النقد

قراءة نقدية في قصـة: ضجيج الصمــت، للقاص خالد السحاتي

زينب علي الحسيني (لبنان)

من أعمال التشكيلي القدافي الفاخري
من أعمال التشكيلي القدافي الفاخري

النص: ضجيج الصمت

استشاط الصَّمتُ غـضباً، أمسك بتـلابيب حــــــارسِ الزمـــن الكســـول، أوقعـــهُ على الأرض.. نظر يمنة ويسرة، حاول إيهامَ نفسه أنه بخير، لكن هذا الهراءَ لم يرق له!، فذهب ناحية السراب ليفرغ في وجهه تلك الشحنة من الصراخِ والصخب اللذين ينوء بحملهما لسنوات طويلة، تناهى إلى سمع السراب ضجيج مرعب..

لم يعرف مصدره، وحين أبصر الصمتَ لأول وهلة أفزعه ما رأى! هدَّأ من روعه قائلا له:

_إنك من ذهب. أجاب الصمتُ بهدوء مصطنع: وهل يتجاهل الناسُ الذهبَ ويُقْصونه في زاوية مهملة؟ عندها فقط تبادل الصديقان الأدوار، فصمت السرابُ، ودخل الصمتُ في حالة من الصراخ المتصل حتى تحوَّل إلى سراب!

خالد السحاتي


* القـــراءة:

مدخل نظري: الثنائيات الضِّدية:

بالأساس ظاهرة فلسفية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجود وبالمشاعر الإنسانية، وهي “فكرةٌ يقوم عليها إيقاع الكون وتعني وجود أمرين متضادَّين مرتبطين برباطٍ واحد” كثنائية: الليل /النهار، الفرح/ الحزن، الحضور/ الغياب، وما إلى هنالك من ثنائيات ويعد هذا المصطلح مفردة غربية. البعض يرى بين هذه الأضداد صراعاً أبديَّاً هو مصدر الخلق والتَّجدد والحركة، كما يرى البعض الآخر أن كل طرف من هذه الثنايات يبحث عن طرفه الآخر، ليتحدا معاً ويكوِّنا وحدة أصيلة لاستمرار الحياة على الأرض، وكل ُّ طرفٍ يسوِّغ وجود الآخر، فالشرُّ لا يناقض في جوهره الخير لكنه لازمٌ لوجوده، وليس من معنىً للكرم دون مقارنته بالشُّح” (الثنائيات الضِّدِّية: سمر الدَّيُّوب)

تناول النقد المعاصر الثنائيات كمرتكزٍ أساسي من مرتكزات النقد البنيوي، فالكلمة ليس لها معنىً مستقل بحد ذاتها، بل يكمن معناها في وجود ضدها، وعناصر النص لا دلالة لها إلا ” عبر تشابك العلاقات القائمة بينها, لذا علينا ألا نهتم إلا بالعناصر التي تبلور نسق الاختلاف والتشاكلات المتآلفة والمختلفة” وهكذا فالنقد المعاصر، يعمل على رصد الثنائيات وتصنيف المتشابه منها في قوائم معيَّنة، تساعد الناقد على تحليل النص من خلال وحداته الدَّلالية، ومع هذا فإنَّ التحليل يبقى غير كافٍ ولا يمكنه أن يفسِّرَ كل جوانب العمل الأدبي, لأن عناصر البنية النَّصية اللغوية وحدها غير كافية, ويبقى التحليل ناقصاً ما لم نربطه بالمحيط الخارجي, دون الاكتفاء بما يطفو على سطح النص من معانٍ داخلية, بل يجب أن يَغوص التحليلُ في العمق وصولاً لاكتناه مقصد النص. (الثنائيات في النقد البنيوي دراسة نظرية تطبيقية م. م. إيمان عبد الحسن علي. جامعة بابل).

القاص خالد السحاتي
القاص خالد السحاتي

سيمياء الدَّلالات:

النَّص قصة بديعة شيِّقة السَّرد، ولعتبة النص “ضجيج الصَّمت” إيحاءات تغري المتلقِّي بالمتابعة والتَّقصِّي.

العنوان مركَّب من ثنائيَّة ضدِّية, طرفاها: الضَّجيج والصمت, فيها أنسنةٌ للكلمات تستدعي ترميزاً تعمَّده الكاتب, وكأنَّ “للصمت” ذيلاً متَّصلاً فيهِ من “الضَّجيج” رغم وجود برزخ بينهما, أو كما يقال: آخر الدواء الكيّْ..

بدءا من عتبة الاستهلال حتى عبارة (لسنواتٍ طويلة) الحقل الدلالي للعبارات (استشاط الصمتُ غضباً، أمسك بتلابيب، ليفرغ تلك الشحنة من الصُّراخ والصَّخب، إلخ..) فيه دلالاتٌ تؤكد أن “الصَّمتَ” هو رمزٌ للـ”صامتين” بدليل أنه يغضب ويحسُّ ويضيق ذرعاً بحملِ ثقل “شحنة من الصُّراخ والصَّخب”.

نسأل لمَ” الصمْتُ “حانقٌ كل هذا الحنق وعلى من يفجِّر كل َّ هذا الغضب؟ لنستنتج أنَّ “الصَّمت” صامتٌ “منذ سنوات” ولكثرة ما احتملَ, استحالَ إلى نقيضه/ الضَّجيج, ثمَّ قصد “السَّراب” ليفجِّر كلَّ مكبوتاته.

أنسن الكاتب السراب في متن القصة، وحمَّله صفاتٍ بشرية، ليكونَ شخصيَّة تحاور “الصَّمت”/ رمز الأناس “الصَّامتين” الخانعين.

والسراب رمز للا جدوى والعدمية، للحوار بين الصمت والسراب دلالات:

الصمت الهادر وجَّه صراخه في الوجهة الخاطئة: صوب السراب.

والسراب حاول تهدئة “الصمت” بقوله:” إنك من ذهب.”

ليجيبه الصمت بردٍّ يحمل كلَّ معاني السخرية والغضب “وهل يتجاهل الناسُ الذَّهبَ، ويقصونه في زاويةٍ مهملة؟”.

في هذا القول تناصٌّ مع المثل” إذا كان الكلام من فضَّة, فالصمت من ذهب” لكن المدلول أكثر عمقاً، وهنا يكمن بيت القصيد او بؤرة النص.

بؤرة النص:

من الواضح ان النص رمزيٌّ , والذهب في القصة يحمل تحت عباءته دلالاتٍ على ما هو ثمينٌ ونادر, ويحمل قيماً معنويّةً وماديّة , وإسقاطاتٍ كثيرةً على واقعنا العربي.

وكما أسلفت في مقدِّمتي أنه لا يمكننا تحليل النص بعزله داخليَّاً, والاكتفاء باستقصاء دلالاته اللُّغوية النّصِّيةِّ وحسب, وإنما علينا أن نكتنهَ عمق النص من خارجه, لنتبين مقاصده.

في النص، يبدأ الانفراج، حين يتبادل الصديقان الأدوار، فيصمتُ السَّرابُ و”يدخل الصَّمتُ في حالة من الصُّراخ المتَّصل” وهكذا “يؤدِّي التَّراكم الكمِّي، إلى تحوُّلٍ نوعي” فحالة الصمت لدهرٍ من ” الزَّمن الكسول، وكثرة التعوُّد على التَّكيُّف واحتمال المستحيل، تراكمت وأدَّت لأن يطفح الكيلُ ويُفرغ “الصامتون” كلَّ مكبوتاتهم، بعدما ابتلعوا الفقر والمرض وويلات الحروب، ولم يعد أمامهم إلا الصراخُ بأعلى الصوت بلا انقطاعٍ، حتى الانفجار.

لكنَّ “القفلة” جاءت أشد وأقسى, فكل الصراخ “المتَّصل” لم يؤُل إلى نتيجة, وإنما تحوَّل إلى سراب, وهنا الفاجعة!، ليصحَّ القول:

 لقد أسمعتَ لو ناديت حيَّاً_____ ولكن لا حياةَ لمن تنادي.

التركيبة اللغوية للنص:

كُتب النص بلغة مكثفة التعابير, وظَّف الكاتب فيها الأفعال بغية الحركة والديناميكية كي تخدم المعنى المراد:

(استشاط غضباً, أمسك بتلابيب, حاول إيهام, يفرغ الشحنة, ينوء بحملهما الخ).

استُخدم الرَّمز بدءاً من العنوان “ضجيجُ الصَّمت”

الصمت هو رمز للسكوت أو الخنوع، تحوَّل إلى ضجيجٍ بعد أن “ضاق ذرعاً” بكل ما احتمل… والضجيج قد يعني الاحتجاجات أو الانتفاضات للتنفيس عن الاختناق من طول “الصَّمت”

كما أن السَّراب هو رمز للعدمية واللا جدوى والعبث.

أنسن الكاتب مدلولاتٍ “الصمت” و”الضَّجيج” و”السَّراب” و”الزّمن” وأسبغ عليها صفاتٍ إنسانية، مما أعطاها بعداً واقعيَّاً رغم التّرميز, وأعطى النص تميُّزاً , بأن أُحسن توظيف الرَّمز, واستعمال الثنائيَّة: الصَّمت / الضَّجيج, التي تجسِّد صراع الأضداد, صراعاً يولِّد الحركة والتَّجدُّد والخلق.

التجنيس:

نحار في تجنيس هذا النص فهو قريب من الخاطرة من حيث الإيحاء والإيجاز بلغة شفافة،

وهو يقارب الققج. بالتكثيف والترميز وإن يكن وصل حد المباشرة، ايضا الأفعال مكثفة لخدمة السرعة والديناميكية للحدث، كما أن القفلة ملفتة، ومفتوحة على التكهن والتساؤلات التي زادتها ثراء.

وهذا ليس مستغربا على القاص: الأستاذ/ خالد السحاتي الذي برع بكتابة القصة القصيرة جدا.

والنص استوفى شروط القصة القصيرة من حيث تنامي الحدث، وصولا إلى لحظة الانفراج والقفلة.

ومهما يكن من أمر التجنيس، النص هو نص رمزي شيق وبديع، موجز التعابير والتكثيف, كُتب بأسلوب متميز ولغة مكثفة التعبير، و قريبة من الأذهان لا تطنيب فيها ولا إبهام. وقد نجح الكاتب في طرح إشكالية ذات إسقاطاتٍ على واقعنا العربي الغارق في الحروب وتداعياتها من تشريدٍ وإفقارٍ وكبت حرِّيات.. فيه تحريضٌ على نبذ المكبوت وعدم ” السُّكوت الصّامت” دهوراً على وجعٍ أو ظلمٍ يتفاقم بلا انقطاع، ممَّا يجعل الانفجار، أفضل الحلول السّريعة.

لكنْ, تبقى أسئلة وأسئلة تُطرح: لماذا يتبدَّد الصراخ ويؤولُ إلى سرابْ…؟؟ ألم تكن هناك إمكانيَّةٌ لأن يؤدَّيَ الصراخ إلى نتيجة إيجابية غير التَّحوُّل إلى “سراب”؟؟

وهنا لا بد وأن نتذكر الربيع العربي الذي عبر عن انتفاضات الشعوب العربية على كل ما تعانيه من ظلم واستبداد وإفقار، لكنها فشلت؛ لأن الصراع فقد البوصلة الصحيحة لشروط التغيير.

القفلة فتحت على التساؤلات والتكهنات، حيث الأجوبة المتعددة.

تبقى منوطة بمن يجيدون تحويل الصراخ والحلم المرتجى إلى حقائق واقعية.

مقالات ذات علاقة

قراءة في قصة (شمس) للكاتب الليبي الأستاذ محمد المسلاتي

المشرف العام

قصائد الفاكهة

محمد الأصفر

التحليل النقدي لقصة “أخطر أسراري” للقاصة عائشة إبراهيم

المشرف العام

اترك تعليق