في بلاد تئد أحلام البنات، من تجرؤ على الحلم فيها تضع طواعية حياتها على كف عفريت أعور، ومن تفتح نوافذها للشمس تندلع النار في ردائها لتمتص ألوانه وتصبغه بلون الفحم.
عندما كنت طفلة كانت تزورنا من وراء البحار أطياف بنات لا يشبهننا، بعضهن مجرد كرتون مثل «جودي أبوت» و«رشا نعيم»، وبعضهن لاتينيات جئن من بعيد لكن حكاياتهن وهيئاتهن مسّت فينا شيئا وقتها.
كنا نطارد وجوههن في الشاشات الخاضعة لمزاج «الأنتينا» ومزاج السلطة، لأن التلفزيون الرسمي الذي يخصنا وقتها كان مشغولا بمحاولة وضع أقدامنا المترنحة على صراط المجد، ووجود الجميلات فيه نادر مثل وجودهن في ذاكرة طفل قضى عمره في مدينة ألعاب.
من كل هذه الصور المتلاصقة على جدار الذاكرة تطل طازجة حيّة صورة الجميلة «تونس مفتاح» تغازل نسيم الجبل على جسر وادي الكوف كأنها فعلت ذلك عشية اليوم.
ببراءة طفلة كنت دائما أقول لأمي لماذا اسمها تونس؟
هذه البنت «القنيّنة» كان يجب أن يكون اسمها ليبيا.
«ما تغيّب عني ما تغيّب» كل مرة أشاهد فيها هذه الأغنية تحديدا أشعر ببرودة لذيذة على وجهي تشبه تلك الغافية في وديان الجبل، وفي كل مرة أسمع كلماتها تتراقص في مخيلتي سعادة تشبه تلك التي تولد في عيني عاشقة بعيدة.
في زمن الأغنيات المصورة بدقة عالية وتكنولوجيا متقدمة جدا أستطيع في كل مرة أن أشاهدها وأسمعها بدهشة المرة الأولى، دون أن أخضع لذوق السنين، بكلماتها التي تسمي الحبيب «غيما ماطرا» و«وردا عاطرا»، وتجعل العاشقة ليلا حالكا إذا غاب الحبيب، كأنه نجمات تضيء عتمة هذا الليل، مع شيء من الغزل المعمّد بالدموع والنار:
كان تحب ما تودّش عيني بالدمعة
كان تحب كن ناري ونكون الشمعة
سيل من الكلمات العذبة ينساب بلحن غزله الراحل «فرحات فضل» ليكمل بذلك حكاية العشق التي روتها لنا سندريلا لتعطينا أغنية هذه المرة لا فردة من حذائها.
أما الصورة، فقد نجح «عزالدين عبدالكريم» مع رفاقه في جعلها تتماهى مع الكلمات، دعمتها ثلاث إطلالات للجميلة «تونس مفتاح» ظهرت في الأولى بقميص مقلّم تستطيع أي فتاة أن ترتديه اليوم مع جينز أو تنورة سوداء وتخرج به إلى أي مكان، وفي الثانية تألقت بنت الجبل برداء مخطط وغطاء رأس بنفس اللون يطغى عليه البرتقالي مع خلفية خضراء بلون الجبل.
أما الفستان الأسود البراق الذي ظهرت به في نهاية الأغنية فهو صالح لكل زمان مع إكسسواراته الفضية الناعمة والخصلات التي سلمت نفسها للطف النسمات.
إلى تلك الليبية الجميلة:
«مراسيلك» وصلتنا ونعيد قراءتها بحب في كل مرة، و«كان المحبة عيب» فسنمارس هذا العيب على من يشبهونك في هذا الوطن الطيب، لأنكم ببساطة «ما يسواكم والي».
فمن قالت: «بعيوني نصونك يا وطني» مكانها العيون والقلوب، ومن قالت: «ضنا بلادي يا حد الزين» هي الزين كله والسماحة كلها و«القنانة» كلها، مهما تراكمت السنوات على أبواب العمر.