يختار الكاتب التونسي (الشاذلي الفلاٍح)، القبض على جمرة حارّة والتماس مع الواقع مباشرة، لذا سنجد الكثير من الاحداث في الرواية قد اتكأت على معطيات واقعية، حين نقرؤها تحيلنا مباشرة إلى حدث شاهدناه (خبرا عاجلا) ثم تقريرا تلفزيونيا تتناوله القنوات الفضائية كلُّ حسب وجهة نظرها واتجاه مموليها، وربما قرأناه في الصحف تحليلا له ولتداعياته ومسبباته.
هكذا يفتتح الروائي باب الرواية من حدث واقعي، هو إطلاق سراح بعض السجناء بعد أحداث ثورةديسمبر2010م في تونس، ثم ما نعرفه من مآل لها وتلك الصرخة (لقد هرمنا)، وكان العفو الذي شمل أنواع مختلفة من السجناء، والذي شمل بطل هذه الرواية (عثمان بن علي النيساوي)، _ (لم يصدق حين وجد نفسه ضمن من شملهم العفو العام، في ظنّه أنّه لأمر غريب، وغريبٌ جدا)ص8، لكن ها هو ينتظر الصباح، ويتساءل بتوجس: (الساعة تشير إلى الثامنة والنصف من يوم الثلاثاء…. بعد بضع دقائق سيكون حرّا طليقا)ص7(لم يتوقع يوما انٍه سيغادر ذلك المكان في مثل هذه الساعة بعد أن تمّ الحكم عليه بعشرين سنة)ص7.
إن السارد الأول والذي يتكئ على المؤلف الضمني في إنشاء معمار الرواية لا شك قد التجآ إلى المؤلف الواقعي والذي يمنحهما المعلومات المنحوتة من الواقع المعاش كي يواصلا بناء هذه الحكاية. فهما (المرسِل)، ولا شك أن لهذي الحكاية خطاب_ رسالة، وثمة قارئ _ قارئة، هما من ترسل إليه الرسالة، وقد تكون رسالة مشفرة تمتح من المخيلة التي تنسج دلالات _ إشارات، وعليهما(المرسل إليهما) أن يفكا شفرة الرسالة أو أن يتماهيا مع واقعيتها ويضيفا (حكاية أو خطابا على الخطاب)، … إذا ها نحن مع (عثمان) وحكايته الغريبة، الحكاية التي. صار إثرها نزيل السجن، وحكم ليس هينا(.عشرون عاما)، لكن (العفو التشريعي) يشمله، (لم يتوقع يوما أنٍه سيغادر ذلك المكان في مثل هذه الساعة بعد أن تم الحكم عليه بعشرين سنة) ص 7، يتقدم بخطوات بطيئة أو ربما يركض بعيدا (توقف برهة يملأ رئتيه بهواء الصَّباح الباكر)7، وبين مدّ وجزر، بين خوف (عثمان) وتوجسه أن يبقي رهينا وراء قضبان السجن، ينسج السارد هذه البداية المفعمة بالأمل، فندخل القراءة بهذا الأمل، تمهيدٌ (يشير إلى أحداث ومواقف مسبقة او أحداث ستحدث وتحكى فيما بعد)، ولكن هل ترانا ننخدع بهذا (التمهيد Advance notice)22!؟
سأعتبر ما كتبت مدخلا لقراءة هذه الرواية، التي جعلني عنوانها الشارح (الوهم الداعشي) أتساءل: لماذا سرق مني المؤلف الواقعي (الشاذلي الفلاح) لذة الاكتشاف؟ وأعطاني مفتاح الرواية ببساطة، هكذا تساءلت، وهو يمنحني مفتاحا آخر أو بابا للدخول إلى عالم الرواية، حيث مفتتح قبل بدء الجزء الاول: (إن صاحب الوهم. وهو لا يعرف أنه واهم، يحمله الوهم على التصديق بكل ما ينتج عن الوهم من أقوال)، ثم يثني بمدخل للجزء بمقولة لجاك دريدا: (الوهم أشدّ رسوخا من الحقيقة)7،
فكأن الكاتب هنا يؤكد أنه (المؤلف المحلل. Analytic author: المؤلف العليم بكل شيء) ص25، وهو لا يخفي هذا إذ يقول (الراوي العليم هو الوحيد العالم بأسرار الغيب، وهو الوحيد الذي باستطاعته تحديد مصير بطله، هل ينقذه مما هو فيه أم يتركه يواجه مصيره ويتحمل تبعاته) 103. إذا رواية بحجم متوسط (112,صفحة) ربما نستطيع وضعها تحت اسم (نوفيلا – قصة طويلة)، ولكن فعل القراءة سيكشف هذا الامتداد حيث (المفارقة الزمنية anachronym) حيث نجد (بداية تقع في الوسط يتبعها عودة إلى وقائع حدثت في وقت سابق) أي يعود بنا للماضي حيث (اللقطة الاسترجاعية ولها امتداد معين) لأنها (تغطي مدة معينة من القصة… وكذلك بُعدا معينا) 24،
وها نحن مع (عثمان) الخارج توا من السجن، متنشقا عبير الصباح المضمخ بالحرية، ولكن يا للعجب حين نجده (.مشنوقا في أعلى شجرة الصنوبر العالية)103.
هل ثمة مسافة آمنة ؟؟
إن قراءة أي عمل أدبي، خاصة حين نتجرأ وندخل عباب (النقد) والذي احترازا من متاهة النظريات المتعددة في نقد النصوص الأدبية، اخترت فعل (القراءة) وهو أيضا فعل ليس هينا، ويمكننا هذا الفعل من تجاوز مطبات كثيرة، ويسمح لنا بمسافة آمنة مع العمل المقروء، إذا ها أنا ومن خلال جولة متعجلة في بعض كتب نقدية مثل كتاب (المصطلح السردي)* وهو كتاب مصطلحات ثري جدا ويمنح اتساعا وحتى قدرة على اكتشاف مكامن النص الذي نقرأ، وكتاب (جماليات المكان) وهو كتاب لا تنقضي جدتهُ، إذا السؤال الذي راودني حين أكملت قراءة الرواية: ما الذي جعل من عثمان؛ هذا الشاب العاشق الذي دخل السجن بسبب الحب؟ كما أجاب (إمام المسجد): (.بكل صراحة، كان سبب سجني كل تلك السنوات هو الحب، قد تعجب من ذلك ولن تصدقني ..لكنه في نظري السبب الرئيسي الذي دفعني إلى القيام بما قمت به) ص 16.
ولكن مؤكد أنه قبل اللجوء إلى رحاب المسجد، قد واجه معضلة أنه كان سجينا وبجرم اقتضي أن يُحكم عليه بعشرين عاما / الراوي – السارد – يخفي عنّا هذا الجرم؟/ ولكن أحداث الرواية المكتظة. حيث العزلة في البيت، ومحاولة الأب والأم التخفيف من معاناة العزلة بالنصح وضخ الأمل وبمزيد من الحنان والحب، حتى خطا باتجاه المسجد، ثم محاولة البحث عن عمل، والتفكير في الهجرة عبر البحر، ثم ايجاد عمل (اقترح عليه ذات يوم بما إنه ليس متقاعد أن يبيع البنزين القادم من ليبيا) 17، وقد (فرح عثمان بالمقترح، فهو العمل الوحيد الذي لا يحتاج إلى بطاقة عدد3 أو ورقة في نظافة السيرة) 17، وأشاد بنزاهته كل من تعامل معه، (استطاع رويدا رويدا أن يكتسب ثقة الكثير من الزبائن، فلا غش ولا كذب ولا تحيل ولا مشاكل من أي نوع) ص18 وأيضا (لم يصرفه هذا العمل عن أدائه لواجبه الديني)18.
ولكن نظرا للظروف وإغلاق المعبر الحدودي، يفقد عمله ويعود إليه شعور (اللا جدوى)، وعاد إلى همومه وعاد الفراغ ليعيد شبح المهانة إليه تانية)22. وحين تمكن في الأخير من الظفر ببطاقة تعريف وطنية تثبت هويته وتزيل عنه بعض الإحباط وتعيد إليه الرغبة في الحياة)23.
إذا أكمل التساؤل:
ما الذي يجعل هذا الشاب العاشق عثمان، والذي مجرد بطاقة هوية وطنية (تعيد إليه الرغبة في الحياة)، إذا كيف يغدو فردا في منظمة إرهابية؟ بل حتى أنه سيكون قائدا لخلية من خلايا (تنظيم الدولة الإسلامية) ؟؟؟
ما الذي يربط بين الشاب العاشق والقائد الدموي، هل ثمة وشيجة ما؟
ها أنا أحاول خلال هذا السبر البحث عن مكمن السر الذي يجعل من عاشق _ قاتل، إن الراوي أو السارد وهو يواصل تنشئة السرد عن هذا (البطل العادي) الشاب الذي سُجن بسبب الحب، نجده يضع ألغاما هنا وهناك، حين بادره(أحد الملتحين) قائلا: (ألم تشعر وأنت تؤدي واجبك الديني وهذا حسن، بأن شيئا ينقصك أيها الشاب) 19، ودار حوار ليتبين عثمان ان هذا الملتحي يدعوه كي يتزيا باللباس الذي يرتديه، وفهم عثمان فحوى الإشارة، ولكن (هو يكره هذا اللباس الأفغاني الوارد من البعيد) 19، (لقد ترك عثمان لنفسه العنان ليتصرف كيفما يشاء، لا يريد أن يكون تابعا لأحد، حافظ على لباسه التونسي العادي الذي يحدد هويته، لم يرد أن يتقمص شخصية أخرى لا تمت إليه)20.
وحين تمّ اقتراح اسم عثمان ليكون بديلا للمؤذن الذي غادر ورفض الحكومة لهذا واحتجاج فريق من المصلين وليكون السجن نصيب البعض ومنهم (عثمان) والذي (حين اطلقوا سراحه بعد يومين عاد إلى عزلته وغادر المسجد نهائيا،(ولكن إلي أين) ؟
وكأننا بين زمنين، زمن التطهر، والقرب من الله، (قراءة المصحف صارت تستهويه ويقضي وقتا طويلا في تتبع آياته وتدبر معانيه) 15، والإحساس بقيمته الإنسانية حين الترحيب به، ثم علاقته مع إمام المسجد والذي (صار يجالسه حتى في أوقات خارج الصلاة، كأنه يريد أن يصارحه بما يختلج في صدره من اعترافات)16، والذي أخبره أن هذا الشاب عثمان الذي يجالسه الآن قد قضى (بالسجن ما يزيد على عشر سنوات)، وكانت دهشة الإمام (ما الذي نتحدث عنه ؟) ليجيبه (هذا ما تعرضت إليه فعلا وهنا تكمن معاناتي).
وليعترف للإمام أن سبب دخوله السجن او ارتكابه للجرم الذي أدخله السجن هو (الحب)؟ (إنه السبب الرئيسي الذي دفعني إلى القيام بما قمت به) ويتعجب الإمام (فكيف يصبح إذن سببا في سجنك كل هذه السنوات؟)
فيجيب هذا الشاب المتمرد: (حكايتي غريبة بعض الشيء)16
إذا زمن جميل جعله يتساءل: (هل أنا أسير الآن في الطريق الصحيحة؟)18
أشرت سابقا أن ثمة ألغاز أو فخاخ يضعها السارد أثناء روايته لقصة (عثمان النيساوي) وحكايته مع الحب وسجنه، كانت الفخ الأكيد واللغز المهم، وأيضا كأنها الزمن الآخر الذي سيقوده إلى السجن بجرم الحب؟!!
ولكن حكاية الحب مؤكد لها طرف ثانٍ، طرف يكون محور هذه المشاعر، وهنا سنرى كيف يضع المؤلف الضمني مع السارد وأيضا مع الراوي، مشاهد ترسم لنا صورة هذه الحبيبة، التي كانت مفتتح الجزء الثاني أو 2من الرواية ص21..
(امحت صورة أحلام التي بقي يحبها من مخيلته منذ خروجه من السجن، كأنه محاها بممحاة، من أجلها تحولت حياته إلى معاناة)،وحتما سينعرف بداية الحكاية، (كانت ابنة التاسعة عشر يوم تعرف عليها صدفة أمام مكتب البريد)، (وسرعان ما أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبّها جميع أعضائه كالبرق الخاطف)؟؟،
وضعت إشارتي استفهام لأني رأيت (سمة بارزة)وهي (وظيفة جذرية، نواة، بذرة، وهي ضرورية للحدث السردي)39، إذا ثمة في هذا السرد، صفة من صفات (عثمان) والذي ينغمس في مشاعره بسهولة، والتساؤلات التي يضعها السارد، تؤكد بروز هذه السمة ودورها في الأحداث اللاحقة، (لم يدم اللقاء إلا بعض الدقائق فهل يمكن الوقوع في حب شخص ما في عشر دقائق)، (خيل إليه أنه يعرفها منذ زمان طويل، لم يفهم كيف نسج بينهما رابط حميمي في وقت قصير جدا)، وبدأت قصة الحب بعد المكالمة الأولى (فيها صدق وعفة ورغبة من الطرفين)22، امّا هي المحبوبة أحلام (ظلت متيمة بفكرة أن شابا عرفته مجرد معرفة سطحية اعترف لها بصراحة بأنه غير قادر على التوقف عن التفكير فيها، وأنها أوقعته في حبها من النظرة الأولى)22، ولكننا كقراء سنظل نحاول اكتشاف لماذا كان هذا الحب سببا لدخوله السجن، بل والحكم عليه بعشرين سنة!؟، وكأننا في لعبة، والراوي العليم يستهويه ادخالنا في متاهة، وهو من سيفتح الباب لنا، لذا سيظل السؤال معلقا، ونحن نواصل القراءة متماهين مع سيرة (عثمان) الغريبة.
ها هو قد (عاد إلى عزلته. وغادر المسجد نهائيا، ولكن إلى أين)23، (انقطعت أخبارها تماما وهو مُصرّ على طي صفحة الماضي بعد كل هذه السنين) ولكن (هل الأمر بيده وبإرادته أم أن لمشاعره حديثا آخر).
سنجد أن هناك ما يعرف بـ(التناوب) وهي (توليفة من المساقات السردية …. تحكى في اللحظة السردية نفسها او في لحظات مختلفة)23، سنجد أن السارد يغطي (مسافة معينة من زمن القصة) 24، ثم هناك (الحدث الصاعد _ Rising action) وهو حدث (يبدا من العرض وينتهي إلى الذروة) 200، ولا يخفى أن من يخطط لكل هذا هو (السارد الواعي بذاته _ sell-conscious narrator)، وهذا السارد (على علم بأنه يقوم بالسرد، ساردٌ يبحث ويعلق على عمله السردي)205.
هل ثمة سِمَة نستطيع ملاحظتها لهذا الشاب التونسي البسيط، والذي دخل السجن ويا للغرابة كان الحب هو السبب؟! سمة كأنها (شفرة أو ظل) (عنصرٌ يظلل شخصية معينة أو صفة محددة) 208، أبذر هذا السؤال كي أتتبع سمة شخصية تدل على (عثمان) (هو لا يريد أن يكون تابعا) ص20، أظن أن هذه سمة توحي أن هذا الشاب في طبعه (.التمرد) فالذي لا يحب أن يكون (تابعا) لاشك أنه صعب القياد على الآخرين، ولكن كما ذكرت أن المؤلف خلال الصفحات يصنع فخاخا أو الغاما ربما، (أنرت المسجد بحضورك أيها الأخ في الدين، أهلا وسهلا بك، بيت الصلاة بيتك وأنا مستبشر بحضورك، قال أحدهم وقد غطّت وجهه لحية عريضة كثة مخضوبة بالحنٍاء) ص 14،إذا هذا الذي (ظل اشهرا هائما على وجهه، حتى ظنّه البعض قد جنّ جنونه)10 وقد (حاول شيئا فشيئا .. أن يطوي صفحة ماضيه الأسود، ودّ لو يطوي المجتمع معه هذه الصفحة)10.
هذا المجتمع الذي ظلّ يتساءل (عن كيفية إطلاق سراحه، وكيف اختير ليكون ضمن من شملهم العفو التشريعي)10 لذا (يوم خرج إلى الشارع لأول مرة خيل إليه أن الناس ينظرون إليه في استغراب، يحدقون في وجهه الشاحب يلتهمونه بأعينهم وتعاليقهم الجارحة)،إذا كيف سيشعر هذا الشاحب الوجه حين يلتفت إليه هذا الرجل (اللحية العريضة المخضبة بالحنّاء).
(أحس بأنه لأول مرة يعامل كإنسان بعد أن فقد إنسانيته وكاد ييأس من استرجاعها) لقد (أعاد إليه هذا الكلام شيئا من الثقة في نفسه) 14، وسيختم الراوي _ السارد. هذا الذي له (وجهة النظر المحيطة بكل شيء)و (يتحدث عن أشياء أكثر مما يعرفها أي واحد من الشخصيات)245، سيقفل دائرة هذا المشهد مؤكدا (.يبدو أن عثمان النبساوي قد وجد هذه المرة ضالته في المسجد المجاور لبيته) 15.
هل نستطيع إطلاق صفة (بطل تراجيدي) على (عثمان)؟ وهل ثمة قواسم مشتركة تدلنا، في التعريف الأكثر شيوعا للبطل التراجيدي_ المأساوي (Tragic Hero)؟ (شخصية محورية نبيلة لها قدر مأساوي أو خلل مميت يقودها في النهاية إلى حتفها)، ولا يخفى أن الشخصية المحورية في هذه الرواية هي شخصية عثمان، وحين تتبعث السمات التي رسمها الروائي، فإن(عثمان) يحمل صفاتً يمكن أن أطلق عليها (خلل مميت)، وهي التي قادت هذا الشاب البسيط إلى أن يكون ذراعا من أذرع منظمة اتفق العالم أنها إرهابية دموية، والسؤال كيف تَمّ استقطاب (هذا المتمرد الذي يرفض أن يكون تابعا)؟، والذي ساجل من طلب منه كي يكون تدينه كاملا أن يلبس مثله ويطلق لحيته، وقد ترك المسجد لأن عودته للسجن لمدة يومين، فتحت جرحا لم يلتئم، (ظلّت صورة السجن أمامه تلاحقه كظّله في المنام وفي اليقظة)11، (كان يستعرض تلك السنوات المريرة التي عاشها داخل السجن)، وتظل ذكريات بغيضة تلاحقه، وتجلب له كوابيسا حيث(الوجوه القاسية تتراءى أمام عينيه كالغيلان، وجوه الجلادين المكفهرة) و(وجوه بعض المساجين الأشرار الذين ألحقوا به الأذى)، لذا حين سُجِن لمدة يومين، لاحتجاج المصلين الذين أرادوه بديلا للمؤذن ورفض الحكومة لاختياره، فقد قرر ألا يعود للمسجد ثانية، لأن أثر السجن مازال موشوما(وترك أثره في شخصيته التي صارت هشة إلى أبعد الحدود) 12
عثمان – أحلام / الحب – الموت
ذكرت أن السارد _ الراوي العليم بكل شيء، لم يفشِ سر دخول بطل روايته (الكابوس) _ الشاب عثمان إلى السجن (بسبب الحب)، حتى عثمان حين أفضى لإمام المسجد بما يعتمل في نفسه، لم يذكر إلا أن سبب دخوله السجن كان (الحب)، ومحاولتي هذه القراءة هي بحث وراء استفهام ذكرته سابقا:
كيف يتحول شاب بسيط عاشق إلى فرد في (داعش) المنظمة التي صارت علامة للرعب؟ وأظن حين قرأت حكاية هذا العاشق الذي جُن غيرة حين رأى حبيبته تحادث شابا، وتلك الحادثة التي جعلت منه سجينا.
شعرتُ أن مفتاحا هاما لقراءة شخصية هذا الشاب، قد لوّح به الراوي متحديا من يقرأ الرواية:(هل عرفتَ السر)؟!! لأنّه يبث الإشارات ويضع العلامات، خلال السرد:(لم يكن يدري كيف جرفه التيار ليتحول بين عشية وضحاها إلى منحرف محترف، والغريب أن التربية التقليدية التي تلقاها من والديه لم تكن حصنا منيعا يحميه من مخالطة عصابات السوء)15 ونحن نقرأ هذه الجملة، ستحيلنا أن الجريمة التي ارتكبها بعد (مخالطة عصابات السوء)،ربما هي المتاجرة في المخدرات، أو السطو للسرقة، ومثل هذه الجمل _ الاستدراكية، يبثها الراوي_ السارد، خلال فصول أجزاء الرواية، (.ودّ أبوه لو وجد ابنه الإحاطة النفسية الاجتماعية حتى يندمج من جديد في مجتمعه الرافض له) 11، (ولكن عثمان يظل انسانا ولابُدّ للمجتمع أن يعيد إليه انسانيته، بالبحث عن الأسباب التي جعلته ينحرف عن المبادئ الإنسانية).
هذه مجرد نماذج يشير بها (الراوي الضمني _ الذي ينشئ معمار القصة التي كتبها المؤلف الواقعي)، ويأتي بعده الراوي الذي يبذر الكثير من الألغاز عبر لغة بسيطة وقريبة، ولكن العمق يكمن في (المتن)،حين أفتش هذي الجمل والعبارات (الإشارات الدّالة)، فأجد عالما يرسمه هذا الراوي مع السارد، يغوصان بنا في دخيلة هذا الشاب البسيط، ولكنه أيضا يمتلك صفاتا مثلى، صفات جعلت منه هذا العاشق_ القائد “الدموي”، ولم أستغرب حيلة هؤلاء (المؤلف الضمني_ الراوي _ السارد) وهم يتلاعبون بي، يبثون إشارات عن هذي العلاقة الحميمة.
حيث عثمان وأحلام (هو أحبٍها من النظرة الأولى، وهي أحبته من اللقاء الأول)، تنمحي ذكراها ثم تنهض فجأة (امّحت صورة أحلام التي بقي يحبها من مخيلته، منذ خروجه من السجن) 21 (كأنه محاها بممحاة) وهي التي (من أجلها تحولت حياته إلى معاناة)، (انقطعت اخبارها تماما وهو مُصرّ على طي صفحة الماضي بعد كل هذه السنين) 21، ولكن هذا العاشق، كلما واجه أزمة وأحتاج إلى مرفأ، تعود هي إلى واجهة تفكيره، وهكذا بعد سجنه ليومين وقراره ألا يعود للمسجد (ظلّ يبحث بوسائله الخاصة عن أحلام التي امّحت من مخيلته أو كادت، وها هي صورتها تعود ناصعة أمامه فجأة)24، واستوقفني تكرار الراوي للفعل (امٍحى).
حيث (محى الشيء _ أذهب أثره) و(انمحى الأثر_ اختفى وانطمس)، إذا هذا (المحو) مجرد كبرياء لأن هذا العاشق في أحيان (يقوده التذكر إلى حالة شبيهة بالمرض وهو من عُرف بالشدة والصلابة، ألم يقضِ عشر سنوات كاملة يتعذب دون أن تنزل من عينيه دمعة واحدة) 24. ولكن هذه المشاعر تجتاحه (كلما وجد نفسه وحيدا منبوذا مدحورا)24،
إذا هذه المعشوقة كأنها نقطة ارتكاز حتى لا يسقط ويتداعى وربما يتلاشى(أعادته همومه إلى نقطة الصفر، إلى عزلته التي تضيق عليه الخناق وتمنعه من التنفس)25
وظلّ التساؤل عالقا عند رواد المسجد (حين انقطعت أخباره فجأة ولم يعد يتردد على المسجد) 24، ثم عادت سيرته حين فاجأه البوليس(صحبة ثلة من معارفه القديمة بصدد إكمال ما تبقى من سيجارة الكانبيس؟/ الماريجوانا) 25،وهكذا (حين أفاق وجد نفسه داخل حجرة مظلمة يعرفها حق المعرفة)25.
إذا مرة أخرى يعود (عثمان النيساوي) إلى السجن ويقضي عاما وشهرا، (الأشهر الثلاثة عشر التي قضاها في سجن (صفاقس) كانا في نظره بمثابة النزهة الرائقة) لقد التقى هناك بشخصيات عدة، طبيب وصيدلي ورجل أعمال (زلّت بهم هم أيضا القدم)25، وكان يستمع لحكاياتهم (ويحس بشيء من الارتياح لأنه يرى أنٍه ليس الوحيد الذي أذنب 25، ورحلت أمّه وهو بالسجن (ظلٍ أيام لم تنفك عيناه عن البكاء … كان البكاء مُرّا)27، (لاشك قد وافتها المنية والغصة تمزق كبدها لأنها لم تودع ابنها الذي تحبه)27و (تذكر أباه الذي تركته زوجته وحيدا)،.. وظلت التساؤلات تنقر رأسه حين (لم يبق من العقوبة إلّا أشهر) 28، ساوره القلق بدأ يفكر في المواجهة المرتقبة وفي (أنياب المجتمع التي ستنهشه نهشا بمجرد أن تراه) هو (صار منشغلا بيوم غد، حين يجد نفسه من جديد في الشارع بلا عمل وبلا أمل) ربما تمنى ألٍا يخرج،(هو لا يريد أن يعود مرة ثالثة إلى هذا الجحيم) ولكن انتهت المدة (ها هو من جديد أمام باب السجن الكبير) لم يفرح بخروجه فهو يعتقد (أن سجن المجتمع أشد عسرا)، هذه الإشارات التي يبثها السارد في ثنايا السرد، حيث الراوي يروي لنا هذه القصة، كأنهما ينشآن إطارا من الأفكار،التي تتسلل لوعينا لتكوين صورة عما يحدث، وكأنّه حتمي أن يقع، فما بالك وهذا الشاب الذي جرّب السجن، أن تكون محجوزا وراء القضبان وأن يتم إذلالك فعلا، ورغم ذلك فهو يعتقد (أن سجن المجتمع ….سجنا لا يرحم من زلّت به قدمه)، وها هو (حين دخل البيت سمع أنينا منقطعا يشبه الحشرجة)28وكان هذا (أباه طريح الفراش)، و(كأن الروح كانت في انتظار عودته قبل أن تُرفع إلى ربٍها) 29، وقد قام (إمام المسجد بالواجب احتراما للميت) ورأى عثمان هذا (عملا مثاليا وطفق يردد أمام الملأ وهو بالجبانة ” مازالت الرحمة في العباد “)،كأن هذا المجتمع بهذا الفعل الطبيعي (إكرام الميت بدفنه) قد أعتذر من عثمان ولكن بإظهار الرحمة التآزر في الملمات، وكأنه أيضا إشارة لقبوله مجددا رغم سجنه للمرة الثانية، ورغم تركه للمسجد فإن الإمام أشرع له الباب مجددا كي يعود إلى الرحاب.
في الجزء (3)32 من هذي الرواية المقسمة لتسعة أجزاء تتقارب في عدد صفحاتها، إذا في هذا الجزء سيكشف الراوي علاقة (عثمان) الذي (عاد من جديد إلى المسجد بعد أن أقسم ألّا يعود إليه) وبهذه العودة (أحس بأن قلبه رقّ بعد طول المحنة التي عاشها، صار هشّا سريع التأثر إلى حد البكاء، أحس لأول مرة بالرغبة في البكاء والإمام يلقي خطبة الجمعة)و(آخر ما شده في خطبة الأسبوع الماضي موضوع الجهاد، أطال فيه الإمام وأطنب وحرّك مشاعر الحاضرين بقدرته الفائقة على الخطابة وبأسلوبه الحماسي) حتى أن بعض الشباب عند خروجهم من المسجد (ردد …. الجهاد الجهاد.. ضد الظلم والفساد) أمّا هو عثمان (خرج ذلك اليوم متحفزا على غير عادته)32 وفي (داخله بركان يشتعل على أهبٍة الانفجار) وهو أيضا (لم يكن يعي بوضوح معنى الجهاد، لذلك كان حذرا بعض الشيء)33، ويفشي الراوي لنا(أن هذا المسجد بالتحديد الخارج عن مراقبة الشؤون الدينية) وأن (مجموعة من الشباب الملتحي صارت تسيطر على شؤون المسجد) وهؤلاء هم من اختار(هذا الإمام ليؤم الصلاة لما وجدوا فيه ….. من علم غزير وجرأة على طرح المواضيع الحساسة والحارقة)، وسيضع الراوي مع صديقه السارد جملا او استدراكا هنا وهناك عن هذا الشاب عثمان الذي ربما (في هذه المرة قد وجد ملاذه الأخير)، و لكن ذكرى السجن لأول مرة بعد ذلك الجرم، والذي لن يفشي سره المؤلف الضمني ولا الراوي العليم، ولكن سنجد الإشارات الدّالة على هيئة سردٍ لحدث ما، وإذا في تذكره سنجد هذا اللغم والذي سيتركنا في تساؤل، ويجعلنا نسابق الوريقات، نواصل القراءة كي نعرف (هذا الجرم) والذي حين نطق بالحكم و(بعد طول انتظار مرير)حيث تم (التصريح بالحكم) هذا اليوم ظل(راسخا في ذهنه لن ينساه)وسيأتي الاستدراك (ولكن الغريب في تلك اللحظة أنّه لم يشعر بشيء من الندم) بل (اعتبر ما أقدم عليه عمل بطولي)، إذا هذا الشاب العاشق والذي حكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما، لم يندم، واعتبر الجرم أو الجريمة التي قام بها (عملٌ بطولي)، ونظل نتساءل: (جريمة حكم عليه بسببها بالسجن لمدة عشرين عاما ولكنه لم يندم واعتبر ما قام به عمل بطولي)، ولكنني كقارئة أكملت قراءة هذه الرواية، وبعد عدة أجزاء، عرفت هذا الجُرم الذي قام به (.عثمان)،وهكذا سأقوم بإخباركم، حتى أواصل معكم محاولة الفهم، لما آلت إليه حكاية هذا الشاب الودود الرهيف المشاعر.
كيف غدا من عاشق إلى قاتل؟ كيف تحول (ذلك الشاب الوسيم المحبّ للحياة)85 إلى هذا الشخص(حين تراه تزعجك صورته البشعة المخيفة والمفعمة بالحقد والكراهية)47؟ كان عثمان الشاب المرهف والذي يملك مستوى معرفي، والأجمل هذا العاشق الذي كلما ضاقت به الحال يتذكر حبيبته(أحيانا وهو غارق في كوابيسه تراوده فكرة البحت عنها)34،هذه التي (أحبّها من النظرة الأولى وهي أحبته من اللقاء الأول)35يتساءل وهو غارق في حيرته (ربما تتغير حياته تماما لو عثر عليها)35، ولكن خوفا يتآكله (لو عثر عليها فما عساه يفعل، هل….. ينسيها المشهد الذي رأته أمامها) ويبذر الراوي أو السارد استفهاما (أكان عثمان جديا حقا في حبه لها ؟ أليس من أجلها قام بذلك العمل) هل حقا (الحب هو الذي أعمى بصيرته ذلك اليوم، فتصرف مثل ذلك التصرف)34،أتدرون ما هذا التصرف والذي أخفي عنّا، وفجأة في الجزء7 ص76، هذا الجزء المليء بالأحداث، حين صار عثمان (الزبير ابن أبي صعصعة)، صار أميرا وقائدا لمجموعة او فرقة جهادية تتبع تنظيم الدولة الإسلامية والتي اتخذت من مدينة الرقة السورية معقلا لها، ولكن (لم يدر الزبير وهو في منصب القائد، كيف أعاد إليه الوسواس الخناس صورة أحلام فجأة هكذا من جديد على حين غرّة)51، ولكن كان تذكرها سابقا يمنحه الأمان لأنه عثمان، أمّا الزبير الذي (يحاول أن ينساها في اليقظة لكن نفسه تلجأ إليها في النوم) 51لكن ثمة ما يؤرقه لأن (ما تتركه هذه الصورة التي يراها في منامه، من ألم ومرارة) ترى لماذا ؟!(لأنها تحي فيه ذكريات ملطخة بالدم كم ودّ لو تمحى من ذاكرته)،وحتما دون حتى أن يفاجئنا الراوي والسارد سنخمّن أن (العاشق عثمان) حتما سيلتقي (المحبوبة أحلام) وأين ؟ في معقل من معاقل (داعش)* وكيف كان اللقاء – أحلام صارت جهادية في فرقته وتقدمت إليه كي تؤكد أنها راغبة في القيام بعملية انتحارية _ (عدد الوافدين والوافدات الجدد …. كان قليلا) 66، وكما يقول الراوي عن الزبير ابن أبي صعصعة (ظل مدة يقوم بغسل الأدمغة بشكل متواصل بالليل وبالنهار وإثر كل صلاة) وذات يوم (تقدمت إليه منقبة متطوعة وقد أبدت استعدادا لا مثيل له) فدعاها الأمير (ذات عشية لتدارس الأمر في خلوة)، والجهادية المنقبة (تسرد حكايتها .. منذ انخراطها في جمعية شبابية راديكالية وانتقالها إلى تركيا ومنها الى سوريا)67، وكانت المفاجأة والتساؤل من الأمير (ألست في نهاية المطاف، وكأني واثق من احساسي، أحلام التي التقيتها بمصلحة البريد…؟) و(سرعان ما أغمي عليها، أخست في تلك اللحظة أن ماضيا بعيدا، ظنته طوي يعود فجأة وبأية كيفية يعود؟ لم تجبه لأن الكلمات لم تعد قادرة على مغادرة شفتيها) واكتشفت من وراء ذلك الشكل (هو عثمان الذي ترك في قلبها ذكرى لم تُمّح)67، ولكن الظروف الآن (تتطلب رباطة الجأش وعدم الانسياق السريع وراء العواطف على حساب الواجب) ولكن هل يستطيع هذا العاشق والذي عادت حبيبته بعد كل هذا الغياب (هل يكون قادرا الآن أن يوكل إليها تلك المهمة)،التساؤلات والتخمينات (وهما تحت تأثير الصدمة)68ثم (قام عثمان فجأة من مكانه متسلحا بشجاعة من تيٍمه الحب، فقبّلها في فمها ثم في كامل وجهها كأنه ظمآن اشتد به العطش فارتمى على عين ماء يرتوي) ثم (التصقت شفتاه بجيدها طويلا قبل أن ينتزعهما انتزاعا وتتركا أثرا كالوشم) وكان أن (أقسما أن يدعا الأمر سرا دفينا بينهما إلى أجلٍ غير مسمى).
سيكون الجزء6ص69،وسيبذر هذا الراوي صحبة السارد تلك الجمل والعبارات والتي تستعيد ذلك الحدث (المخفي حتى في هذا الجزء)، وها هو الزبير يعود لذلك الشاب (عثمان) ولكن ما أثقل (هذا العبء الثقيل من العواطف والأحاسيس)، (صار مشهد مكتب البريد أمامه لا يتزحزح) ولكن كيف (يؤلمه بقدر ما يفرحه) طبيعي جدا هذا الشعور، لأنه لم يندم على ذاك الفعل (الذي مازال طي الكتمان) (يوم صدر عنه ما صدر وحكم عليه بالسجن لا تستطيع ذاكرته أن تنساه)، وكانت هي الحبيبة التي عادت إليه تتذكر (ذلك الشاب الوسيم المحب للحياة)85، تتذكره وهي تستعيد تفاصيل(استقطابها بطريقة غريبة الأطوار) خطوات مدروسة حتى التأكد من (أن الرسالة قد أينعت وحان قطافها تمر إلى التأكيد على ضرورة الحجاب أو النقاب)، ولكن أحلام (متفطنة تماما لما ينسج حولها) 86، فما الذي سيحدث الآن هل يترك العاشق حبيبته تقوم بالعملية الانتحارية؟ (لم يعد عثمان يهتم بالجهاد الذي ذهب من أجله) ولكن صار يفكر أن الجهاد بعد لقاء الحبيبة (ضد الجهاديين لتخليص حبيبته من قبضتهم).
وها هو الراوي يرأف بنا أو يؤكد عنف هذه المشاعر التي تضطرم في صدر العاشق عثمان لحبيبته أحلام، فيتركه يستعيد تلك الذكرى (يوم دفعته الغيرة والطيش حين رأى أحلام تحادث شابا وسيما يفوقه طولا وجمالا، ودون أن يفكر أراد وفي شيء من العنجهية، أن يظهر أمامه فتوته ورجولته فهجم عليه وظل يضربه دون شفقة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة)، إذا هذا هو (الجُرم _ الجريمة) التي أرتكبها هذا العاشق (.بدافع الغيرة والحب) حتى أنه (لم يكن يدري كيف خفت يده فجأة وكيف سدد اللكمة الرّهيبة التي أفقدت الغريم صوابه وإلى الأبد) 87.
لكنها الآن هنا وهما معا، وكان للعاشقة التي وجدت حبيبها أخيرا، (أنت الآن هنا لإسعادي لأنك تحبني، أنت تحبني، أليس كذلك)83 فيجيبها (املي علىّ اوامرك، أنا تحت امرك) (اطلبي ما شئت) وكان الطلب (أريد أن انعم بالحياة من جديد بعد أن شاءت المقادير أن أبقى حية)، وتتواصل الحكاية، وتكون هي الأكثر حزما حين أرادا الهرب (أرجو أن نجد أنفسنا بعيدين عن هذا التنور الملتهب)89، (الحل الوحيد في اعتقادي هو البحث عن مُهرِب يخرجنا من هذا المستنقع …… ثم ماذا ننتظر بعد سقوط الرقة عاصمة الدولة الإسلامية المزعومة؟) 91، في الجزء(8)95 سيتابع الراوي إخبارنا (لم تكن ليلة الهروب سهلة) (كانت هي أيضا كابوسا أرّقه ليالي عديدة، منذ أكثر من شهر وهو يخطط بإحكام وفي سرية).
ولكن هي كانت واثقة: (أنا على يقين من أن هروبنا سيكون سالما، لا تفكر في الصعوبات قبل مواجهتها، هدفنا الرئيسي هو مغادرة المكان بسلام)97.
كانت محاولة للنجاة، للبدء من جديد، (استقبلهما أحد المشرفين على المخيم بادرهما بالتحية)99، اخترعا الحكايات عن هروبهما (كانت هذه الأكاذيب شكلا من الحماية الذاتية)100، (ناما ليلتهما بالمخيم تحت غطاء واحد نوما آمنا لذيذا لم يعرفاه منذ أشهر طويلة).
لكن هل سينجو؟ إنه السؤال الذي زرعه الكاتب الواقعي صاحب القصة والقصة بنى معمارها الكاتب الضمني (العالم بالظروف المحيطة بشخصيات القصة) ليتولى الراوي قصّ الحكاية علينا، نحن المشاركون في تأثيث رؤية (قد تكون مغايرة) أو تتساوق مع رؤية الكاتب، انظر إلى هذا الشاب الوسيم العاشق وهو يتدلى (مشنوقا في أعلى شجرة الصنوبر العالية)103، كيف تحول ذاك الحنون (الذي لا يقدر على إيذاء نملة) إلى هذا الأمير الجهادي الدموي، وهل سينجو بعد ذلك (أصبح في حالة نفسية متأزمة)102، (في داخله بركان يشتعل) وأخبرنا (الراوي العليم) أنه (الوحيد الذي باستطاعته تحظيظ مصير بطله)، وهكذا جعله (مشنوقا) وهي الحبيبة التي اطمأنت أخيرا حين كانت معه (كأنهما روحان في جسد واحد)100، ولكن ها هي وحيدة ينخرها سؤال (هل أقبل عثمان على الانتحار، أم تمّ شنقه وموته انتقاما؟)104 وهي الآن (وحيدة لا سند لها ولا أنيس، الدنيا أمامها ظلام دامس) 104..
ما الذي سيحدث في الجزء(9)105، سيكمل الكاتب قصته والراوي العليم يواصل الحكاية، ..كيف ستنتهي؟؟؟
لا شك أن الحب والموت في أغلب قصصنا متلازمان، وهكذا ستختطف أحلام لتجد نفسها (مكبلة بالسلاسل)108، ما الذي سيحدث لها بعد سجنها في زنزانة مظلمة، (قِيدتْ ذات يوم حتف انفها، إلى سوق شعبية مكتظة بالناس للقيام بعملية انتحارية)؟؟!!! 109.. من باب السجن الكبير إلى باب بيتهم وحتى باب المسجد، غدت رحلة (عثمان) رحلة تراجيدية، وصار بطلا تراجيدي رأي نهايته المأساوية، وهي البنت التي كان اسمها دلالة على الأحلام المغدورة، الأحلام العادية التي صارت (مستحيلة).
حاولت أن تنجو، بحثت عن طريق، التقيا مجددا هي وهو، ولكن الأمل الكاذب لا يتقنه (الراوي العليم) ويرفضه (المؤلف الحقيقي) هكذا استجاب السارد للراوي الذي كان المؤلف الضمني يخبره كل التفاصيل، وكان أن حاولتُ هذه القراءة.
الهوامش:
الكابوس رواية الكاتب الشاذلي الفلاح(الرواية الحائزة على المركز الأول في مسابقة ماهي الأدبية بمصر _ صدرت طبعتها الأولى عن دار ماهي 2019..
الطبعة الثانية صدرت بإضافة عنوان شارح (الكابوس _ الوهم الدّاعشي)، عن مطبعة: قوبعة صفاقس .. الثلاثية الأولى 2024 (ربما يقصد الكاتب ان هذه الرواية ثلاثية وهذا الجزء الأول).
* التضمينات الموجودة في القراءة من كتاب: المصطلح السردي (معجم مصطلحات)، تأليف: جيرالد برنس، ترجمة: عابد خزندار، مراجعة وتقديم: محمد بريري، إصدارات المجلس الأعلى للثقافة(2003)، القاهرة _ مصر.