في وقت مضي، كتبتُ مقالة بعنوان” زمنُ الرواية الليبية” نُشرت في موقع صحيفة بوابة الوسط. كان المقصود منها الاحتفاء بعدد من الروائيين الليبيين الجدد، من الجنسين، ممن ظهروا فجأة في الساحة، ودخلوا عالم الرواية من بابه الأمامي والأوسع، وقدّموا ابداعات روائية متميّزة، اثارت إليها الانتباه، ولفتت إليهم الانظار. وتمّ كل ذلك في وقت قصير نسبياً. ولم يكن المقصود بالوصف” كما أعتقد خطأ البعضُ” أن يكون نَعياً بانتهاء زمن القصة القصيرة الليبية.
الجميعُ على علم مسبق بما أنجزه وما ينجزه من ابداعات قصصية مذهلة، كُتّاب القصة القصيرة في ليبيا. تلك الانجازات الإبداعية، وضعت القصة الليبية على رفّ خاص بها في المكتبة العربية.
ما يميّز القصة الليبية القصيرة أنّه تمكنت على يد الرواد من كُتّابها، من وضع أساسات عميقة ومتينة. مكّنت كل جيل جاء من بعدهم من البناء فوقه بثقة، وبتميّز وخصوصية. فتطاول البنيان عالياً في سماء الابداع بتميّز ملحوظ، ضيّق المجال أمام القاصّين الشباب الجدد، ممن حاولوا خوض كتابة القصة القصيرة. بمعنى أنه كان لزاماً على كل قادم جديد إلى ذلك العالم، برغبة الانضمام والمشاركة في رفع البنيان القصصي الليبي، أن يكون على قدر عال من الموهبة تؤهله لنيل ذلك الشرف.
وها هو قادم جديد إلى عالم القصة القصيرة الليبية، اسمه جمال الزائدي، ويسعى إلى اضافة لمساته الإبداعية القصصية، على أمل أن يجد له موطئ قدم إلى جوار من سبقوه، ويتمكن من ترسيخ موهبته القصصية، ويزيد في رسوخ وعلو بنيان القصة الليبية.
قبل هذه المجموعة القصصية الأخيرة:” إصبع سُبابة لحياة مخترعة،” الصادرة مؤخراً عن دار السراج الليبية- طرابلس، قرأتُ له مجموعة مقالات، نشرها في كتاب ” بعنوان” إيفيكوات.” وأعقبها بنشر كتاب آخر، بعنوان “هدرزة قهاوي.”
في الكتابين المذكورين أعلاه، لاحظتُ أن جمال يكتب مقالاته الصحفية بنفس قصصي واضح. ويبدو أكثر تجلّياً في كتابه الأول “إيفيكوات.” وهو مصطلح شعبي ليبي، يطلق على حافلات نقل ركاب صغيرة الحجم” ميني باص.”
وكنتُ أتساءل لماذا لا يتحوّل جمال الزائدي إلى كتابة القصة القصيرة؟ فهو- وإن لجأ إلى كتابة المقالة الصحفية- كونه كاتباً صحافياً- قاص موهوب ومتمكن “على سن ورمح” كما يقول أخوتنا المصريون. يمتلك أدواته، وبعينين كعدستين قادرتين على الالتقاط الذكي لتفاصيل ما يدور أمامه وحوله. ترفده لغة سلسة تستجيب بجمال لعواطفه وأشجانه وتنقلات مشاعره وأحاسيسه، وتستحوذ على انتباه القاري، وتشدّه إليها. والأهمُّ من ذلك أنه يمتلك قلباً ينبض مع ايقاع نبضات الناس الذين يرافقهم يومياً إلى مقر عمله، في تلك الحافلات الصغيرة الشعبية، في واقع يطحنهم. ويعبّر، بجمال فنّي آسر، على معاناتهم وأحزانهم وطموحاتهم وأحلامهم وانكساراتهم، وينقل القارئ إلى وسط تلك الأجواء بتفاصيلها الكثيرة المحزنة.
في قراءتي لهذه المجموعة اخترت لها عنوان:” رحلة البحث عن أمل ضائع.” وبالطبع، لا علاقة للعنوان برواية :” البحث عن الزمن الضائع” للروائي الفرنسي مارسيل بروست. اختياري للعنوان، جاء من خلال قراءة سريعة لقصص المجموعة. إذ تبيّن لي من خلالها أن هناك خيطاً، أو سلكاً يشدّها إلى بعض، مهما تباين اختلافها. ذلك الخيطُ أو السلكُ يشد شخصياتها مع بعض، في بحثهم عن أمل مفقود، في حياة يعيشونها بلا بوصلة، وفي واقع لم يعايشوه من قبل، هو أقرب ما يكون إلى “مولد وصاحبه غايب.” واقع حياتي مرتبك بشدة الفوضى، ومختل التوازن نفسياً إلى حدّ الفانتازيا. ويبدو ذلك ملحوظاً. فشخصياتُ القصص أناسٌ عاديون مطحونون، يحاولون جاهدين الوقوف على أقدامهم في وجه محن وعواصف الحياة والزمن. أحلامهم مجهضة، وأرواحهم متعبة ومرهقة، يصارعون، نهاراً وليلاً، أمواجاً هادرة في بحر لم يألفوه، لإبقاء رؤوسهم فوق سطح الماء، حتى لا يغرقون.
من الممكن أن تكون القصة التي تحمل عنوان المجموعة (إصبع سُبابة لحياة مخترعة)أفضل مثال. كونها “الثيمة” التي تبدو لي أكثر وضوحاً في قصص المجموعة. ومحاولة بطل القصة العجوز المتقاعد المحتضر، وهو يرى نفسه يعيش على الهامش، عائلياً، ومحاولاته العبثية لاستعادة حياته، لكي يعيشها من جديد، وتصحيح أخطاءه، وليشارك في شؤون عائلته التي تجاهلها خلال سنوات عمره المهنية، ثم أمنيته المتأخرة والمستحيلة، لو أنه يتمكن من رفع إصبع سُبابته كي يرسم مستطيلاً في الفراغ، ويخترع حياة جديدة، يعيشها بديلاً لتلك التي اضاعها، أو ضُيعت منه!
رحلةُ البحث عن أمل ضائع، لا تختلف عن رحلة البحث عن زمن ضائع، ووطن مفقود. وهي رحلة لا تخصُّ جمال الزائدي وشخصيات قصصه، بل هي، في رأيي، تتجاوزهم جغرافياً، لتكون محنة كل الذين فقدوا أوطانهم بين يوم وليلة.
بوابة الوسط | 17 يوليو 2024م