(يا زاير مداين الغير.. ومش عارف مداين بلادك..)
هذا التصريح.. كان يخزني.. حين أتذكر أنني لا أعرف واقعاً عن ليبيا غير طرابلس.. وبضعة مدن أخرى.. في الغالب مررت بها صدفة.
في العام 1991، ويبدو بعيداً قررت السفر إلى القاهرة براً.. الحافلة التي نهبت طريقاً معبداً ملتوياً لا ينتهي مر بمدن عدة كنت اسمع بها.. صغيرة كبيرة.. جميعها.. تقارب في هدوئها على الإغفاء.. ربما الإغماء.. نقطة مشتركة تجمع كل البلدات.. عشوائيتها.. وكأنها نبتت بين يوم وليلة وعلى عجل.
لم تكن الرحلة مريحة.. وبلادي الشاسعة.. تتسع للصحراء للجبال.. والبحر الماد.. ملحه بغرور لما يقرب الألفي كيلومتر.. ولكنها تضيق بفضولنا وحبنا ورغبتنا في المكوث.. لا فنادق.. لائقة.. لا استراحات طعام تحصل فيها على حاجتك بنظافة.. وليل العذاب في حافلة تنهب الوقت قبل الطريق نحو هدفها القاهرة.
صممت بعدها ألا اطيع أفكاري.. فبلاد الغير.. ترحب بنا بأناقة أكبر مرتبة الأماكن وابتسامات وأن كانت مكلفة.
الصدفة فقط كانت محطة مهمة.. لأعيد صلتي بليبيا عبر منطقة جديدة أوغل فيها.. لأجل إعادة رتق العلاقة مع الروح والقلب.. فكانت شحات.. البلدة المدهشة.. كبيرة.. هائلة.. وتتعثر بتاريخها عند أقدام الجبل حتى سوسة.. مرتفعاً إلى قمة رأسها.. حيث تضع عيونها على البيضاء.. سكون وسطها.. يحيط بعقلك.. ويسلمك طواعية إلى أحقاب تشهرها لوحاتها.. أحواض.. حمامات .. معابد.. أعمدة.. تناطح عوامل التعرية حيناً تنهزم تماثيلها.. وحيناً تقف بلا رؤوس.. ومرات أقدامها فقط تقول كنّا هنا.. !
كان عليّ.. أنا الملأى بهمومي وإحباطاتي.. أن أخضع للصمت العابق يتلف بقايا الكلام.. في رأس هلال المدهشة.. غاباتها المتدرجة وشلالاتها المصممة على الغوص فيها.. بعيداً لغور لا أدريه.. كنت هناك.. أحاول ارتقاء صخور الصوان السوداء المثقبة والماء الدافق يسيل فوقها فيسيل معها فرحي.. الطفولي.. ماء عذب بارد.. يدفق.. برغم صخبه يحفظ سره جيداً.. صافرة أطلقها.. حراس المكان.. إنسييون قطعوا على فريقنا الموله بالماء الحارسته أيضاً صخرات ملساء طحلبية تزحلقنا وتسقطنا ضاحكين حاذفين من فوق اكتافنا متاعبا وسنوات من عمرنا.. قطعوا كل مرحنا بالصافرة..خروج بالكرت الأحمر.. مصحوبين بخجلنا القليل ومتعة الشقاوة !
لم تسقط سعادتنا.. وغير أن المكان الساحر هذا.. اسقط في رأسي الهيام به.. حتى حدود الصراخ في أوديته.. أن حولني شجرة.. أو قطرة ماء.. تسهم في صنع معزوفة الهدير.
عمراً آخر.. لم أكن أريده.. أضافه الجبل الأخضر إليّ.. أفق آخر.. لم اتصوره.. سحب الشحوب وغمامات الكدر.. وصنع لي لبضع ساعات.. لبضع أيام.. كرسياً مهيباً تحت أنظار الحضارة.. والجمال زررني رهبة.. وزرع فيّ أمنية مستحيلة أن أغدو كهفاً.. أو في الأقل.. حجراً صغيراً في سفح الجبل.
______________________
صحيفة الجماهيرية.. العدد:3996.. التاريخ:15/05/2003