لاشك أن صدور أي كتاب هو إضافة للمشهد الثقافي بجميع أطيافه سواء كان على صعيد القراءة أو النقد أو الحوار حول الأسئلة والمواضيع والقضايا التي يعرضها أو استرجاع الذكريات المتعددة أو غيرها، ولذا فإن هذا الحدث سيتيح أمام مشهدنا فرصة التعرف على ما جاء بكتاب (جنان النوار) للأستاذ الراحل محمد رجب طرنيش. وإن كان ذلك على وجه العموم، فإن مقالات (جنان النوار) تكتسي أهمية خاصة لما تميزت به من إجهار بالقول الصادق في زمن يكمم الأفواه، ويمنع القول الحق، ويصادر الحقيقة الساطعة. إضافة إلى أن جنان النوار هي مقالات خطها فكر وعقل وقلب تفرد بأسلوبه الجريء، وموقفه الوطني الواضح والصريح، ألا وهو فقيدنا وصديقنا الأستاذ محمد رجب طرنيش رحمه الله.
وفي الوقت الذي أكبر فيه هذا العمل وأتوجه بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إصدار هذا الكتاب، فإن ذلك لا يمنع من إبداء بعض النقاط حوله إيماناً مني بأنها تصب في تحسين طبعاته اللاحقة إن تنسى ذلك. فالملاحظ أن هذا الكتاب الذي جاء في مائتي صفحة وضم تسعة وخمسين مقالا مختلفاً قد رتب بشكل لم يراعي أية منهجية معينة، كتصنيف مقالاته حسب الصحف التي نشرت بها، أو حسب تواريخ نشرها، أو حسب مجالاتها سواء كانت اقتصادية أو فنية أو اجتماعية أو غيرها. كما غابت عنه كلياً آلية التوثيق التي تتطلب ذكر المراجع وبيانات نشر تلك المقالات التي تمنح الكتاب قوته، وتحفظ له قيمته ليكون بدوره مرجعاً موثوقاً. وهنا لعلني أجد العذر في ذلك لمن قام بعملية التجميع والنشر وهو الاستعجال في نشر ما تم الحصول عليه وتجميعه من مقالات المرحوم محمد رجب طرنيش خوفاً من أن يأكل الكسل ُوالصداء الزمني والضياع في متاهات البيروقراطية الإدارية الحماسَ للفكرة المتقدة رغبة وحباً في نشر مقالات الراحل. ولاشك أن ما ضمه كتاب (جنان النوار) الصادر عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني لا يمثل كل انتاج الراحل محمد رجب طرنيش، بل هو جزء من تراثه الصحفي المنشور بالعديد من المطبوعات الوطنية، ولذا فإن المسئولية لازالت كبيرة على جميع محبي الأستاذ الراحل لتجميع ما لم ينشر من مقالاته وتضمينها لهذا الكتاب في طبعاته اللاحقة.
ومن أبرز المقالات التي افتقدتها عند مطالعتي لكتاب (جنان النوار) مقال “هروكي يا حكومة غانا” ومقال “عن الموز الليبي أحدثكم” و”فوائد الحمير” و”فوائد الغدران” و”مهمة رسمية” و”الطبيخة الليبية بين الاقتصاد والسلع التموينية” و”الوخز بالإبر الليبية” و”أمناء من قيام الثورة إلى قيام الساعة” وقد وجدتُ أن الأستاذ الراحل محمد طرنيش قد حاول ابتكار شخصية نقدية تهكمية خاصة به سماها (شعبانيوس عسلوزيوس) في مقاليه “مهمة رسمية” و”فوائد الحمير” ولا نعرف سبب عدم استمرارية هذه الشخصية وظهورها في مقالات متتالية أخرى.
ومن بين المقالات الجميلة التي لم أجدها منشورة في هذا الكتاب، كما أشرت، وأحببت أن أعرضها عليكم هي مقالته بعنوان (عن الموز الليبي أحدثكم !!) وقد اقتبست بعض القراءة حولها من دراسة بعنوان (الكتابة النقدية الساخرة في ليبيا منذ “أبي قشة” إلى “طرنيش”) والتي ستتصدر كتابي (طرنيش في القلب) الذي آمل أن يصدر قريباً.
ومقالة (عن الموز الليبي أحدثكم) للمرحوم محمد طرنيش نشرت على الصفحة الرابعة والعشرين بالعدد رقم 599 لصحيفة الشط الصادر بتاريخ 1/1/1370، وجاءت استخفافاً واستهجاناً للخطط والبرامج غير المدروسة التي تنفذها الحكومة عشوائياً بلا دراسة جدوى اقتصادية أو تقدير العوائد النفعية على المواطن. ومن بين هذه المشاريع زراعة أشجار الموز التي أقيمت في ليبيا.
ويستمد الكاتب الراحل محمد طرنيش موضوع مقاله من مشاهدة مرئية ظهر فيها أحد المسئولين بالحكومة على شاشة الإذاعة يزف بشرى البدء في مشاريع الموز في ليبيا لينقل للقارئ تلك الصورة المرئية عبر قلمه فيقول (منذ عدة سنوات ظهر علينا عبر المرئية الليبية مسئولٌ جميلُ المنظر، بهيُّ الطلعة، حلوُ البسمات، يحملُ بيمناه عصا رقيقة من رقائق الخشب، يشير بها إلى بعض المواقع على خارطة كبيرة لبلادنا الحبيبة، ويحادث عدداً من المستمعين إليه بقوله: هذه المواقع “اللي” تم اختيارها لإقامة مشاريع زراعة الموز وهي “اللي” اخترناها بكل عناية، وتتوفر فيها كافة الشروط والمقاييس والمواصفات العالمية، وبعد دراسات كاملة قامت بها أكبر الشركات المتخصصة في مثل هذا النوع من المزارع).
وبعد أن قدم وصفاً إيجابياً لصورة ذاك المسئول دون أن يكشف اسمه أو يتطرق إلى منصبه أو صفته الوظيفية يستمر في سرده ناقلاً عنه (.. تقول الإحصائيات التي نتجت عن تلك الدراسات والأبحاث “أيها الأخوة” أنه بعد حوالي ثلاث سنوات إلى خمس سنوات سيتم إغراق السوق الليبي من هذا النوع من الفواكه وسيكون متواجداً طوال العام وسيتم الوقف الفوري لاستيراده من الخارج، وسنقوم بتوفير المبالغ المالية “اللي” كنا ندفعها إلى استيراد الموز وتوفيرها إلى تحسين مستوى الإنتاج وفق ضوابط ومعايير الموز العالمية، كما سيتم تنظيم وترتيب هذه المشاريع بحيث تغطي كامل تراب بلادنا الحبيبة، وسوف لن تكون هناك مشكلة تسويقية، ففي وسط عدد من المشاريع تقام مزرعة للموز فتغذي ما حولها من مناطق، وسنقوم بتوزيع الموز عبر الوسائل المشروعة بحيث يصل إلى كل مواطن في كل مكان بلا عناء ولا تعب ولا مشقة ولا رهق ولا إرهاق).
وبعد البيان الاقتصادي المنقول عن ذاك المسئول كما قدمه لنا الكاتب المرحوم طرنيش نستشف من اللغة التهكمية الهادئة أن الكلمات تخفي وراءها ابتسامات ساخرة موغلة في التنذر على المعلومات التي أوردها ذاك المسئول توحي بعدم رضى الكاتب ولكنه يواصل في سخرية مبطنة هادئة قائلاً (.. فالجميع سيأكلون الموز وسيتعودون على رؤيته منذ نعومة الأظافر).
ثم يرجع بنا الكاتب إلى السنوات التي توقف فيها استيراد الموز نهائياً ومنعه إلى جانب العديد من الفواكه والمأكولات من دخول أسواقنا الوطنية وما ترتب عن ذلك من حرمان الأطفال من تغذية أجسامهم بتلك الفواكه وبالتالي عدم معرفتهم لها وجهلهم بها تماما كقيمة غذائية، فيحاول المرحوم طرنيش طمأنة القارئ مورداً بعض الطرائف (… سوف لن تتكرر تلك الحكايات التي سمعناها في سنوات العجاف عن الطفل الذي فر هارباً عند مشاهدته الموز فهو لم يعرفه ولم يتعود عليه، وذلك الطفل الذي نزع القشرة وأكلها ورمى بالموزة معتقداً أنها “نوى” الموز … وبعد ذلك سنقوم بتصديره إلى البلاد التي لا توجد بها مزارع للموز ولا يوجد بها من يفكر في زراعته).
ويواصل العزف على الجانب الأسري الخاص والاجتماعي والاقتصادي العام فينقل لقارئه ابتهاجه الساخر فيقول (… في الحقيقة فرحنا كثيراً، فقد أصبحنا نزرع ونأكل ونصدر الفائض من موزنا الليبي الرائع … وهكذا لن تكون هناك مشكلة بين المواطن وزوجته مثلاً، تلك الحامل التي يأتي وحمها على الموز في غير وقته، فيتعب المسكين نفسه لإحضاره ثم يكتشف أنها توحمت على الموز الصومالي بينما أحضر هو برتغالي، فمثل هذه المعاناة سوف تختفي نهائياً عند المواطن الليبي…).
في الفقرات السابقة وضع كاتب المقال المرحوم طرنيش بعض الكلمات داخل قوسين مثل “اللي” و”هاذيك” و”أيها الأخوة”، وهي على ما أعتقد قد نقلها حرفياً من كلام المسئول، محاولاً بذلك تقديم صورة حية لأسلوب حديث المسئول نفسه للقارئ.
ثم مع بداية مرحلة إنتاج الموز وتوزيعه يصور لنا الكاتب بأسلوبه الساخر غير المنفعل بعض مواصفات هذا المنتوج اللذيذ الذي لم تعرف بلادنا إطلاقاً زراعته في السابق (… بعد عدة سنوات تم توزيع الدفعة الأولى من باكورة الإنتاج الموزي الليبي، ورغم ما يقال عن اخضراره، وقصر حجمه، وصعوبة بلعه، وبطء هضمه، وغرابة لونه، وعجائب مذاقه، وغيرها من الإشاعات التي يرددها عدد من المشككين الحاقدين، فهو موز ليبي علينا قبوله والرضى به، وهي مراحل لابد أن تمر بها كل تجربة زراعية أو صناعية في بداية مشوارها، ففي بطون من يمكن إجراء التجارب طالما أن الموز موزنا؟).
ويختم المرحوم محمد طرنيش الفقرة السابقة من مقاله بسؤال لا يمكن أن تختلف الإجابة عنه لدى أي مواطن غيور على بلده. ولكن وإن كانت الإجابة واحدة إلا أن التأويلات والابتسامات والضحكات التي يفجرها مغزى ذاك السؤال لا تتوقف عند لون واحد أو نوع معين من الاستخفاف بالعقلية المفكرة للخطط والبرامج والمشاريع الوطنية.
وتأتي الفقرة الأخيرة من المقال لتفجر المفاجأة أمام القارئ وهي انقطاع الموز مجدداً من أسواقنا الليبية رغم مشاريع زراعته وإنتاجه محلياً في بلادنا كما يخبرنا الكاتب حين يقول (.. ولكن وبعد عدة سنوات اختفى الموز ولم نعد نسمع عنه أو عليه .. ثم سمعنا أن المشاريع “هاذيك” قد ألغيت وتلاشت … وعصفت بها عواصف الزمن ورياح القبلي، بل وأكثر من ذلك قالوا أنها أضحت قاعاً صفصفاً، فبدلاً من أصابع الموز الليبي حلت محلها عكاكيز موسى، بل ويقال أنها تم تقسيمها على مستحقيها من المسئولين ممن قرروا إقامتها من العاملين عليها).
ونلاحظ أنه في ظل التعتيم الإعلامي عن مصير مشاريع زراعة الموز الليبي وتوقفها اعتمد الكاتب في مقاله على السمع والقول “سمعنا” و”قالوا” وهو نقل ما يدور بين الناس، بمعنى انحيازه في مصادر معلوماته إلى عامة الناس البسطاء وكلام الشارع من خلال تركيزه على “القول” لكي ينقل الكرة في ملعب الطرف الآخر لتأكيد أو نفي ذلك القول المتعلق بتقسيم أصابع الموز أو أراضي مشاريع الموزع على “مستحقيها من المسئولين” وهي إشارة يغمز بها بكل ذكاء رغم أنه لم يحدد هل التقسيم يعني به توزيع أصابع الموز على الناس، أم يعني تخصيص أراضي مشاريع الموز وتقسيمها على المسئولين!. وكما هي عادته لتعزيز ما يقدمه للقارئ بالاستدلال والاستعارة من القرآن الكريم فقد جاءت هنا بشكل غير مباشر حين وصف ما آلت إليه مشاريع الموز “أضحت قاعاً صفصفاً” وأنها استبدلت ب”عكاكيز موسى” وهي جمع لنبات “الزفزوف” الذي يطلق عليه بالعامية “عكوز موسى” أي عصا أو عكاز سيدنا موسى عليه السلام، وهو نبات شجيري لا قيمة أو أهمية له، ينبت عشوائياً على السواتر الترابية بين المزارع “الطوابي” أو على جوانب الطرقات، تحمل سيقانه أوراقاً بسيطة وثماراً متفتحة، وأزهاراً صفراء اللون تعطي رحيقاً لذيذاً، واستحضار المرحوم طرنيش لهذا النبات في نصه هو تلميح بأن مشاريع الموز صارت ليست لها أية قيمة نفعية ولم تعد صالحة لأي شيء ويا خيبة المسعى والجهد والمصاريف التي أنفقت في سبيلها ومن أجلها.
ويستدرك أبعاد تلك الإشارة الرمزية المبطنة بالاتهامات الخطيرة التي يوجهها للمسئولين على مشاريع الموز فيقول في ختام الفقرة الأخيرة من مقاله (.. ولا يجب أن تسيئوا الظن بهم فقد حاولوا مع الموز فلم يحالفهم الحظ، فلماذا لا نعطيهم الفرصة لزراعة نوع آخر بعد تمليكهم المواقع إذ ربما ينجحوا وتعم الفائدة على الجميع). وبمزيد من التهكم على العقلية الفاسدة العقيمة في التخطيط لمشاريع وطنية حقيقية يقدم اقتراحاً يجعله فخاً لتلك العقلية (.. وبهذه المناسبة أقترح عليهم تجربة واحدة من نوعين نحن نحتاج إليها بعد الموز الليبي هما “الليم الزنبوعي وتفاح النم…”). وهنا إذ يعود لاستعمال الأمثال الشعبية كعادته فإنه يجمع في سطر واحد مثلين ناقصين تاركاً للقارئ الكريم مهمة فصلهما واستكمالهما لكي يتحصل على المعنى الكامل للرسالة التي يود تمريرها. فكلمة “الليم الزنبوعي” هي جزء محور من المثل الشعبي المتداول بين الناس بصيغة “توا نوريك ليم الزنباع وين ينباع”، واستحضاره هنا هو رسالة تحدي مفادها الشعور المؤكد باستحالة نجاح أو حتى ظهور هذه المشاريع للوجود مجدداً. أما المثل الثاني فلا يتضح معناه إلا بعد أن يكتمل ويضاف إليه شطره الثاني ليصبح “تفاح النم … لا يتكل ولا ينشم” بمعنى أن هذا النوع من التفاح رديء المذاق وكريه الرائحة وبالتالي فهو لا يصلح للأكل ولا للاستمتاع برائحته. وهذا المثل يكمل ما لمح إليه في المثل السابق ليؤكد بأن كل البرامج التي نفذت تفتقد إلى الدراسة المستفيضة الجادة والتخطيط المتعمق الذي يهدف إلى صالح الوطن والمواطن وبالتالي فلا فائدة مرجوة منها.
هذا بعض ما تركه لنا الراحل محمد رجب طرنيش من مقالاته الصادرة في كتابه (جنان النوار) أو غيرها تتميز ببساطة مفردات اللغة وعمق دلالاتها القوية التي تخترق الأسوار المنيعة الساعية إلى سجن الرأي، ووئد الفكر، وتسطيح المضامين. مقالات المرحوم طرنيش متعة للعقل والفكر، وبسمة للقلوب والشفاه، تستعيد معها الروح أنفاسها حتى وإن ذرفت مآقي العيون سيولاً وظلت في الأعماق غصة وحسرة على وطن يئن بجراح مبعثها الفساد والاستغلال والجهل والتخريب. رحم الله صديقنا وحبيبنا الراحل محمد رجب طرنيش وطيب ثراه.