السلام على منصورة * .. قصة للأديب الراحل كامل حسن المقهور
توطئة:
“السلام على منصورة”… هذه إحدى قصص فارس القصة القصيرة الليبية الأديب الراحل كامل حسن المقهور، المنشورة في مجموعته (14 قصة من مدينتي). لقد شدني هذا العنوان بخصوصية هويته، وتميزه الدلالي، وجاذبية التواصل معه بكل جوارح الإنسان المفعم بالحب والوفاء… “السلام على منصورة”… أحسستُ أنه عنوانٌ يحمل رسالةَ سلامٍ ومحبة، وأحاسيس صادقة تنتشي بدفء المشاعر، ولهفة الأشواق، ورمزية المعنى. فمنصورة التي يُقرؤها الأستاذ الراحل كامل حسن المقهور سلامَه قد تكون امرأةً بعينها، زوجة أو حبيبة أو أماً أو عشيقة أو بطلةً صنعها من خياله الخلاب، وقد تكون أبعد من ذلك لتوحي بأنها موطناً عظيماً، وبلاداً أبية كريمة، اسمُها “ليبيا” عشقها حتى الثمالة، ونحن مثله نعشقُها ونقلقُ عليها وهي تئنُ من وجع وألم وأذى أولي القربى وأبناءها الأحبة. وعندما طالعني بين سطور هذه القصة إلحاحَه وتوسلَهِ المكرر، والمكلل بدرجة عالية من الاشتياق واللهفة وهو يقول مخاطباً (عاودلها يرحم والديك.. قوللها كيف حالك يا منصورة.. مشغول عليك يا منصورة) لم ترتسم في ذهني إلا صورةَ بلادي التي أحبَّها المبدعُ الراحل ونحبُّها جميعاً.. فله الرحمة، ولكم موفور الهناء في ظل ليبيا التي نطمح أن تكون.
ولعلنا ونحن في هذه الظروف القاسية التي تمر بها بلادنا الحبيبة، حيث العديد من الليبين المغتربين والمهجرين والمشردين تأكلهم سنوات الغربة القاسية، ويطوّح بهم الحنين والشوق لربوع الأهل وفضاءات ليبيا الرحبة بكل ما فيها من صور وسلوكيات سلبية وتردي المعاملات الخدمية، هم أقدر على قراءة “السلام على منصورة” بروح أعمق، والإحساس بما تتضمنه من شجن وأنين، والغوص في رسالتها الإبداعية، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يجمع الشمل ويداوي جراح بلادنا كلها.
أحببتُ نشر هذه القصة هنا لإتاحة الفرصة أمام الكثيرين للاطلاع عليها، وفاء لروح الأستاذ الراحل كامل حسن المقهور، وكذلك لتكون في متناول المهتمين بالأدب الليبي عامة، والقصة القصيرة الليبية على وجه الخصوص من خلال توثيقها في هذا الفضاء الالكتروني.
السلام على منصورة
– مشغول على منصورة!!
وابتسم الحارس الواقف على باب المستشفى وقال في لهجة رطبة وعيناه تتبعان الخارجين:
– نقزتها يا مبروك..
ثم أمسك بيده ورقة من ذات الخمسة قروش..
– حتى خدودك انتفخو… والله نزاد فيك النفص!
وابتسمتُ وأنا أضعُ في جيبي الورقة الحمراء.. والطريقُ المار أمام المستشفى يمتد أمام عيني… والبناء الضحم ورائي موحشاً ساكناً يعج بالأصدقاء، عشراتٌ منهم… كلهم يقولون… دائماً يقولون..
– كيف حال منصورة… يا مبروك!
وكان ذلك في الصيف.. في يوم الجمعة.. عندما أبتدأتُ أبحثُ في الطريق عن وجوه الناس.. وكانت تذكرني بالجميع.. بالصغار.. بفتحي.. بابتسامته الصغيرة.. بالحبوب فوق جبهته.. وهو ينظر إلي.. ويشير في شقاوة..
– بوي.. دمالتي فقــست!
الكبار.. وفي أيديهم قفة ملأى.. وأرجلهم تلامس الطريق في عجلة… الكبار يذكرونني بأيام العمل… بالعودة آخر النهار عندما أقطعُ شارعنا المترب.. وتقابلني جماعات الشاي.. وعندما أقول..
– السلام عليكم..
كانوا يعزمون عليّ… حتى أتركهم ورائي فيقول خبيثٌ..
– كيف حال منصورة يا مبروك..
وكنتُ دائماً مشغولاً على منصورة.. ولاح لي البحر.. والطريق المحاذي للشاطيء يعجُ بالسيارات.. وفي جيبي الورقة الحمراء.. والناس يذكرونني بالوجوه التي أعرفها وأحبها.. والنساء يخرجن من السينما فأذكر منصورة.
– زعما كيف حالك يا منصورة!
وتمر بي جماعات صغيرة.. وفراريشهن يلعب بها النسيم العليل من داخل البحر.. وابتسامات تحوط بهن.. والرجال والشباب ينظرون في اشتهاء.. وفي أعماقي.. من قلبي هاتف صغير..
– غير كيف حالك يا منصورة..!
وكانت هناك نساء سافرات.. وعلى وجوههن غلالات رفيعة سوداء.. ولكن وجوههن ظاهرة.. ولم تكن واحدة منهن بها وشام.. حتى لابسات الفراريش ليس لهن وشام.. ولكن منصورة بها وشام.. وشام أخضر كسنبلة القمح الصغيرة.. وعندما تضحك.. كان وشامها ينفرج.. ويتسع… ويدخل إلى قلبي.. فأعشق منصورة.. وكنتُ دائماً أحبُ منصورة.. لكن…
– يا ترى حية وإلاّ ميّتة يا منصورة..!
وكنتُ أحسُّ بالجوع.. وفي جيبي خمسة قروش.. والوجوه السائرة في الشوارع تذكرني بالوجوه التي أحبها.. وأعرفها.. وابتسامة صغيرة تذكرني بفتحي.. ومنصورة !…
– زعما قاعدة تعشقيني يا منصورة…
فبعد شهرين… شهرين في المستشفى.. كنتُ قد بعدتُ لأنني أبحثُ عن عمل.. في هذه المدينة الكبيرة.. وعندما ودعتني منصورة نظرت إلى عيني.. وقبلتها على وشامها.. فقالت…
– رد بالك من روحك يا مبروك..
وانهمرت عيناها بالدموع.. ومنذ شهرين لم أبعث بشيء.. إلاّ جواباً واحداً بدون رد.. ولم أحصل أبداً على عمل.. ولم أستطع أن أعيش أو أعود.. فقد وجدتُ الناس يبحثون عن أعمال.. الناس أكثر من الأعمال.. ومرضت.. وبعثتُ لها بخطاب من المستشفى..
– لكن ما ردتيش يا منصورة..
وانحدرت على خدي دمعة كبيرة وأنا أمر أمام المقهى.. وفي ركن منزو كان شابٌ صغير يجلسُ على منضدة كبيرة يكتب.. وفي جيبي خمسة قروش.. ووشام منصورة يلعب أمام عينيّ..
– السلام عليكم..
ونظر إليَّ ثم ابتسم.. وخفض عينه وقال..
– ربي.. ينوب!
ونظرتُ إليه.. ولاحظتُ أنه لا يمكن أن يخيب…
– بالله يا خوي فاضي شوية..
ونظر إليَّ مرة أخرى.. وكأنه لاحظ الدمعة التي تنحدر على خدي… فقال…
– علاش..
فقلتُ في ذلة..
– غير تكتب لي جواب..
قال لي وهو يفتح ورقة بيضاء أمام يديه…
– هيه.. قول… لشكون الجواب..
فتمهلتُ قليلاً ثم قلتُ..
– السلام على منصورة.. وقوللها كيف حالكم…
وابتسم.. ولم يكتب شيئاً… ثم قال…
– غير لشكون الجواب..
– لمنصورة… السلام على منصورة… وعاودها ثاني.. وقلها مشغول عليك.. وكان ينظر إليّ في عجب..
– باهي.. باهي… بعدين السلام..
ثم سكت قليلاً..
– بس نكتبه لشكون..
وكنتُ أحسُّ أنني ألمسها بيدي.. وأن شفتي فوق وشامها الأخضر…
– قلها مشغول عليك.. الليل والنهار بطوله وأنا نبكي..
وكان يخط أشياءً وعلى وجهه ابتسام..
– عاودها يرحم والديك.. قوللها كيف حالك يا منصورة… مشغول عليك يا منصورة… أنا ننشد وأنتِ لا يا منصورة.. و….
وأبتدأت دمعتان تأخذان طريقهما إلى عينيّ.. كنتُ أحسُّ أنه ينظر إلىَّ من تحت.. وأن يديه ترتعشان.. وأنه مثلي يعشق… ويحب… وأن قلبه الصغير يميل إليَّ…
– باهي.. باهي… وبعدين..
– غير سلّم عليها هلبة… وقللها أنا جاي…
وانحبس صوتي.. وأنا أعيد…
– والله مشغول عليك يا منصورة…
وقفل لي ظرفاً من عنده ثم قال…
– وين عنوانها… منصورة…
فقلتُ في عجلة…
– لا ما تكتبش اسمها فوق… عيب !…
ثم أمليتُ عليه اسم عمّي.. وعنوانه… وعندما سلمّني الجواب.. وقال لي…
– حط عليها بل بقرش..
انفسح أمامي الطريق.. وامتد خيطُ أمل على طول الشاطيء وهو ينظر إليَّ من تحت.. والجواب في يدي… وفي خاطري كلام كثير لم أقله لها.. ولكن.. فقط يكفي أنها ستعلم.. وأنني بعثُّ السلام إلى منصورة!
(*) من المجموعة القصصية (14 قصة من مدينتي)، سلسلة كتاب الشعب رقم 6، يونيو 1978، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا.
نشر بموقع ليبيا المستقبل