قراءات

مازلنا هناك…

يعاد نشرها بمناسبة الذكرى الـ31 لوفاة الكاتب والمفكر عبدالله القويري.

مدونة (لا شيء جديد) | إبراهيم

الكاتب عبدالله القويري على اليمين، والكاتب يوسف الدلنسي على اليسار، رحمة الله عليهما.
الكاتب عبدالله القويري على اليمين، والكاتب يوسف الدلنسي على اليسار، رحمة الله عليهما.

بعض القُراء على “السوشيال ميديا” قاموا مؤخراً بشن حملة صليبية، أقصد، آسف، كلمة حملة مرتبطة بالصليبية. بعض القُراء قاموا ببذل مساعٍ (هذه مرتبطة بمعنى إيجابي، صح؟) لإعادة تعريف القراء الليبيين على كُتاب ليبيين نساهم الليبيون. هذه الحملة تمحورت حول اسمين: يوسف القويري (أطال الله في عمره) وعبدالله القويري (رحمه الله).

بالنسبة لي كان ذلك دافعاً للانطلاق في مشروع شخصي لاستكشاف المفكرين والكتاب والشعراء الليبيين بصفة عامة (لله دري)، ولكنني مثل غيري قررت البدء بأبناء العم القويريين. حركة تنوير كانت قد استجابت لهذا الحراك الثقافي وقامت برفع بعض كتب الرجلين إلكترونياً. والحراك تمدد أكثر من ذلك على كل حال، فقد بدأ القُراء في ليبيا بالبحث في مكتباتهم، وبدأ البعض في زيارة المكتبات والبحث عن كتب القويريين، وبدأت تنتشر صور كتبهما، ووضعت مؤلفاتهما على موقع goodreads.

من بين الكتب التي قامت حركة تنوير برفعها، أشعر بأنني يجب أن أضيف كلمة “مشكورة” مثلما يُقال عند إلقاء كلمات وبيانات وعندما يتحدث أحد الضيوف في مناسبة تقوم بتنظيمها جهة ما مشكورة! على كل حال، من بين الكتب التي رفعتها حركة تنوير كتاب “معنى الكيان” لعبدالله القويري.

المستشرقون الأشرار

الجزء الأول من الكتاب، وهو في الحقيقة كتيب (حوالي 50 صفحة)، وكان من المفترض أن يكون جزءاً من سلسلة كتب صغيرة لكن للأسف الأستاذ عبدالله القويري لم تتوفر له فرصة إكمالها بعد إصدار كتابين، “معنى الكيان” و”كلمات إلى وطني”. وبالعودة إلى موضوع هذا العنوان الفرعي الساخر (أنا فقط في مزاج سيء، لكن لا أسخر من الكتاب)، فإن الجزء الأول من الكتاب يُسخره عبدالله القويري لمناقشة بعض الكتابات الاستشراقية عن ليبيا.

الأستاذ عبدالله يذكر كتباً مثل “السنوسية في برقة”، “طرابلس تحت حكم القرامنلي”، “بنغازي: قصة مدينة”، “ليبيا دولة من الواحات”، “شمال أفريقيا.. المغرب”… وهي كلها كتب مؤلفة بوجهة نظر استشراقية محضة، تدرس ليبيا والليبيين مثلما كان داروين يدرس الحشرات على جزر غالاباغوس!

من الواضح أن هدف الأستاذ القويري في الرد على بعض ما جاء في هذه الكتب لم يكن تعصباً وطنياً أو رفضاً لمؤلفات أنتجتها عقليات استشراقية-استعمارية (ليس كل الاستشراق سيئاً)، ولكن هدفه كان دعم قضايا ذلك الزمان، وبالتحديد قضية الوحدة. فكما نعلم جميعاً (لا أعلم من “نحن” الذين أصفنا بكلمة “جميعاً”، لكن ربما علينا تأسيس جمعية أو نادي لنعلم أشياءً معاً!) فكما نعلم حين نالت ليبيا استقلالها كانت قضية الوحدة من القضايا الحساسة في هذه الأرض التي كثيراً ما عانت من الانقسام. الكثير من التنازلات حدثت في تلك الفترة، وكثيرون ضحوا لكي تظهر تحت الشمس المملكة الليبية المتحدة (في إشارة واضحة لهشاشة الوضع!) قبل أن تُزال كلمة “متحدة” من الدستور بعد حوالي عشر سنوات من تاريخ الاستقلال.

الأستاذ عبدالله كان مشغولاً بهذه القضية كما يبدو. وكان يريد الرد على ما جاء في الكتابات الاستشراقية وما كان (ومازال) الناس يتحدثون عنه. لعل أبرز مثال للمجادلات التي خاض فيها الأستاذ عبدالله هي مجادلة العداء بين المدينة والضواحي، أو بين الحضر والبادية (الحضور والبوادي).

الأستاذ عبدالله يقول بأن سبب الحساسية بين الحضور والبوادي ليس شيئاً دفيناً في جينات الطرفين، بل هو عارض تاريخي ناتج من الاستعمار المتكرر لليبيا. كيف يجعل الاستعمار المدينة والضواحي أعداءً؟ بكل بساطة بجعل سلطات الاستعمار تتمركز في المدن، فتصبح المدينة مركز الشر، مركز السلطة المستعمرة، مركز سلطة جباية الضرائب، تصبح المدينة المكان الذي يهرب منه الناس ويبتعدون عنه ويخشون من الذهاب إليه، بعد أن كانت الضواحي امتداداً للمدينة، وكانت المدينة نقطة انطلاق والتقاء، عوضاً عن كونها عاصمة للقمع والاستبداد والاستعمار. هذا مثال بسيط، هنالك أمثلة كثيرة أخرى، عن الانهيار الاقتصادي، عن التمزق الاجتماعي، عن الهجرة، والأستاذ عبدالله يُلقي بالجزء الأكبر من اللوم على الأتراك والإيطاليين، فيقول إن:

“فترتي  الحكم التركي والحكم الإيطالي أضعفتا الارتباط بين أجزاء البلاد، وساعدتا على الانعزال، كما حاولتا التفريق غير المبني على أساس علمي بين فئات من السكان، كما زادتا في عامل الهجرة بما قامتا به من ضغط مستمر على السكان من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.” (ص10)

من هذا المنطلق، أعني الرد على بعض المزاعم الاستشراقية حول طبيعة الأرض الليبية، يتوجه الأستاذ عبدالله القويري (بكل تفاؤل رجال الدولة الوليدة) نحو القول بوجود كيان ليبي، له شخصية محددة خاصة به، وتاريخ وثقافة وما نحو ذلك من أمور تميز هذه الأرض وساكنيها، وبالتحديد تجمعهم في كيان ليبيا. هو بذلك يُقر الفكرة الأولى في هذا الكتيب الصغير: هنالك بلاد اسمها ليبيا، شخصيتها التي تجمع أهلها موجودة منذ زمن قديم (ولم تتحدد مثلاً كما يدعي البعض بسبب الاحتلال الإيطالي)، وهذا الكيان لديه ما يربطه ويجمع أهله أكثر مما لديه ما يفرقه. إن الفكرة الأولى هي بكل وضوح: وحدة ليبيا والليبيين ليست شيئاً مستحيلاً خيالياً، رغم أنف كل المستشرقين الذين لم يحللوا حقيقة الكيان الليبي، وإنما حللوا ظروف احتلال واستيطان طارئة وعابرة – دراسة تصرفات حيوانٍ ما في قفص لن تؤدي إلى نفس نتائج دراسة تصرفات حيوان طليق في البراري. أظن أن هنالك فرصة للمزاح حول هذا التشبيه بالحيوانات.. لكن لن أستغلها.

الآن، وبعد هذه الفكرة الأولى (شديدة التفاؤل!)، ينطلق الأستاذ عبدالله القويري نحو فكرته الثانية في الكتاب: التطور.

الخطوة الأولى

الأستاذ عبدالله القويري ينطلق نحو واقع المجتمع الليبي وتطوره. وهو يبدأ حديثه هذا بالحديث عن تطور التجمعات البشرية من تجمعات قلبية إلى تجمعات مدنية. الأفكار التي يقولها ليست جديدة، ولكنها تبقى مهمة لسببين: السبب الأول أننا مازلنا نتجاهلها مما يعني أنها مهما كانت قديمة فهي تبقى أفكاراً جديدة في غلافها البلاستيكي لم يفتحها أحد بعد! والسبب الثاني أنها أفكار صحيحة مائة بالمائة (على الأقل من وجهة نظري!).

إنها نفس المأساة التي مازلنا نعاني منها: هيا بنا نتطور بدون الأخذ بعين الاعتبار أننا يجب أن ننمو فعلاً. الأمر أشبه بأن تكون طفلاً صغيراً وتحاول ارتداء ملابس الكبار. هذا الأمر يؤدي إلى بالطبع إلى وجود فراغ ضخم. والأستاذ عبدالله هنا، في حديثه عن تطور المجتمع الليبي نحو المدنية، يقول بأن الانتقال فوراً إلى المرحلة المدينة، بدون المرور بمراحل النمو اللازمة، سيؤدي إلى خلق فراغ في النظام المدني يدفع بالناس إلى العودة إلى النظام القبلي – سوف تترك الملابس الواسعة، وتعود لملابسك القديمة، فأنت تعرف أنها على مقاسك.

ولذلك يقول الأستاذ عبدالله أن الشيء المهم الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند البدء في محاولة التطور هو: الواقع.

“الارتباط بالواقع هو البداية، وهو العلامة التي تشير إلى المستقبل، ولا يمكن أن يكون هناك تطور ما لم يكن هناك ارتباط بالواقع وفهم له”. (ص31)

كتاب (معنى الكيان)
كتاب (معنى الكيان)

ولكن الأستاذ عبدالله بلا شك لا يريد أن يعيش المجتمع في عزلة، ويمر بنفس مراحل التطور، أعني في هذا العصر يمكن تسريع عملية النمو، الأمر أشبه بالزراعة في صوبات وما إلى ذلك (ليست لدي خبرة كثيرة في هذه الموضوع لذلك ستكون تشبيهاتي سيئة!)، الفكرة هي أنك تستطيع الاستفادة من الخبرات والتجارب وتهيئة الظروف للنمو في وقت أسرع، فلا داعي لأن تمر بمئات السنين من السلطات الوثنية فالدينية، ثم الحروب الأهلية والإقطاعية، ثم الثورات، ثم تجرب الرأسمالية والديمقراطية، ثم تبدأ بمنح الحقوق، ثم حرب عالمية من نوعٍ ما، ثم تصل لمرحلة جيدة! افهم واقعك جيداً، ثم انظر حولك.

“إن الواقع في أي بلد أصبح لا يواجه أسسه فقط.. وما يترتب على هذه الأسس من أشكال.. ولكنه يواجه ذلك مضافاً إليه واقع العالم ككل، والتجارب الإنسانية والخبرات المتجمعة كحصيلة وتراث وفهم.. وما ذلك إلا لتشابك العالم وتحدد السمة النهائية كمرحلة أصبحت فيها البشرية لا يمكن أن تنفصل إلى وحدات أو أجزاء أو مناطق منعزلة تكون لها فيها تجارب خاصة”. (ص 39).

الاقتباس السابق أظن قد يكون لدي اعتراض عليه وهو يدور بالتحديد حول عبارة “تجارب خاصة”. بلا شك لا يمكن لأي منطقة أن تكون منعزلة عن العالم اليوم، بالعكس، فإن هذا الانفتاح الذي رافق ثورة وسائل الاتصالات والإنترنت هو دافع كبير للتطوير، الناس أصبحت لديهم ثقوب كثيرة في الجدران من حولهم ينظرون عبرها نحو العالم الآخر. ولكن اعتراضي الوحيد، وهو قد لا يكون اعتراضاً على كلام الأستاذ عبدالله وإنما فقط توسعاً في فكرة يذكرها، اعتراضي الوحيد هو نفي “التجربة الخاصة”.

التجربة لن تكون فريدة من نوعها، هذا لا شك فيه. ولكنها ستكون مميزة، وذلك لأنها يجب أن تراعي الواقع الخاص للكيان. إنه الصراع الأزلي للمفكرين المحشورين بين من يريد محاربة كل جديد والاستمرار في ممارسة مهنة التحنيط، وبين من يريد تدمير كل شيء قديم والاستمرار في مهنة الاستيراد. المفكرين المحشورين في الوسط (وأفكار عبدالله القويري هنا تبدو موافقة لهم) هم من يقولون: لا تحتفظ بكل شيء ولا تستورد كل شيء. يطالبون فقط بفهم “السوق”، إن جاز لنا التعبير، لاستيراد ما يحتاجه وما يساعده على التطور. بلا شك نحن نحتاج للتطور، ولكننا لا نستطيع استيراد “خلاصة” تجربة أخرى، وإنما نستطيع فقط استيراد ما يسمح لنا بإكمال تجربتنا في وقت سريع، لتكون لنا خلاصة تجربة خاصة بنا.

الأستاذ عبدالله القويري يدعو في فكرته الثانية للتخلص من جرد القبيلة، ولكنه يحذر من استيراد زي المدنية دون أخذ المقاييس المناسبة لنا. وهو يضرب هنا مثالاً بالنشاطات الحزبية التي تكونت قبل الاستقلال، والتي كانت في وجهة نظره ردة فعل سريعة عاطفية: “كانت قمة شعور عاطفي لم يجد أمامه إلا الشكل السياسي السريع كتعبير عنه، فأسرع يفرغ فيه شحناته وأمانيه الاجتماعية والسياسية”. ولكنه يوضح أن هذا التسرع العاطفي في تبني الشكل كان خالياً من المضمون، فهو لم يمر عبر مرحلة النمو اللازمة للنضج والتطور “فالأحزاب كانت كشكل بالمعنى العام شيئاً ناضجاً، وبالمعنى الخاص، أي بمعنى وجودها في ليبيا، شيء غير ناضج لتعبيره عن واقع غير ناضج” (ص40).

إن الأستاذ عبدالله يمهد الطريق الآن نحو تحديد الشروط اللازمة للعمل. وأول خطوة كانت “الارتباط بالواقع”، وفهم طبيعة المجتمع كقاعدة انطلاق. والخطوة التالية بلا شك ستكون العمل.

خطة العمل

بتفاؤل ليس غريباً على تلك المرحلة التأسيسية (وهو تفاؤل اختبرناه ما بين سنتي 2011-2012، وسرعان ما تحول إلى يأس أسود!)، يؤكد الأستاذ عبدالله أن الهيكل العام للعمل من أجل التطور هو “الوحدة الوطنية”، وهو يضع أربعة شروط للوحدة الوطنية، وهي شروط لا تتضمن شعارات “لا شرقية ولا غربية” أو “طرابلس العاصمة الأبدية” أو “يا بنغازي مش بروحك” وغير ذلك من مقولات نبصقها على بعضنا اليوم في ليبيا ونحن نتظاهر بأننا نؤمن بالوحدة، كلا، إن الأستاذ عبدالله القويري يُعرِّف الوحدة الوطنية عبر خطة عمل حقيقية، وهي خطة عمل تقع مسؤوليتها أولاً على الحكومة، ثم على كل مواطن.

الشروط الأربعة لخطة عمل الوحدة الوطنية التي وضعها الأستاذ عبدالله القويري، هي باختصار كما يلي:

1. الديمقراطية. وتعني النشاط الاقتصادي المتفتح، والمؤسسات الاجتماعية، وحرية التعبير، والشكل السياسي الذي يتفاعل مع الواقع، والتوعية المستمرة – تفاعل التناقضات للوصول إلى حل (وهو يقصد بالتناقضات الاعتراف بالواقع، بمعنى تفاعل الرغبة في التطور مع المجتمع المتخلف).

2. الفهم التام لواقعنا التاريخي والاجتماعي وموقعنا وعلاقاتنا، حيث أن الوضوح في ظروفنا هو الذي يستطيع أن يعطينا طريقاً للتطور. من جديد التركيز على الواقع الليبي، ومعرفة موقعك لكي تعرف ما هي الاتجاهات المتاحة لك لتتحرك فيها.

3.إفساح المجال للتحرك الاجتماعي، فإلى جانب نماذج التخلف توجد نماذج التقدم، وإلى جانب عمليات التمسك بالقديم يوجد التطلع، ولا بد من إفساح المجال للتفاهم الدائم المستمر والتفاعل الذي يمكن أن يحل التناقضات. وهذه النقطة توضح أكثر فكرة “تفاعل التناقضات” وهي فكرة مهمة جداً.

4. وأخيراً، إفساح المجال للمثقفين الذين يستطيعون تحليل تجاربنا و”إكساب الجذور الحقيقية للمجتمع ومشاكله وتطلعاته معناها”. كما يفعل الأستاذ عبدالله القويري في هذا الكتاب!

هذه الشروط (ص 47-48) توضح من جديد أن المبدأ الأساسي للعمل يجب أن ينطلق من فهم الواقع. الأستاذ عبدالله القويري لا يتوقف عن ذكر وتكرير ذلك، ويقول من جديد بأن “النشاط السياسي كقمة النشاط البشري، لا يمكن أن يؤدي دوره ما لم يكن منبثقاً من واقع البلاد الفعلي.. من واقع تخلفها إذا كانت متخلفة، ومن واقع تقدمها إذا كانت متقدمة.” (ص 50). وهنا مشكلة تجاهل الواقع، وانطلاق البلاد المتخلفة من واقع متقدم، أو تراجع البلاد المتقدمة من واقع متخلف.

إن خطة العمل تبدأ من فهم الواقع، وتوفير البيئة التي يمكن فيها فهم الواقع ويمكن فيها التفاعل مع الواقع. وهنا يبرز دور جديد مهم عبر سؤال: كيف سنفهم الواقع؟ والإجابة التي يقدمها الأستاذ عبدالله القويري هي: المثقف.

مسؤولية الثقافة

الأستاذ عبدالله القويري هنا يستخدم الثقافة بمعناها الفكري، أو بالأحرى في سياق الترجمة الدارجة لكلمة intellectual وintellectualism. لا يستخدمها بمعناها التراثي أو بمعناها الأدبي. وهذا التوضيح الذي لا يأتي بجديد، ويبدو وكأنه لا لزوم له أصلاً، هو توضيح أشعر بأنه لا بد منه، لأن هذه مدونتي في النهاية وأنا حر! كلا، ولكن أشعر بأنه لا بد منه لأنه دور المثقف/المفكر هنا هو دور أكثر جدية وأكثر حيوية من دور المثقف/الأديب مثلاً.

هذا الدور المهم يمكن اختصاره ببساطة في القول بأن المثقف يدرس ويحلل الواقع، يساهم في فهمنا له، وبالتالي يساهم في بلورة حلول لمشاكل الواقع وعقباته: “إن المثقف سيظل العلامة التي لا بد أن تستدل بها وتستدل عليها.. فهو حصيلة تفاعلات وتناقضات وإمكانيات.. هو بلورة نهائية لواقع الإنسان وطموحه.” (ص 51). هذا التعريف قد يبدو شخصياً قليلاً، أعني وكأن عبدالله القويري يريد الإشارة للمسؤولية الشخصية التي تقع على عاتق كل إنسان لتطوير نفسه. ولكن أظن أنه يقول ذلك في سياق فرض الكفاية، أن البلاد تحتاج لمجموعة من الرجال والنساء الذين يبلورون أنفسهم لدرجة تمكنهم من أداء المسؤولية المنوطة بالمثقف: تحليل وشرح الواقع. وبقية المواطنين عليهم بلورة أنفسهم للوصول إلى درجة تسمح لهم بالموافقة أو المعارضة على هذا التحليل، لا فقط الوقوف في طوابير أمام المثقفين لاستلام أفكارهم وكأنهم في طابور في مخبز!

إن دور المثقف، أو بالأحرى حاجة البلاد للمثقفين، يزيد من توضيحها عبدالله القويري في مقاطع تبدو متأثرة بالصدامات الكثيرة التي وقعت في مرحلة الاستقلال وما بعدها بين المثقفين وبين الجهات الحكومية والسياسية والقيادية:

“واجهت بعض الدول المتخلفة قلةً في المثقفين، وواجهت دول أخرى ندرتهم، ولكنها كانت دائماً تبحث عن المثقف خلال أجهزتها..

ولم يكن البحث كبحث ديوجين بواسطة مصباح.. لا.. كان البحث من خلال العمل والحركة.. كان البحث بواسطة الظروف دائماً.. لكل عنصر يعمل ويوجه خلال الإطار الوطني.. فمن خلال العمل تبرز إمكانيات المثقف ودوره وفعاليته..

لم تواجه الدول تخلفها وقلة المثقفين فيها بعوامل الشك والاتهام.. بل واجهت ذلك بفتح المجال، وفتح الظروف أمام كل العناصر.. ذلك أن الموقف الجامد يؤدي في نهاية الأمر إلى جمود الشكل أمام أية ضربة..

إن عامل الشك الذي تواجه الدولة به المثقف، يترتب عليه أن يواجهها هو بعدم الثقة والشك، وتبادل الشك وعدم الثقة هو الانتهاء لكل معنى.. ولكل محاولة للعمل”. (ص51)

الصدام بين المثقف والسلطة واضح، بل بين المثقف والمجتمع كله، واستخدام القويري لكمة “الدولة” استخدام أشعر بأنه مناسب تماماً لبيان أن المثقف لن يصارع السلطة وحسب ولكن سيصارع  أيضاً المجتمع. وهذا الصراع لن يؤدي لشيء سوى إيقاف العمل، العمل الذي يود عبدالله القويري أن يبدأ ويستمر، سوف يتوقف – تماماً كما يحدث حين تضايقك سيارة في الطريق، وتتقاذفان الشتائم عبر النافذة، ثم تركنان السيارة وتنزلان للصراع في الشارع. لقد توقفتما. ولكن هنالك مشكلة في هذا التشبيه… وهي أن في نهاية الصراع أحدكما سوف يصعد في سيارته وينطلق مكملاً مسيرته بعد أن يكون قد هشم رأس الآخر. طبعاً اليوم في ليبيا لن يحدث أي شيء من هذا، فبعد ثاني شتيمة سيسحب أحد السائقين مسدساً أو كلاشنكوفاً وتنهي القصة. ولكن نعود للمشكلة التي ظهرت في هذا التشبيه: إذا كانت نهاية الصراع هي استمرار أحد الطرفين في إكمال مسيرته، ألا يعني هذا أن الصراع قد يكون ضرورياً؟ والإجابة هنا هي في لفت الانتباه إلى أن كلمة “صراع” سوف تعني انتصار الأقوى وليس الأفضل (صراع من يسحب مسدساً الأول!)، أما إفساح المجال للعمال وللتفاعل، فهذا سيعني أن الطرفين سوف يتوصلان إلى أفضل حل يسمح للاثنين بالمضي قدماً. لا أعلم إن كانت الفكرة قد وضحت، ولكن باختصار: العمل حلو، الصراع شين.

وبالعودة إلى الكتاب وعبدالله القويري ودور المثقف، فإن عبدالله القويري هنا لا ينصح “الدولة” بإعطاء فرصة للمثقفين ومنحهم الثقة وينسى أن ينصح المثقفين أيضاً. كلا، بل إن القويري يجمع الاثنين أولاً، فيتحدث عن ضرورة منح الفرصة للمثقف، وضرورة عمل المثقف وتواصله مع واقعه، وهو يعبر عن ذلك بذكر مشكلة تصيب الكثير من المثقفين: “إن آفة المثقف الأزلية هي الفكرية المنعزلة التي تتولد كنتيجة للإحساس بالاستعلاء.. ولذلك كان إتاحة المجال دائماً للمثقف هو العامل الأول والأساس لربطه بواقعه وجعل أفكاره ومثاليته تتكون من خلال الواقع.. تتطور بالواقع ومن أجله.” (ص 52). إن هذه العزلة (أو الاستعلاء) التي تصيب المثقف قد تنتج ببساطة من خسارة المثقف الصراع مع الدولة (السلطة والمجتمع)، وهي تقذفه بعيداً عن الواقع. وعبدالله القويري يستنكر ذلك، ويطالب الدولة بمنح فرصة للمثقف، ويطالب المثقف أيضاً بالتفاعل مع الواقع.

ثم ينتقل عبدالله القويري، بكل تفاؤل ومثالية، إلى إسداء العديد من النصائح للمثقف، وهي (بالرغم من تفاؤلها الشديد) نصائح قيمة بلا شك وفي الحقيقة هي توفر إطار عمل مختصر للمثقف:

“إن أهم ما يميز المثقف هو اهتمامه بواقع بلاده.. ودراسته في ضوء الظروف الطبيعية والتاريخية وعدم خضوعه.. أقصد المثقف.. للنظريات الغائمة والدعوات البعيدة عن الواقع. ولذلك كان هناك فرق كبير من المثقف الأكاديمي والمثقف الذي يعيش الحياة ويعمل من أجلها في ضوء الإطار الوطني المتحقق.

كما أن فرقاً كبيراً يوجد بين المثقف الدارس للنظريات ودقائقها وتاريخها والمثقف العملي الذي قد يستفيد من بعض النظريات، ولكنه لا يخضع لأشكالها الكلاسيكية، بل دائماً أمامه الواقع الحي وتاريخ وطنه وفهمه الموضوعي لمشاكله.

إلا أنه قد تواجدت ظروف كثيرة، ويمكن أن تتواجد لتعيق المثقف من أداء دوره بالنسبة لوطنه، واقعه، وتاريخه ومستقبله، كما أن المجالات التي توجد قد يجدها المثقف غير كافية للعمل.. وينظر إلى العمل، عمله من أجل وطنه، على أنه أمر لا يمكن تحققه إلا من خلال شكل سياسي معين.

وهذه نظرة ضيقة، إذ هي في جوهرها طموح وليست تضحية.. ودور المثقف يجب أن يكون تضحية مستمرة من أجل فهم الواقع وإثرائه وتقديم الأساليب التي يستطيع بها المجتمع من تجاوز مراحل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والفكري. إن عمل المثقف سيكون هو العمل من أجل كل الناس، وهذه كلمة مفهومة في ضوء الواقع، وليس شعاراً..

إن النظرة الضيقة بالنسبة لواقعنا قد تعيقه، ولكن النظرة الشمولية ستثريه.. إن روح المثقف يجب أن لا تكون روح سياسي يتكنك على مستوى الجهاز والسلطة.” (ص54)

هل يمكن للمرء اليوم أن يقول بأن واجب المثقف هو التضحية دون أن يضحك؟ لا أظن ذلك، أعني لا أظن أننا يمكننا أن نقول ذلك بجدية اليوم مع كل التشاؤم والخيبات واليأس ويا إلهي إنني لا أستطيع حتى أن أتحدث عن مدى فظاعة التفاؤل في عالم اليوم.

سأقول شيئاً بسرعة لأن هذا التلخيص للكتاب قد انتهى وأريد الانتقال للفكرة التي أريدها أنا من الكتابة. لا أعلم بالضبط لماذا لخصت الكتاب أصلاً! الشيء السريع هو: الواقع من جديد. المثقف يجب أن يضحي باستمرار من أجل فهم الواقع. المثقف يجب أن يرتبط بالواقع. المثقف يجب أن ينطلق من الواقع. إن عبدالله القويري كان مهووساً بالواقع في هذا الكتاب. وهو هوس له تبريره، سواءً في تلك المرحلة التأسيسية التي شهدت صراع التخلف والتقدم والجمود الحضاري والاستيراد الحضاري وإلى آخر ذلك، أو في عصرنا الحالي الذي يشهد انهيارات شديدة تعود بنا لمرحلة ما قبل الدولة المدنية.

وهذا ما كنت ألف وأدور للوصول إليه…

مازلنا.. مازلنا…

ما هو تقييمي لهذا الكتاب؟ تقييمي له أنه كتاب جيد. الأستاذ عبدالله القويري يلف ويدور كثيراً في النصف الأول من الكتاب ويكاد يتحدث عن بديهيات، ولكنه يفعل ذلك بأسلوب علمي وعقلاني مدهش بالنظر إلى الفترة الزمنية التي كُتب فيها الكتاب (والموقع الجغرافي البائس أيضاً!). النصف الثاني من الكتاب تكمن فيه أهمية أكبر، الحديث عن ضرورة تطور المجتمع ونموه لكي لا تكون لديه أشكال مدنية وسياسية فارغة من المضمون، والحديث عن دور المثقف ومسؤوليته ومسؤولية الدولة تجاهه. وبالأخص الفكرة التي لا يمل الأستاذ عبدالله القويري من تكرارها: فهم الواقع، والانطلاق من الواقع. ولكن هذه الأهمية الكبيرة المرتبطة بالنصف الثاني من الكتاب ينتقص منها حجم الكتاب، وسرعة مرور الأستاذ عبدالله القويري على هذه المواضيع، في مناورة كلاسيكية لوصف المشكلة والحديث عن الحل دون الحل فعلاً (كأن تقول بأن ناتج هذه المعادلة خطأ، والناتج الصحيح هو كذا، لكن لا تحل المعادلة. كيف توصلت للناتج الصحيح!).

وبالتالي، إن أردنا تطبيق معياري في تقييم الكتب، والذي أشعر أنه بدأ يتبلور، فسوف أقول: لم أندم على قراءة الكتاب، بل على العكس تعرفتُ على الأستاذ عبدالله القويري وعلى عقليته الفذة. قد أنصح بقراءة الكتاب لمن يرغب في التعرف على عبدالله القويري وعقليته أو بالتعرف على المشاكل الفكرية التي كانت تشغل المثقفين في تلك الفترة، أما فيما يخص الأفكار الواردة في الكتاب فهي مهمة بالفعل لكن هي إما تلف وتدور كثيراً أو مختصرة كثيراً، وهي كما ذكرت ليست جديدة (فنحن نكررها ونعيدها منذ ما يقارب 68 سنة!)، وفي كل الحالات فهي متفائلة أكثر مما يجب! لذلك في الأغلب التوصية بالكتاب ستكون للتعرف على عبدالله القويري أكثر من كونها للاطلاع على الأفكار الواردة في الكتاب. هل يمكنني أن أُهدي هذا الكتاب لأحد ما؟ لا أظن ذلك، إلا إذا كان هذا الشخص معجباً كبيراً بعبدالله القويري ويجمع كتبه!

إنه مما لا شك فيه أن الأفكار الواردة في الكتاب مهمة، وإلا لما كنتُ سأجد نفسي أكتب ملخصاً للكتاب! ولكن.. آه، لكن المأساة هي أن يكون هذا الكتاب مكتوباً في الخمسينيات (على الأغلب). فهو بلا شك بعد الاستقلال. المأساة أن يكون مكتوباً منذ حوالي 60 سنة، ونكون نحن مازلنا في حاجة له وللأفكار الواردة فيه!

مازلنا في مرحلة التأسيس، مازلنا في مرحلة الدولة الوليدة… حسناً، هذا وصف متفائل حقاً، ولكنني أعني فقط أننا مازلنا في مرحلة الحاجة الماسة للتعلم والفهم. لقد قطعت البلاد شوطاً كبيراً في 18 سنة أثناء العهد الملكي. ثم جاء القذافي وعاد بالبلاد إلى الوراء، ثم أمسك البلاد من رقبتها على مدى 42 فوق الهاوية. وجاءت سنة 2011، وأفلتت البلاد من قبضة القذافي، تمسكت بالحافة بأظافرها لكي تتفادي السقوط.. ولكنها سقطت. لقد ركلناها في وجهها وهي تحاول الصعود من الحافة والنجاة من الهاوية. واليوم أصبحنا نُسمي ليبيا: الهاوية.

مازلنا نحتاج لمن يحاول إقناعنا بأننا بلاد واحدة ولا داعي لتقسيمنا إلى بوادي وحضور وشرق وغرب وجنوب وعرب وطوارق وتبو وأمازيغ وثوار وأزلام وإسلاميين وعلمانيين ومجانين ومجانين (لا يوجد تقسيم في العقل، الشيء الوحيد الذي نتفق جميعاً عليه هو أننا فقدنا عقولنا في ليبيا…).

مازلنا نحتاج لمن يفهمنا بأن الانتقال من القبيلة إلى المدينة شيء ضروري، ولكنه شيء يجب أن يحدث طبيعياً، عضوياً، حيوياً، يجب أن يحدث بالنمو الطبيعي للمجتمعات، يجب أن يحدث بمراعاة الواقع.

مازلنا نحتاج لمن يوضح لنا أن العمل السياسي يجب أن ينطلق من الواقع ويعبر عن الواقع، لا أن يندفع نحو الأمام راكضاً بسرعة من قبل حتى أن تطلق صافرة البداية ويبدأ السباق، ومن قبل حتى أن يُبنى مسار للسباق!

مازلنا نحتاج لمن يستجدينا بأن نسمح للمثقفين بالعمل، ونسمح للآراء بأن تتفاعل.

مازلنا نحتاج لمن يُحدثنا عن الفرق بين التضحية والطموح.

مازلنا في نفس المكان… لقد عدنا إلى نفس المكان الذي كان أجدادنا وأهلنا يقفون فيه منذ 60 سنة. عدنا إليه سنة 2011، وبقينا هناك. التصقنا هناك. نموت ببطء هناك. مازلنا هناك…

يا إلهي كم تحولت هذه الكتابة إلى شيء بالغ الكآبة… ولكن لا شيء جديد في ذلك، فهذا حال ليبيا…

5 أبريل 2017

مقالات ذات علاقة

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

المشرف العام

قراءة في تجربة حسين بن قرين درمشاكي القصصية

المشرف العام

انتعاشةُ كتابةِ اليوميات في ليبيا

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق