدرزة السقيفة

– وهذه.. زولا وما خلفته  من الإنطباعات… ” وكانت زولا ليست كغيرها من النساء، تجلس في السقيفة على كرسي، تضع عليه قماشتها، ترتدي الفراشية على قفطانها.. تتحدث بلهجة أهل البلد مطعمة بلكنة غريبة،  كلماتها الممطوطة تجر بعضها البعض كأنها عربات قطار منهكة، صوتها عال.. ولا تتهدل من تحت رأسها أية ضفائر كما هو حال النساء.. ترفض أن تأكل شيئا، ولا يعبئ جوفها إلا الماء.. وعندما تعاود الجدة العرض على زولا الإنتقال إلى الدار العربية المجاورة المحفوفة بالمنادير (الكاتفه)…
إلا أن زولا تصيح في كل مرة وتردد “السقيفة (برودة يا حجة.. خلينا هنا أنا موش برانية.. جيت ندفع لك الكرا”).

– تخافي من اليهودية.. تنهر الجدة الصغيرة برقة وتنزع يديها الصغيرتين الممسكتين بردائها القطني تحرره منهما  وتبعدها برفق من أمامها.. وعندما أذعنت الجدة لرغبة زولا.. جذبت كرسيا ووضعته أمامها في السقيفة “وما إن جلست عليه حتى إنطلقت الصغيرة كالسهم تسلقت ساقي الجدة وتمرغت بوجهها في ردائها.. وبيدين متشنجتين أدارت الجدة جسد الصغيرة في مواجهة زولا وهي تهمس في أذنها.. “عيب المرا.. ما يديروش هكي”… وكانت الصغيرة تخرج رأسها المدفون في حضن الجدة من حين لآخر كالقنفد وترفع عينيها بحذر في وجه زولا”.

– وتتردد التساؤلات عند الصغيرة.. من أين أتت زولا.. ولماذا تحمل إسما غريبا.. ولماذا ملامحها قاسية “كملامح صقر في بحث عن فريسة”.. ولماذا صوتها جهوري.. ولماذا لا تجلس على المندار وتصر على الاستراحة على كرسي في السقيفة.

–  “خلى نهدرزوا  في السقيفة.. أنا جيت ندفع الكرا”.. وفجأة وبعد أن تمد أوراقا نقدية مهترئة إلى الجدة تخبط زولا بكفيها على فخذيها.. وتتحسر على أيام زوجها العربي الذي رحل وتركها وحيدة في ذلك البيت المملوك للجدة المطل على الجادة الرئيسية في محلة الظهرة.. وتردد بحرقة “راح عزي ودلالي يا الحجة.. وتتساقط دموعها كأنها حبات مطر شحيح في يوم قائض..” وللقصة بقية.. وليس ما أستخلص من هذه القصة من أجل تقديمها هو كل القصة.

• القفـــــة…

– وتلك الخالة مناني.. التي تفتح باب شقتها كل عشية لتستقبل جاراتها بعد العصر.. تجهز الكعك المالح والحلو في أوان مغطاة بمفارش بيضاء، وتضع قطع الخبز الطازج وبعض الجبن والتن والهريسة والزيتون وجرار الطماطم الأخضر والخيار في أطباق ذات أحجام مختلفة على سفرة معدنية دائرية إنها (سفرة مناني).

– وتقول الصغيرة كنت أذهب مع جدتي إلى شقتها  ذات الباب المردود بعد العصر.. أرى الشباشب عند المدخل . أنزع حذائي وأدخل.. كانت لها غرفة صغيرة مجاورة لمطبخها مليئة بالقفف ذات الأحجام المختلفة، نلعب بها مع بنات الجيران، نجلس بداخلها لتقوم إحداهن بسحبها على بلاط الممر الضيق.. ينمو بداخلنا شيئا فشيئا إحساس بالغبطة . حتى تنقلب القفة. وننقلب معها
ونحن نقهقه.

– وتغير الحال بالخالة مناني.. (وبينما اشتدت أعوادنا، وهنت ساقا خالتي مناني وأحدودب ظهرها وغزا البياض شعرها.. لم تعد تقوى على المشي.. وسمعت جدتي تقول “مناني تزحفت”)… وللقصة بقية.. (وحين حمل أولاد الجيران وبعض أقاربها نعشها بعد أن فتحوا عليه رداء جديدا وردي اللون.. وحَدوا الله وكبَّروا.. وقد رأيت بعضهم يغالب دموعه).

يتبع……

بنغازي، 12 فبراير 2017

مقالات ذات علاقة

مازلنا هناك…

المشرف العام

كتابُ (جنان النّوار) احتفالٌ بالنصِّ… اِحتفاءٌ بالكّاتبِ

يونس شعبان الفنادي

إبراهيم حميدان… فارس الحكاية الليبية المعاصرة

سالم أبوظهير

اترك تعليق