قراءات

خلايا البوسيفي النائمة

(… نموذج صريح لجيل مختلف في هذه الأمة، يبتلع شئونها كالعلقم، يعاني في أعماقه مرارة الانتكاسات والانكسارات، وإن ظل يتطلع لانتصار حتمي قادم، يراه قريباً ويرونه بعيداً..)… هكذا يقدم الصحفي الراحل صلاح الدين حافظ مدير تحرير صحيفة “الأهرام” ونقيب الصحفيين المصريين والعرب الأستاذ محمود البوسيفي الذي يعد واحداً من أبرز كتاب الزوايا والمقال الصحفي في مسيرة الصحافة الليبية، ولعل زاويته الأسبوعية (من حدائق التراب) التي كانت تتزين بها الصفحة الأخيرة لصحيفة “الشط” أسبوعياً هي خير شاهد على اللغة المكثفة، والرؤية الثاقبة والمضمون الهادف المختزل، مع بعض السخرية اللاذعة الممتعة، أو وخزات الرمزية الذكية والعبارات النقدية المتهكمة بكلمات وحروف لا تفارق الاستغراق في الادهاش والاعجاب. وكذلك على نفس النهج كانت زاويته بصحيفة “أويا” التي اختار لها عنوان (وبعدين) وجعلها حوارية قصيرة باللهجة العامية ينسج فيها خياله دردشة تدور بين طرفين لمناقشة موضوع ما بمفردات غارقة في البساطة والاقناع قاصداً بها رمي حجر في مياه بركٍ محلية وطنية راكدة.

عن بوابة الوسط
عن بوابة الوسط

كل تلك الكتابات الجميلة لن نتمكن للأسف من الاستمتاع بالغوص فيها لتنشيط ذاكراتنا وبعث أحداثها وشخصياتها ومواقفها أو نقدها فنياً وموضوعياً، لأن الأستاذ محمود البوسيفي لم يتولى تجميعها ونشرها بين دفتي كتاب يتحفنا به مثلما أمتعنا بمقالاته في كتابيه (أبجدية الرمل) و(أمريكا التي نحب) وهذا الكتاب الثالث الجديد (خلايا نائمة) الصادر عن مجلة “المستقبل” خلال شهر “فبراير 2015” والذي جاء من نفس الجنس الأدبي الذي أبدع فيه وهو… المقال الصحفي الفكري والسياسي.

وكعادته في مغازلة وإثارة أحبته وقراء مقالاته الشيقة والمتميزة برشاقة القلم ورصانة الفكر وسحر الأسلوب اللغوي الرقيق جاءت (خلايا نائمة) بلا مقدمات أو استهلال يمهد لاستقبال واحد وثلاثين مقالة متنوعة ومتفاوتة المضمون والحجم تسلسلت في حوالي مائتي صفحة من الحجم المتوسط كالتالي (أبطال، الجنرال، النفخ في البالون المثقوب: تعليق على سيرة فبراير المزورة، الذئاب، السؤال، الشفرة، الفوضى المعمقة بالدماء، القتل، المتاهة، المحدلة، تخلف، حق العودة، حقبة، حوار الرصاص، دار الخلافة، الخلايا النائمة، دراما التاريخ، دعوة أخرى.. للقراءة، دعوة لقراءة ما لا يُقرأ، دعوة للضحك، شهقة الغريب، عقول في الغياب، علبة الهندسة، فائض العربدة، فوضى الخلافة، في المصطلح، في الهوية، فيلم أمريكي طويل، كراهية قديمة، نصال تتهشم على نصال، ولو صدقوا).

وعند محاولة تصنيف هذه المقالات وفق مضامينها نجد أن مقالين فقط منها يتعرضان مباشرة وبشكل صريح للشأن الليبي وهما (النفخ في البالون المثقوب: تعليق على سيرة فبراير المزورة) الذي يقع في أكثر من أربعين صفحة تشكل خمس إجمالي صفحات “خلايا نائمة” تقريباً، يتصدى فيه الأستاذ البوسيفي لما ورد في كتاب الصحفي الأستاذ إدريس المسماري حول ملابسات اعتقاله خلال انتفاضة شهر فبراير 2011 بمدينة بنغازي، ويعزز الأستاذ البوسيفي دفوع مقاله بشهادتين موثقتين، الأولى صوتية هاتفية للشاعر والدبلوماسي الأستاذ محمد الفقيه صالح، والثانية خطية مكتوبة بقلم الصحفي الأستاذ علي الرحيبي يؤكدان تفنيد الأستاذ البوسيفي لروايات المؤلف إدريس المسماري حول بعض الوقائع والبطولات والمؤامرات التي وصف الأستاذ البوسيفي معظمها بـ”الكذب البواح”. ورغم الإحساس بالجحود والنكران والظلم الذي تعرض له من قبل زميل مهنته ورفيق مشواره، وبكل المرارة والألم التي تفوح من مقاله نجده يختمه بنهاية لا يكتبها إلا البوسيفي الإنسان ذو القلب الياسميني المرهف، البوسيفي العاشق للمحبة والمسرة التي لا تتوقف أنياط قلبه عن عزف هتاف نشيدها الدائم “اللهم صل عالنبي”، والوفاء للعشرة والصداقة والأخوة، ملجماً بقوة وشجاعة نزعات نفسه البشرية الثأرية الغاضبة ليعلن بروحه المتسامحة (… ولكن يبقى في كل الأحوال التأكيد بأني لستُ نادماً -وأحسبُ أن أخي وصديقي علي الرحيبي كذلك- على ما قمنا به من جهد تجاه ضمان سلامة المسماري وإخراجه من التوقيف واحتضانه في بيوتنا كأخٍ وصديقٍ، فقد كان ذلك واجباً لابد أن نقوم به دون منة أو مزايدة).

أما المقال الثاني الذي يتناول فيه البوسيفي الشأن الليبي فقد جاء بعنوان (حوار الرصاص) وهو يستهله بتسميات وتوصيفات متعددة لما يجرى حالياً ومنذ سنوات في ليبيا الحبيبة: “الازمة الليبية”، “الفوضى الليبية”، “المسألة الليبية” تاركاً لقارئه أن يسمّيها بغير ذلك، معدداً ومتناولاً دور الاطراف المؤثرة في الحالة الليبية الراهنة (الفاعلون المحليون وارتباطهم بكفتي الفاعل الاجنبي “تركيا وقطر والسودان ومصر والجزائر”، الامم المتحدة، دول الجوار، الفاعل الفرنسي، مجموعة دول الساحل والصحراء، الامريكيون، أوروبا). والأستاذ البوسيفي لا يكتفي بالعرض والتشريح فقط بل في خاتمة مقاله يطرح سؤالاً تتوالد منه أسئلة عديدة متسلسلة لا يمكن لأي مهتم بمصير ليبيا إلا أن يتعاطى معها بكل تركيز وإيجابية، فهو يقول (.. والسؤال الآن: ماذا سيضيف حوار جينيف؟ وماالذي سوف يفرزه واقع ردود الفعل التي تواترت قبل وأثناء الانعقاد؟ كيف يمكن فهم أن يلتقى الليبيون عبر وسيط دولي وليس مباشرة؟ وما هي الأوراق التي يملكها كل طرف على مائدة الحوار عبر الأممي، وما هو دور الأمم المتحدة؟ وما هو دور الطرف الإقليمي، والطرف الممول لجماعات مناوئة للحكومة؟ ما هي الترتيبات التي سوف تنعكس على فشل الحوار؟ وهل سترفع أوروبا كما هددت يدها إذا “أهدرت ليبيا” فرصة جينيف؟ هل ستنسحب بعثة الأمم المتحدة من اللعبة وترك الليبيين للضباب؟). ولا يتوقف المقال عند التحليل والعرض والسؤال فحسب بل يقدم الأستاذ البوسيفي في نهايته تسعة عناوين رئيسية لحلول يقترحها مؤكداً بأنه (.. لن يختلف عليها إثنان من العقلاء..).

عدا هذين المقالين لا نجد حضوراً مباشراً أو صريحاً للشأن الليبي في إصدار الأستاذ محمود البوسيفي الجديد (خلايا نائمة) إلا في إطاره العربي الشمولي الذي يتميز فيه البوسيفي بانحيازه المطلق للتاريخ التليد للأمة العربية وعراقة مجدها وأهمية دورها الحضاري ومشاعل تنويرها للعالم في قرون الجهل والظلام، وثقته في مستقبلها الذي يؤمن بأنه سيشرق رغم كل الانكسارات والمؤامرات والدسائس التي تحاك على هذه الأمة العريقة، وهذا يؤكد ثبات موقفه عبر كل الفترات الزمنية مؤمناً ومتيقناً بأن (الدماء ستواصل تدفقها… وإن ذلك يحدث لأن أمريكا ترفض أن تفهم ما لا تريده) كما أشار في بعض كتاباته، وكذلك في رده على سؤال طرحته عليه منذ أكثر من عقدين من الزمن في حوار قصير على صفحات جريدة “الكلمة” التي كان يصدرها نادي الترسانة الرياضي الثقافي الاجتماعي ونشر بالعدد الخامس الصادر في شهر الكانون 1423 ميلادية (ديسمبر 1994) حين قال: (… ذات عصر سيطرت خيوط التتار على كافة السهول العربية .. دمرت عاصمة الخلافة بقصورها وبساتينها ومكتباتها، وانتهكت أعراض حرائرها، حتى ظن المؤرخون أن ما يحدث ليس سوى ما تشير إليه بوصلة الإنحدار في دائرة التاريخ. لا شك أن الصورة قاتمة والعرب في موقف ضعف حقيقي… لقد تم بيع أطفال الحجارة “آخر ورقة  ضغط عربية” بلا مقابل تقريباً، ويتم التفريط يومياً في مستقبل أطفالنا… هكذا!!! غير أن الأمم العظيمة ومن بينها أمتنا العربية قادرة دوماً على النهوض. ولا شك إطلاقاً في أنه لا ثبات على الأرض… التجدد الحي هو نشيد الأرض… وأعتقد أن العرب جديرون بموقع في إيقاع هذا النشيد… بمعنى أن الصحراء ذاتها ستكون ذات عصر بمثابة مخزن الكنوز… نحن من يملك سر الصحراء.).

وبشكل عام فإن الأستاذ البوسيفي يتفنن بامتياز في تطريز وتأثيت مقالاته الرائعة بالعديد من الاحصائيات والمعلومات وشواهد التاريخ خلال مقدماته الشيقة طالت أم قصرت، والتي هي بالتأكيد كما يعتبرها الصحفي الامريكي المخضرم “باري نيومان” صاحب التجربة الصحفية الواسعة والمقالات العالمية المشهورة على الصفحة الأولى لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، خلال أكثر من أربعين عاماً، بأن سر نجاح الصحفي يكمن في أن تقود مقدمة مقاله إلى الفقرة الثانية بانسيابية وجاذبية. وهذا ما يبدعه فعلاً الأستاذ محمود البوسيفي في مقالاته المختلفة التي تملك جاذبية المغناطيس لفكر ووجدان القاريء بكل هدوء ووله، وبنهم لا يعرف الرتابة أو الملل لمواصلة قراءتها والابحار فيها إلى فضاءات شاسعة ومعارف عديدة متنوعة. وهذه المقالات جديرة بأن يعتمدها قسم الصحافة في كلية الفنون والاعلام كنماذج تطبيقية للدراسة المنهجية، وتحليلها وفق المعايير العلمية البحثيه الاكاديمية، لأنها في اعتقادي تمنح الدارس فرصتين: الأولى هي التعرف على تنوع العملية المهنية الابداعية في إنتاج وكتابة المقال الصحفي… والثانية إثراء المخزون المعرفي الثقافي والارتقاء بالذائقة الفنية.

وبالنسبة لمنهجية مقالات الأستاذ محمود البوسيفي فإنه يمكن القول بأنها تتأسس على مجموعة من الثوابت الفكرية التي ظل ملتزماً بها، ووفياً لها، طوال عهده بالكتابة الصحفية. وهي جوانب لا يمكن إغفال أهميتها في محافظة هذه المقالات على استمرارها وتطورها بنسق تصاعدي موحد، في نفس الاتجاه الفكري الثابت والمباديء الصلبة طوال عقود، وعبر أزمنة واجهت الكثير من التغيرات والتقلبات. ولعل أبرز هذه الأسس التي تشكل منهجيته في الكتابة الصحفية هو ما أفصح عنه الأستاذ البوسيفي في افتتاحية العدد 59 لمجلة “المؤتمر” الصادر في يناير 2007 والتي كان يرأس تحريرها حين كتب (.. ترتيب التفهم المشترك وأنسنة العلاقات بين العقل والوجدان من حسن التدبير، وهما دعوة لبناء الطمأنينة وتوافر الرضا في مواجهة تنطّع الجهل، الأب الشرعي للتطرف، وهو المسؤول الأول عن جميع الانكسارات التي عانت منها البشرية في ملحمة تعميرها للأرض. التوافق بين العقل والوجدان مسألة يستوجبها الإيمان باستمرار الحياة فوق الأرض.. وأي خلل في معادلة التوافق لن تقود كما تؤكد جميع شواهد التاريخ إلاّ إلى مصائب يمكن معرفة بدايتها لكن لا أحد بمن في ذلك “مافيا” التنجيم يملك القدرة على تحديد نهايتها.).

أما أبرز أهداف مقالات الأستاذ الصحفي محمود البوسيفي فهو استفزاز العقل العربي للنهوض، وإيقاظ النفس العربية من سباتها الطويل وذلك من خلال سرد لغوي متين ومتوازن يستنطق شواهد وأحداث التاريخ، فيجلد الذات حيناً، ويحفز الهمم الساكنة أحياناً بالثقة في القدرات العربية المبدعة الخلاقة وإدارة المحركات نحو دروب المستقبل الواعد لوطن يعشقه حتى النخاع. ولذلك فإن مقالاته تستمد قوتها بكونها وحدة واحدة متراصة كجدار صلب البنيان، من الصعب أن تقتبس أو تبتر أي جزء من أي مقال من مقالات البوسيفي، لأنها مترابطة ومتناغمة بين استهلال مقدمتها، وعمق متنها، وانسيابية خاتمتها، كالفاكهة الطازجة اللذيذة التي لا يمكنك التهامها إلا كاملة ودفعة واحدة بكل لذة وشغف واستمتاع واستفادة. ولعل ما يؤكد هذا مقاله السادس عشر (خلايا نائمة) الذي حمل نفس عنوان الكتاب وهو اختيار محفز ومشوق لمتابعة ما سطره الكاتب في هذا المقال وبقية المقالات الأخرى.

وقد استهل الأستاذ البوسيفي مقاله (خلايا نائمة) بمقدمة تعريفية كالتالي (يتردد مصطلح “الخلايا النائمة” في الآونة الاخيرة كثيراً في الأخبار والتقارير الصحفية فضلاً عن دخوله كمعطى في الأدب السياسي وكأنه استنطاق للمصطلح القديم “الطابور الخامس” الذي نحته الجنرال فرانكو آبان الحرب الأهلية في أسبانيا في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي. المصطلح يعني ببساطة جماعات يتم زرعها في أوساط الطرف الآخر بأوامر محددة ويتم تحريكها في أوقات ومواعيد تساعد هذا الطرف أو ذاك في التحريض والتهييج والتخريب إضافة إلى بث الشائعات وإثارة الفتن وصولاً إلى التحرك المسلح ولجأت جميع الأمم والجماعات المتصارعة عبر التاريخ إلى استخدام تلك الخلايا في تأمين المطلوب منها خدمة لأهداف من أرسلها وزرعها.).

وبعد أن يقدم اشتراطات ونماذج الخلايا النائمة ومعايير تجنيدها وعملياتها التخريبية العديدة مستحضرا شواهده عبر تاريخ ودور وكالة الاستخبارات الامريكية في زرع هذه السرطانات في كثير من دول العالم ينقلنا إلى جانب تدميري هو الأخطر تعمل الخلايا النائمة على ممارسته في حق الشعوب، وذلك حين يورد في نهاية مقاله واقعة يقول فيها (.. اكتشفت دولة في شرق أوروبا قبل سقوط الكتلة الشرقية أن أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم جاسوساً للمخابرات المركزية الامريكية وراعياً لخلايا نائمة .. في التحقيق كشف أن مهمته الوحيدة لم تكن تزويد الوكالة الاستخباراتية بالمعلومات ولكنها تنحصر فقط في عرقلة وصول أي شخصية ذات كفاءة لموقع مهم واختيار الأغبياء وشبه المعتوهين لتلك المواقع باعتبارهم أهل ثقة..).

لا شك أن الاستدلال بهذه الواقعة الصادمة له دلالة عميقة في الرسالة التي يود الأستاذ البوسيفي إبلاغها للقراء وهي أن واقع الحال الذي نعيشه في كثير من الدول العربية، وبلادنا على وجه الخصوص، وما وصلت إليه من تدني في كل المستويات، يؤكد عمل الخلايا النائمة بهذا الأسلوب الممنهج لاقصاء القدرات العربية لكي يبقى الوضع العربي المتردي على ما هو عليه أو يواصل انحداره نحو منزلقات أدنى وأسواء.

في الختام يظل الإصدار الجديد للأستاذ محمود البوسيفى “خلايا نائمة” يشكل إضافة ثرية للفكر المجادل بأسلوبه المشاكس الهاديء وعمق المضمون الذي يتبناه ويتأسس عليه، ولذلك فهو جدير بالمطالعة والاستفادة مما أورده في مقالاته الممتعة من أحداث ومواضيع وأفكار كثيرة ليس أقلها سيرة القائد الفيتنامي “جياب” ولا الصور المتعددة لشفرة “نظرية المؤامرة” وكذلك سياسة الطغيان الامريكي والهيمنة المستمرة. وفي هذا المقام لابد أن أختم بتهنئة الأستاذ محمود البوسيفي على هذا الكتاب الممتع على أمل أن يلتفت إلى تجميع ما تبعثر من مقالاته الأخرى في الزوايا والافتتاحيات العديدة التي أمتعنا بها ولعلنا نجدها بين دفتي كتاب في المستقبل القريب.

__________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

قراءة في رواية الكلب الذهبي

المشرف العام

الشر الذي لا يغتفر: محاكمة الاستعمار في ليبيا

المشرف العام

السلام على منصورة

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق