المقالة

في فلسفة الثورة

عهد البشر في تاريخ حروبهم الطويلة (وخاصة تلك الحروب التي لعبت فيها السلطة الدينية دورا مؤثرا في الحروب البشرية) أن الاستقلال هو ابن الثورات، وهو وريثها ومسيحها الذي يأتي للناس بالخلاص.

وحدث الثورة هو حدث خارق، حدث نادر، لأنه لا يتكرر كثيرا في المكان والزمن، إنه لا يبتعد كثيرا في ندرته وغرابته وخطورته عن حدث النبوة لأنه تغيير رهيب وخرق عظيم للمألوف.

هو حدث مصير.

الثورة لحظة اختيار حر لشعب كامل.

ولكنها أيضا لحظة اختيار خالصة للفرد وحده، ولحظة جذب صافية حين ينكشف جوهر الإنسان على حقيقته.

انظر إلى هذا الإنسان حين يرتفع عنه هاجس الخوف ويتخلص من الحذر، ويطلق العنان لاختياره الحر وستعرف أنها لحظة صادمة.

في هذه اللحظة الخارقة، ترى القديس يغتصب طفلا، وترى الشيخ الفقيه يزنى بفجور، وترى العاهرة تصلى وتبكي وتستحضر وجه الله بحرقة حقيقية، وقد ترى الطبيب يتحول إلى قاتل، وقد تفاجأ بأقرب الناس إليك يطعنك، وتفاجأ بمن كنت تظن أنه عدوك ينقذك، وقد ترى أغنياء يرتشون وفقراء يتصدقون. وترى الجندي رجل الحرب وقد تحول إلى خائن أو رعديد جبان، وترى تلميذا خجولا وقد صار رجل حرب مقدام، أهون ما يهون عليه روحه.

لكنها لحظة مخادعة أحيانا، ومطية سهلة لصنف سيء آخر من البشر ولمثقفي الحانات أيضا، قطط المطابخ، وراكبي صهوات الدم إذا طالت شطحات الوجد والجذب.

وعلى ضفاف مستنقعات الثقافة المتخمرة الموروثة التي لم تجفف من حكم تعيس امتد قرابة نصف قرن، ترى شاعرا مداحا ترعرع على فتات الموائد، أو سارق فواتير جاهل وقد غدا وزيرا للثقافة، وترى خطيب مسجد تجلبب بجلباب كاهن دموي لا يفتى إلا بفتاوى القتل ولا يصرخ من فوق منبره العالي إلا بسفك الدماء، وترى مثقفا وقد تحول إلى ردّاح لا يهتف إلا بمباركة خطوات من دك مدنا على رؤوس أهلها وأطفالها النائمين.

وترى أكاديميا وقد استحال بوقا رخيصا، وترى أديبا وكاتبا ورساما (من الجنسين)، وشيخ دين لا يتوقف لسانه عن ذكر الله وترديد الأدعية والأوراد وهو يخر ساجدا لمجرم حرب وقاتل أطفال وتلاميذ، ونرى على الضفة الأخرى شخصيات مأساوية لا تبتعد كثيرا عن هذا البؤس.

وعلى حافة هذا الاختناق وأديم وجوهنا ساخن ورؤوسنا منتفخة دما وحسرة وضياعا في الدقائق التي تسبق نومنا ندرك أن الكثير من أحكامنا كانت خاطئة، والكثير من رصيدنا المعرفي عن الحياة والنَّاس، وحتى لحظاتنا الخارقة تلك، لم تكن أكثر من إيمان متذبذب ينقصه اليقين.

اليقين بأن قداسة الثورة وتقديسها لا يكون بهدر الأموال والاحتفاء براية ممزقة تبول عليها كلاب السوق، وأن الثورة التي أعادت الاستقلال لا يجب أن تكون أكثر من انتصار لليبيا ولأطفال ليبيا، وليس من أجل نحت أصنام جديدة، شيخ طريقة، أو كاهن ظلام، أو زعيم طائفة، أو صاحب نياشين مغموسة في الفضائح والعار.

مقالات ذات علاقة

“دار الفقيـــه حسـن” شعــــاع نــــور يحمـل الأمــل

سالم أبوظهير

القنوات الفضائية وإعلامنا التضليلي

المشرف العام

أوهام رواندية

المشرف العام

اترك تعليق