المقالة

الكتابة الشرسة: موجـباتها واستحـقاقـاتها وحاضنتـها

 

“ولـّى الزمن الذي يُضحّي فيه المثقف بحياته، لأجل إسعاد الآخرين”.

هذا هو رأيي، والقادم لتفسيره:

الكتابة فعل تعبيري، وشراستها تبدو في مقارعتها للبغي، هذا أمر بديهي ومعروف، ولا يجهله المثقفون ولا العامة، غير أنّ هذا النمط من الكتابة، الذي يقف في وجه الباغي، متسلحاً بالوطنية ومحبة المواطنين، يحتاج إلى حاضنة تحميه وتؤازره، بمثل وقدر هذه المحبة التي يكنّها لوطنه، وقبل ذلك إلى المؤسسة القضائية، التي تـُفعّل حيثياته، وكذلك إلى مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، لتتبناه وترعاه من كيد الكائدين، ذلك أنّ فعل الكتابة، يُعبّر عن المجتمع بأسره، وليس سوى رأيٍّ شخصي، يُعبّر به الكاتب عن نفسه، ولأنّ الشراسة، التي تبدو في مفردات نصِّ كاتبها، هي من تُمثـّل العصيان المدني العصي، فالغرض منها أصلاً، هو تصحيح المسارات الضّالة والمُنحرفة، ووضع اليد على نقاط الخلل والاعوجاج، ليس هذا وكفى، بل وتذليل الصِّعاب إزاء المجتمع للوصول به إلى جادة الطريق، وكشف السوء عن الأخطاء، التي تعصف بحاضر البلاد ومستقبليها (القريب والبعيد) معاً، فعـِلة الماضي، تـُزمّن مرض الحاضر، وتـُفاقمُه في المستقبل، حال صيرورتها.

والكاتب ليس جهة اعتبارية (تشريعية أو تنفيذية) حتى يُخشى، من أنْ يُمرّر رأيه بفعل القانون الموجود، وإنما هو جرس إنذار وناقوس صحو، يتنبأ من دون وحي إلهي، ولا يدّعي النبوءة بالشيء، ولا يمارس الحقّ الإلهي، لكنه صاحب رؤية بعيدة وسؤدد وحصافة في الرأي.

لكنْ أنْ يتحوّل الكاتب إلى مجرم برأي الأنظمة، ويُلاحق بتهمة وطنيته، فهذا ما لا يصحّ في مجتمع متحضر، يهتم بمصلحة وأمن مواطنيه، فمهما يكـُن من شيءٍ، فهو في الأول والأخير مواطن، يجب أنْ يتمتع بحقوق مواطنته، فلمَ يُخشى من المثقف ؟ ولو تشرّست نصوصه، طالما أنه كتبها في عشق الوطن، وطالما إننا شركاء في وطن واحد، تهمنا مصلحته، ونسعى لرقيه وإصلاح شأن مواطنيه.

فالكاتب ليس مجنوناً، كما يعدّه البعض، وكما يحاول البعض الآخر، الذي له صالح في أنْ يُلصق هذه الصفة الخسيسة بالكتـّـاب، حتى يستهزئوا بنتجاتهم، أو لا يؤاخذونهم عليها، عملاً بالآية الكريمة “ليس على المريض حرج”.

أستغرب أنْ يُبدى الاهتمام المبالغ فيه – بالمبالغ المالية الطائلة التي تذهب هدراً – باللاعبين منذ نشأتهم الأولى، في حين، أنهم لا يقدرون على أنْ يُقدِّموا لنا سوى كأس مطلي بالذهب، أو قلادة صدئة، مكتوب عليها اسمه، ويحتفظ بها الواحد منهم في خزانته، وذلك في أحسن الأحوال، في حين، يُضيَّق الخناق على الكتّاب – وتـُكسّر أقلامهم – الذين لا يريدون لا جزاءً ولا شكوراً، اللهم إلا المصلحة العليا لوطنهم، أرضاً وشعباً.

فقبل أنْ توّجه الدعوة إلى المثقفين، لفضح وكشف أوكار الفساد وتعريتها – كما يزعم – على الدّاعي أنْ يؤمّن أولاً للكاتب حياته ورزق أولاده من بعده، ويعطيه الضمانات اللازمة لذلك، فقد ولـّى ذلك العهد، الذي تجد فيه كاتباً يقامر بذاته، من أجل أنْ يقول الحقّ عوضاً عن المواطن، أمام صمت الجميع في مجتمع متحضر، عليه أنْ يحتضن الكاتب ويعرف قدره، وإلا، لأصبح مطارداً في الأزقة ودوائر الأمن، مثل أي مجرم وضيع.

وهنا أودُّ أنّ أبدي رأياً، قد يختلف معي حوله الكتّاب والعامة على حدّ سواء، وهوّ التأكيد على ما أوردته في السطرين الفائتين، فالعار كل العار على مجتمع يدّعي الرُّقي، لو قبل على نفسه، بأنْ يُضحّي براحة وحياة الكاتب من أجله، ففي ذلك خِسة ما بعدها ولا قبلها خِسة، حينما يُقدًَّم الكاتب كقربان من أجل الدعوة إلى الإصلاح، كما كان يحدث في العقود الأربعة المنصرمة، بل يجب علينا أنْ نحترم المثقف ونقدره وننزله منزلته الاجتماعية وندعمه معنوياً، ولا نجعله يتحسّس ظله مثل الهارب من وجه العدالة، كما يتعين علينا ألا نقبل إهانته (المتعلم له الأقدار*) فما بالكم بجرجرته إلى أقسام الشرطة والدوائر الأمنية الأخرى وما أكثرها ؟ فهذا نوع من التواكل والأنانية القميئة، التي تمارسها المجتمعات لكسب الغنائم من وراء الكاتب والمثقف بصفة عامة، فالكاتب مهما تثقف وتعلـّم ليس وصيّـاً، ولا المعني الوحيد بهموم البلاد، فلماذا هو الذي يُضحّي وينعم اللاعب – مثلاً – بالراحة والشهرة والمال، فكل فرد في المجتمع المتحضر، يتحمل مسؤوليته تجاه وطنه من خلال موقعه، والإصلاح ليس فرض كفاية على المثقفين وكفى.

لذا، يحسن بنا نحن الكتّاب، أنْ نطالب بإنشاء الجهة الحامية لنا، من أي معتدٍ أثيم، يحاول ولو النيل من كرامتنا قبل حياتنا، قبل أنْ يُطلـَب إلينا أنْ نكتب، وعلى الصُّحف التي ينشر فيها الكاتب نصوصه، أنْ تكون – على أقل تقدير – هي حاضنته، لا أنْ تكون الكاشف عن نيته وأفكاره، وتتبرأ منه في ساعة الخطر والحسم، هذا إنْ حسبناها بحقِّ من ضمن مؤسسات المجتمع المدني.

فيا أيها المثقفون، لا تكتبوا في هذه الصحف، حتى يُرفعُ عنها شعار: “الآراء المنشورة لا تُعبّر عن رأي الصحيفة وسياستها، وإنما عن وجهة نظر الكاتب”.

فهذا المدلول يكفي لأنْ تفهموا كل شيءٍ.

_____________________________

(*): مأثور شعبي .

13.05.2010

مقالات ذات علاقة

استجواب الذاكرة في «الغرفة 2011»

سالم العوكلي

بطاو.. أيقونَةُ الشِّعرِ النَّبيلِ

جمعة الفاخري

امرؤ القيس وبوعبعاب

عبدالرحمن جماعة

2 تعليقات

علي الحبيب بوخريص 1 ديسمبر, 2020 at 02:57

السيد الفاضل زياد العيساوي، تعرفت عليك من خلال مقالك الذي كتبت، قوة الكلمة في معناها ومدلولها، والمعنى والمدلول في مقالك خير للصالح العام، لا فض فوك وعلى أمل أن تهتم هيئات الثقافة والمجتمع المدني بما ورد في المقال لما فيه الخير لكل حاملي الوعي والمعنى لإيصاله للآخرين ولبزوغه في عالم المادة ترشيدا وتكاملا مع ما فيه من وعي ومعنى راشد على مستوى الفرد والمجتمع مضيا صوب تحقيق النفع العام للدولة والمجتمع والمؤسسات على حد سواء ، وفقك الله لما فيه الخير للصالح العام، دمت بخير والسلام عليكم.

علي الحبيب بوخريص
بارك الله فيك

رد
المشرف العام 1 ديسمبر, 2020 at 04:45

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق