[ يتمدد في الفراغ، و يضرب جذوره في الهشاشة. يتخذ ثمره، عندما ينضج، لون البشرة الملتهبة، لما تنطوي عليه جوانحه من سم و مرارة، و لا ينفتح إلا إذا ديس عليه. كما أنه لا يستفاد منه إلا بالمداورة والتحايل.]
[ لا ] يدري لماذا أخذ الحنظل، منذ سنوات مديدات، يخطر على باله (أو، ربما، كان باله هو الذي أخذ يستدعيه) كثيرا.
والحنظل نبات مداد، ينمو في التربة الرملية، ويدفع بجذوره نحو الماء ، لذا يرى في الصيف شديد الخضرة، و :” … كلما ازداد ريا ازداد مرارة”، كما يقول المثل، وتضخما. ثمره بالغ المرارة لا يعرف أمر منه (حتى ليقال في التعابير الجارية” أمر من الحنظل” عن الأمور والحالات التي يتجاوز عنتها وإضناكها حدود المعقول) و يصير لونه، في ذروة نضجه، أصفر ضاربا إلى البرتقالي ولا ينفتح من تلقاء نفسه.
ولكنه يتشبه بالنباتات التي تغل فواكه وبثمارها. فالهيئة الخارجية لثماره تشابه الدلاع، ويمكن أن يقارب حجمها حجم ثمار البرتقال المعروف بـ” بوسرة” وثمار الرمان وبعض أنواع الشمام(وكلها يمكن أن تشبه بها بعض أنواع النهود، ولا يجوز، طبعا، تشبيه النهود بالحنظل). وتشابه أوراقه، إلى حد ما، أوراق العنب. لهذا السبب يطلق عليه البعض، إلى جانب أسمائه العديدة الأخرى، التفاح المر والخيار المر والدلاع الوحشي أو المر ودلاع الحمير وقثاء الحمار، ولا أفهم لماذا ينسب إلى الحمير، لكن، أغلب ظني، أنه نتيجة الاعتقاد بأن الحمير، لشدة غبائها، قد تحسب الحنظل دلاعا أو قثاء، وليس لأن الحمير تتغذى عليه لأن الحيوانات، بسبب سميته العالية، لا تأكله. حتى الجمال، التي تأكل شوك القتاد، تمرض منه إذا أكلته نتيجة خطأ، فيقال: حظل البعير، إذا أكل الحنظل ومرض. ويعتقد أن الغزال يأكله، ومن هنا التعبير الشعبي:”الحنظل ماكلة الغزال”، لكنه، في الواقع، لا يأكل منه سوى الأزهار. الحيوان الوحيد الذي يأكله هو نوع من الجرذان.
– ما حكايتك مع الحنظل؟.
يسأله البعض.
فعلا ما حكايته مع الحنظل؟.
الغريب أنه ليس له مع الحنظل، بحد ذاته، حكاية متميزة يمكن أن تحكى. وعلاقته به دون المستوى العادي، إذ أنه ليس من المهتمين بشؤون النبات. وهو لم ير الحنظل منذ أن كان طفلا، وحتى في تلك الفترة لم يكن يصادفه كثيرا.
ومع ذلك صار الحنظل يأخذ بمجامع تفكيره ويلاحقه حتى في المنام: الشوارع يستقر على جانبيها الحنظل متألقا تحت وهج الشمس أو الضوء، أو يقبع منطويا مستجيبا لمعطيات الظل أو العتمة. أو يتدحرج مسابقا الأقدام والعجلات ومزاحما لها. كما أن الناس الذين يشاهدهم متحنظلون. فوجوه الرجال وأجسادهم وكذلك ملابسهم بلون الحنظل، ووجوه النساء تأحذ شكل الحنظل ولونه.. جدائلهن تتدلى متخذة شكل فروعه.. عيونهن خضراء بلون شحم الحنظل أو بنية فاتحة بلون بذوره.. وإذ يتعرين يكشفن عن حنظل معلق بصدورهن وقسم من حنظلة مكفي بين أفخاذهن يتوسطه شق يفتر عن ابتسامة خفيفة ترشح ترفعا ونكاية، أو ينقبض في وجوم[قال: رضينا بالحنظل، لكن الحنظل لم يرض بنا]. البيت يمتليء بالحنظل، وفوق السرير وتحته تتمدد نباتات الحنظل، تزدهي أوراقها وأزهارها وتستريح ثمارها.
تقول زوجته:
– الغداء اليوم حنظل.
أو تأتيه بكأس طافحة قائلة:
– هذه كأس حضرتها لك من روح الحنظل.
فكر، من شدة سيطرة الحنظل على كيانه، في إهداء تعابير جديدة للغة العربية مدارها الحنظل. كالقول: ما هذه الحنظلية؟. إذا كان القصد التشدد في معاملة الناس والتصعيب عليهم دون مبرر يقبله العقل السليم. أو القول: رجل[ أو شخص، بحيث يشمل المذكر والمؤنث] متحنظل. إذا كان المعنى أنه سيء الطباع مناكد يتعمد التضييق على من هم في مجال تأثيره. أما إذا أريد وصف شخص بلغت به صعوبة الحياة وبلغ ضيقه منها مبلغا بعيدا، فيقال عنه بأنه: محظول.
و ما زال يعمل على هذا المشروع.
***
قالت زوجتي:
– صرت كثير الكلام عن الحنظل، هذه الأيام، وأراك تقرأ عنه كثيرا، فما حكايتك مع الحنظل.
– أنوي كتابة قصة، البطولة فيها للحنظل.
فردت:
– ولماذا لا تكتب عن البصل؟. يبدو لي أن الكتابة عن البصل أسهل، لأنه معروف ومتداول، وتؤدي نفس الغرض.
لم أدر ما هو” نفس الغرض” الذي عنته. وبما أن “غرضها نفسه” بدا لي، من شيء في نبرة صوتها وتعابير عينيها وملامحها، مبطنا وغير بريء، لم أشأ أن أستوضحها، خشية أن أطأ على لغم عنقودي، قريب من السطح، بالغ الحساسية وشديد الانفجار، أو ألمس منها عصبا عاريا فينهمر عليَّ ما لا يرضيني. لذا آثرت أن أطلق بالونا حراريا يحرف رميتها ويشوش عليها:
– أبدأ الآن بالحنظل. ويمكن أن أكتب، لاحقا، عن البصل و، حتى، عن الثوم والكراث.
– سيكون ذلك تطورا يبشر بالخير. لأنك ستنتقل من الكتابة عما لا يؤكل، إلى الكتابة عما يؤكل.
***
و، بسبب سميته العالية، يحدث الحنظل الأخضر إسهالا وقيئا شديدين ويكرب التنفس حتى ربما قتل، مثلما يقول ابن سينا. كما أنه يؤدي إلى الإجهاض.
ومع ذلك يحتال عليه البعض فيتخذون منه طعاما.
وهذا ما يعبر عنه المثل الشعبي:” قالِّه: شن لزك ع المر؟. قالِّه: إلِّي أمر منه.”. فخطر الجوع يدفع إلى ابتداع طعام من الحنظل. فعلى سبيل المثال يصنع منه التبو والقرعان، بجنوب ليبيا، أكلة تسمى( عبرا)، و ذلك بغلي بذوره حتى تزول مرارتها، ثم تسحق بعد ذلك مع الجراد ويعجن الخليط مع التمر. وما زال أهل نجد إلى اليوم يحافظون على عادة عربية قديمة فيصنعون طعاما من بذور الحنظل التي يسمونها الهبيد. فينقعونه بالماء والملح ويضعونه في الشمس ويظلون يبدلون ماءه كل حين حتى تذهب مرارته، ثم يدقونه ويضيفون إليه طحينا وتعمل منه عصيدة. ولا يؤكل إلا في حالة الجوع لأنه يسبب، عند الإكثار منه، إسهالا.
وتقطيع الحنظل الطري لإخراج الهبيد منه يحرق أطراف الأصابع ويجعل العين تدمع والأنف يرشح.
***
قالت زوجتي:
– تضع ثمرات وغصن حنظل على مكتبك حين تكتب قصة عن الحنظل. فكيف سيكون الحال لو خطر لك كتابة رواية تدور بين أوساط البغايا؟!.
– لا تخافي. لن أحضرهن إلى البيت.
ثم:
– أذهب أنا للإقامة معهن.
حدجتني بنظرة نارية وهي تنسحب فارة من ضراوة المزحة:
– تفعلها والله.
لاحقها صوتي:
– من أجل منح البشرية عملا أدبيا راقيا.
***
تذكر أنه سمع من يقول بأنه لو داس إمرؤ وهو حاف على ثمرة حنظل وانفتحت تحت قدمه فإنه سيشعر بطعم المرارة في لسانه.
لماذا لا يجرب؟.
أحضر واحدة. نظف قدميه بعناية شديدة، ثم جاء بها. كان جسده يتشوك ونفسه تقشعر وتشمئز وهو يتخيل طعم المرارة وشدتها، وفكر في العدول عما بدا له لعبا صبيانيا حين أخذت نفسه تسأله لماذا يفعل ذلك ما دام ليس عالم نباتات أو مختصا في شؤون المرارة. فليترك أمر التحقق من ذلك للمختصين. لكنه أكد لنفسه أنه لا بأس لغير المختص من أن يتأكد من أمر ما، ثم أنه لا يتوقع أن تكون مرارة الحنظل المنطلقة من باطن القدم بتلك الشدة التي يخشى منها.
وضع الحنظلة تحت قدمه وهوى عليها بقوة مغمضا عينيه ضاغطا على أسنانه. سمع صوت انفثائها وأحس بالمادة الطرية الرطبة تحت قدمه وظل ينتظر سريانها في جسده ووصولها إلى لسانه.
لم يشعر بشيء.
انتظر أكثر. ضغط بقدمه على أشلاء الحنظلة، وانتظر.
لم يشعر بشيء.
قرر أن يعيد التجربة بشكل آخر.
أحضر كمية كبيرة من الحنظل. استغل خلو البيت من الزوجة والأطفال، فأزاح البساط الذي يفرش الردهة ليترك مساحة عارية فيها. ذهب واستحم. قطع كمية الحنظل. ألقى بالقطع على البلاط العاري. ثم أخذ يتمرغ بكامل جسده عليها، مثلما كان يفعل عندما كانوا يعاقبونه بالتمرغ في التدريب العسكري.
ولم يشعر بالمرارة على لسانه.
أخيرا، كان لا بد أن يتجرأ على تذوقه مباشرة.
ولم يشعر بطعم المرارة. كان طعما مائعا غير محدد.
تذكر بعدها بأيام أنه سمع، في طفولته، أباه يردد أنه إذا احتفظ الشخص بتمر في قبضته وفتح ثمرة حنظل بالدوس عليها بقدم حافية، ثم تذوق التمر، فسيجد طعمه شديد المرارة.
رأى أن هذه تجربة معقولة، لأن آثارها تعاين من خلال مادة وسيطة.
لم يجد التمر مرا.
لكنه وجده قد فقد حلاوته.
أثناء ذلك دخل عليه أحد أطفاله، فطلب منه أن يتذوق التمر الذي كان في قبضته. استجاب الطفل للطلب مستغربا، وما إن لامس التمر لسانه حتى رماه متأففا مشمئزا باصقا