تساءلت الكاتبة: فدوى بن عامر؛ في مقالتها (مثقفونا) المنشورة ببوابة الوسط، 18 أبريل 2016، عن غياب المثقف الليبي من المشهد السياسي، وأحببت أن أتداخل معها في هذا الموضوع الذي سبق وأن تناولته في مقالات سابقة بأشكال عدة، ويظل السؤال التقليدي والمعقد دائما: من هو المثقف؟ ولكن من خلال المقالة المذكورة سنتفق مبدئيا على أن المقصود هنا بالمثقف هو الكاتب والمبدع المعروف عنه اهتمامه بالشأن العام عبر الكتابة، فلا وجود للمثقف بمفهومه العضوي الذي يسهم مباشرة في حراك المجتمع إلا عبر المجتمع المدني، بمعنى الانخراط في اتحادات أو روابط أو جمعيات ذات صلة، وهذا ما غاب غالبا في تاريخ ليبيا منذ تكونها تقريبا.
لكن المثقف؛ بمعنى الكاتب أو المبدع الذي له رأي تجاه واقعه ومجتمعه كان حاضرا وإن بشكل فردي، أو عبر مجموعات صغيرة (طبيعتها الرفقة الشخصية) بمعزل عن المؤسسة، ودفع المثقفون ثمنا باهظا منذ بداية الانقلاب؛ بين السجن والمنفى والتصفية المباشرة، ورغم ذلك ظل الكثير من المثقفين يدلون بآرائهم الجريئة والجذرية في الشأن الليبي، وعبر كل الأدوات من الكتابة إلى المسرح إلى التشكيل إلى إقامة العديد من المهرجانات المشاكسة التي اصطدمت مباشرة بحراس السلطة، والأرشيف الليبي زاخر بهذا الحراك، وبتاريخ المثقف الليبي منذ السعي إلى الاستقلال وتوحيد ليبيا وصولاً إلى قمة السلطة التنفيذية فترة الملكية متمثلة في شخص المثقف عبدالحميد البكوش؛ الذي كانت له استراتيجية خاصة بليبيا ذات طبيعية سياسية وثقافية في الوقت نفسه، مستلهما أهم عناصرها من مفكرين؛ مثل يوسف القويري، وعبدالله القويري، خصوصا فيما يتعلق بالهوية الليبية، وبتوطين العقل العلمي كمنهج لإدارة الدولة وتطوير المجتمع.
مثقفونا كلمة مطاطة، لأن المثقفين أنفسهم بعد الانقلاب انقسموا إلى مثقفي سلطة ومثقفين معارضين دفعوا الثمن، ولا يمكن أن نمحي صفة المثقف حتى على من كان طوع أمر السلطة، سواء قناعة بمشروعها أو تملقا لها. لكن كما ذكرت لا يمكن أن يكون للمثقفين بطيفهم الواسع دور مباشر في المجتمع إلا عبر المؤسسة، وأهم المؤسسات التي تجمع شمل المشغولين بالشأن الثقافي هي النقابات والجمعيات الأهلية ذات الاختصاص، خصوصاً اتحاد الكتاب والأدباء، ونقابة الصحفيين، ونقابة المحامين، التي عادة ما تشكل في مجملها المجال الحيوي والناقد لسياسات السلطة فيما يخص الحريات والحقوق والإدارة وتأسيس العقل الناقد. وذكرت هذه المنظمات المدنية لأنها ليست مهنية محضة، لكن طبيعة اختصاصها متقاطعة بشكل كبير مع السلطة، ومع السياسة، ومع احتياجات المجتمع المعنوية والثقافية.
فترة وجودي في طرابلس بداية عام 2012 حرصت مع زملاء على إعادة تشكيل اتحاد الكتاب والأدباء، وحتى لا نكون من المهووسين بالبدايات الصفرية اعتبرنا البداية من لحظة اقتحام مقر اتحاد الكتاب والأدباء الليبيين، بداية الألفية الثالثة، من قبل القوى الثورية، وعلى رأسهم أحمد إبراهيم، وتشميعه بالأحمر، ردا على إعادة هيكلته عام 2001 من قبل الجمعية العمومية، وتنظيم شروط العضوية فيه، وإكسابه بعض الاستقلالية، ومحاولة إقحامه في نقاش قضايا المجتمع وأزماته الراهنة، وأدى رفض عضوية بعض أعضاء اللجان الثورية، لأسباب فنية موضوعية، تتعلق بالقانون الأساسي، من قبل لجنة العضوية التي كان يرأسها الكاتب كامل عراب، إلى ردة فعل عنيفة تجاه الاتحاد وأعضائه.
سعينا للبداية من هذه المرحلة أو هذا الانقطاع، لكن لم نجد تعاونا من الكثير من الأعضاء، كما لم نجد جهة تمول اجتماع الجمعية العمومية في طرابلس لانتخاب رئيس وإدارة للاتحاد، ففي ذلك الوقت كان الجميع مشغولا بتشكيل الميليشيات المسخر لها كل الإمكانات.
سؤال المثقف سؤال شائك، ويتعلق بمجمل الحراك العربي الذي سمي ربيعا، ونعرف جيدا أنه لولا وجود منظمة مدنية عريقة في تونس، الاتحاد التونسي العام للشغل، لما تماثلت الانتفاضة التونسية إلى ما هي عليه اليوم ، ولولا وجود المؤسسة العسكرية في مصر لكان لمصر سيناريو مختلف تماما، وفي كلتا التجربتين لم يكن للمثقف حضور يذكر رغم الزخم الثقافي في هاتين الدولتين. ما بالك في انتفاضة أصبح الرصاص لغتها الوحيدة في مجتمع لم تترسخ فيه ثقافة العمل المدني. حين سئل أراغون لماذا توقفت عن الكتابة فترة الحرب؟ قال: لأن الكتابة؛ ضد أو مع الحرب، دعاية لها.
أما ما يخص القنوات الفضائية فلعبة التلفزيون القديمة، وفي كل مكان، أن تكون لكل قناة قائمة ثابتة من المتحدثين الدائمين، وعادة ما تخلو هذه القائمة من المثقفين الحقيقيين، لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا ما يوافق سياسة القناة، ولأن حديثهم عادة غير جذاب وخال من الإثارة التي من شأنها أن تزيد درجة الإقبال على القناة في حمى التنافس الشديد بين القنوات على درجات الأوديمز (نسبة الإقبال) والتي بدورها تجلب شركات الإعلان. هذا ينطبق على كل قنوات العالم حسب تحليل بيار بورديو في كتابه الهام (التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول) ما بالك بقنواتنا العربية التي مازالت تحبو في سوق الإعلام.
أما ما يخص السؤال الذي تعتبره الكاتبة” السؤال الأخطر، أهو قحط في المثقفين الليبيين ذاك الذي نعانيه أم تراه خيالي الجامح الذي زين لي وجودهم؟” فإجابته موجودة في أرشيف الثقافة الليبية المدون، وفي أرشيف المسرح الليبي الجاد، وفي أرشيف سجون الرأي، وفي أرشيف التصفيات الجسدية والمنفى.
ورغم ذلك كان المثقف يعرف فترة النظام السابق من أين يأتيه أمر الاعتقال أو من أين تأتيه الرصاصة أما اليوم فهو يسير في الشارع ويتلفت في كل اتجاه، وحين يدير مفتاح سيارته يتوقع انفجارها في أي وقت، وكل عابر بقربه مشروع قاتل كما حدث للعديد من المثقفين. القمع السائب والمنفلت؛ الذي يتحول مع الوقت إلى عصابة أشباح غير مرئية، مربك للمثقف ولغيره، فالمثقف الأصيل ينطلق من المفهوم الاجتماعي للقمع باعتبار من هم في السلطة مجرد نتاج لهذا المجال الكبير من ثقافة الاستبداد والإقصاء، ورسالته الأصيلة تفكيك هذه المنظومة الراسخة وليس التعامل مع آخر نتائجها.
_____________
نشر بموقع بوابة الوسط