الزغاريد تتطاير في الأفق. هذه من هنا، من هناك، من ذلك الركن. تتشابك نهاياتها بالبدايات. مميزة نبراتها، تعانق النسمات… هكذا النسوة يعبرن عن ابتهاجهن العارم. أقراطهن تتأرجح و هي تغمز و تراقص الخجل الأحمر المسدل على الخدود… رائحة الصخاب المزين لنحورهن تشارك هي الآخرى في إحياء العرس.
“الفاصوخ” و “الوشق” ينثر في “البخارات” يفوح دخانهما العطري في البطحاء.. العبق الروحاني يسكن الأنوف. يهز الوجدان. ليست الأبدان فقط ترقص على دقات الطبل حتى القلوب !!..
في السهل المنبسط… هذا شاب يرقص.. قلبه يتهادى في الصدر، يتغنى بإسم المحبوبة بنت العم التي سموها عليه منذ ولدت….هذا الحاج يدندن “غناوة علم” و شعره الشايب تحت “معرقته” البيضاء يتمنى لو يرجع أسود و يخلع عنه بدلته العربية بفرملتها العتيقة..
الحطب في “الطابونة” يغرغر الروح تلو الروح في بطن النار الشرهة. في لحظات تحيله رماد. القدور السوداء تغلي و “مرقة اللحم” تعقد صفقاتها مع اللعاب السيال و البطون المنتظرة !!… قسمات المرأة السمراء و هي تتذوق الحساء تزداد حلاوة.
الشاي “يركرك” مشاكسا لـ”خبزة المله” !. تصبيرة للحاضرين توزع في الكفوف لحسة “بسيسه” و قطع من “خبز التنور” و “السفنز”.
*
الطبل لا يمل الضرب عليه..كف يعقبه كف أقوى.فيما تعلو ضحكاته الطاربة جاعلة النسوة يتداعين بخصورهن… هذه إحداهن تتمايل في انتشاء عجيب كالشارب!.. انظر إلى طولها الفارع كـقد نخلة!..لا تدقق النظر فيها ،فأنا أخاف من عبنك الحاسدة !!… يا إلهي! ما هذا الذي تمعن النظر فيه؟!..اغلق فمك الفاغر….
– شيء لا يصدق بالمرة !..
فهمت ما يجعلك تفرك عينيك و يفغر فاك….تلك الجرة الفخاربة الصغيرة الراسخة رسوخ الجبال على رأسها دون أن تمسكها…لا تزحزح أو اهتزاز…ساكنة مكانها رغم الرقص المتواصل الأشبه بالجنون !. يالها من ثقة و شجاعة طبعت في شخصيتها قدرة الحفاظ على توازنها !.
*
هذه آخر عشية تقضيها العروس في بيت أهلها..عشية الغد ستكون في نجع جديد و بيت مختلف العادات..مع عائلة و رجل مختلفي الطباع.
العجائز يخضبن يديها و رجليها بالحناء و حناجرهن تستطال بغناء “بـوطـويـل”.. سامعه مبسوط لكنه لا يفهم لغته و ترميزاته المعقدة…تحت لحاف الرأس تسح دموعها الكاذبة !!..
*
جرى الأطفال في الفرجات الواسعة مبشرين “جابوا الباصور…الباصور جي”
“المقرون” يطلق “فشكه” في الهواء…”عقد” الفرسان يملأ المكان.. نافخ الشكوة يهزج بألحانه الشعبية و الزغاريد لا تنطفئ..
أول عرس يقام في النجع..عرس ابنة كبيرهم.
اناخوا الجمل في ضجة مفرحة…الشعر يدلو بدلوه. الأهازيج ترشق الأفئدة بسهام الحب.
اختبأت داخل “باصورها” ثم سار موكب العرس لنجع العريس وسط دق الطبول و صوت “الزكرة”.رجالا و نساء و أطفال.
*
لم يبق إلا نصف المسافة ليصلوا..تسبقهم الأغنيات..
الباصور تسير بمحاذاته النسوة مواسين ابنتهم الباكية !!.. “ابـكـي عـروس”
من هؤلاء؟!..
لا أدري !.
عصبة من الرجال الملثمين يحيطون بالباصور.. يأخذونه بعيدا بصاحبتها…لم يلقوا مقاومة فأخذوا الجمل بما حمل !.
الكثبان الرملية غيبتهم…
مراسم الفرح استمرت.. الزغاريد تتهاطل كوابل…قرع الطبول يحتد…”بـوطـويـل” يزداد تعقيدا…المقرونة ترفع عقيرتها بلحن رائق يجوب الفجاج…