إذا كانت الثورةُ في زمن الاستبداد والطُّغيان مُجرَّدُ حُلمٍ عَابرٍ، فإنَّ تحقيق التغيير بعد نجاح الثورة حُلمٌ كبيرٌ باتِّسَاعِ الكون؛ لأنَّ إسقاط الأنظمة الديكتاتوريَّة خُطوةٌ أولى في طريق التغيير الشَّامِلِ الذي تنشدُهُ الشُّعُوبُ، وتطمَحُ ألاَّ تكُونَ الثورةُ فقط على رأس النظام دُونَ باقي المنظُومة التي يشتغلُ بها، ويُكرِّسُ سيطرتهُ من خلالها على البلاد والعباد، فالثورةُ (Revolution) قبل أنْ تكُونَ تغييراً لنظام الحُكم القائم هي فعلٌ فكريٌّ بامتياز، يهدفُ إلى تحقيق النهضة المنشُودة، وإعادة قراءة الذات والآخر، وإنقاذ المُجتمع من براثن الاستبداد والتسلط، وهي بشَكْلٍ عَامٍّ تتكوَّنُ من مجمُوعَةِ مَرَاحِلَ فرعِيَّةٍ تجمعُهَا علاقاتُ اعتمَادٍ مُتَبَادَلٍ، ولذَلِكَ يَرَى بَعضُ المُفكِّرينَ أنَّ الثورَاتِ تُعْتَبَرُ مِنَ “الظَّوَاهِرِ الاجتِمَاعِيَّة الكُليَّةِ التِي تُعبِّرُ عَنْ وَعيِّ البَشَرِ بِذَوَاتِهِمْ وَبِأوْضَاعِهِم تجَاهَ الغَيْرِ”، وَهِيَ فِي نَظَرِي عَمَـلٌ مُتمـرِّدٌ وَخَـلاَّقٌ ومُسْتَمِرٌّ، يَصْنعُ وَاقِعـاً جَدِيداً، تتغيَّرُ مَعَهُ الظُّرُوفُ وَالمُعْطَيَاتُ الاجْتِمَاعِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالاقتِصَادِيَّةُ وَالثقافيَّةُ تغيُّراً جَذْريّاً، عَلَى اعتِبَارِ أنَّ الثورة لِكَيْ تَتَحَقَّقَ بالفعل ينبغي أنْ يَحدُثَ تغييرٌ تامٌّ للعلاقات الاجتماعيَّة القَائِمَةِ بَيْنَ الأفراد، وَالتِي يَقُومُ عَلَيْهَا النِّظَامُ الاجْتِمَاعِيُّ. ليست الثورَةُ إذاً مُجَرَّد تغيير سَطْحِيٍّ بَاهِتٍ، أَوْ حَدَث عَابِر فِي حَيَاةِ الشعُوب، بل على العكس من ذلك تماماً، إنها أكثرُ عُمقاً وتعقيداً، وإثارةً للأسئلة والتوقعات المُستمرَّةِ؛ بسبب البحث الدائم عن نتائجها، والتطلُّعِ إلى مآلاتهـا، وخُصُوصاً إِذَا حَدَثَتْ تِلْكَ الثَّوْرَاتُ فِي مُجْتَمَعَاتٍ عَانَتْ لِعُقُودٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الانْسِدَادِ السِّيَاسِيِّ وَالقَمْعِ وَالتَّخَلُّفِ كَمُجْتَمَعَاتِنَا العَرَبِيَّةِ الطَّامِحَةِ إِلَى التَّغْيِيرِ وَالمُتَعَطِّشَةِ إِلَى التَّقَدُّمِ، وَالخُرُوجِ مِنْ دَائِرَةِ الانْتِكَاسَاتِ المُتَعَاقِبَةِ عَلَى كَافَّةِ الصُّعُدِ، سَوَاءٌ السِّيَاسِيَّةِ مِنْهَا أَوِ الاقْتِصَادِيَّةِ أَوِ الثَّقَافِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَـا..، وَهُوَ الأَمْرُ الذِي دَفَعَ بَعْضَ الكُتَّابِ وَالمُفَكِّرِينَ العَرَبِ إِلَى المُرَاهَنَةِ عَلَى ذَاكَ الحِرَاكِ الثَّوْرِيِّ، الذِي أَصْبَحَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ حَسَبَ رَأْيِّ الكَاتِبِ وَالمُفكِّرِ المَغْرِبِيِّ مُصطفَى مُحسن فِي كِتَابِهِ (بَيَانٌ فِي الثَّوْرَةِ): “مِنْ قِبَلِ مُجْمَلِ الشُّعُوبِ العَرَبِيَّة الثَّائِرَةِ وَنُخَبِهَا وَقِيَادَاتِهَا مِنَ الشَّبَابِ وَالقُوَى وَالفَعَالِيَّاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى أنَّهُ بِمَثَابَةِ بِدَايَةِ عَهْدٍ ثَانٍ مِنَ الاسْتِقْلاَل، تَتَحَرَّرُ فِيهِ مُجْتَمَعَاتُنَا هَذِهِ المَرَّةُ لاَ مِنَ الاسْتِعْمَارِ الأَجْنَبِيِّ البَائِدِ فِي شَكْلِهِ التَّقْلِيدِيِّ، وَإِنَّمَا مِنَ الاسْتِعْمَارِ الدَّاخِلِيِّ الذِي تُمَثِّلُهُ دَوْلَةُ الاسْتِبْدَادِ وَالفَسَادِ وَالقَمْعِ وَالحُكْمِ الشُّمُولِيِّ”، وَيَطْرَحُ ذَاتُ الكَاتِبِ سُؤَالاً مُهِمّاً هُوَ: “كَيْفَ يُمْكِنُ الاسْتِفَادَةُ مِنْ فُرَصِ وَآفَاقِ هَذَا المُنَاخِ الثَّوْرِيِّ الجَدِيدِ فِي إِعَادَةِ النَّظَرِ الفِكْرِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ فِي مُسْتَقْبَلِ النُّهُوضِ العَرَبِيِّ، وَجَعْلِ هَذَا المُنَاخِ رَافِداً لِهَذَا النُّهُوضِ وَرَافِعَةً مِحْوَرِيَّةً لإِمْكَانَاتِ إِنْجَاحِهِ وَتَحْقِيقِ مَقَاصِدِهِ التَّنْمَوِيَّةِ وَالتَّحْدِيثِيَّةِ المُتَكَامِلَةِ؟”، وَهَذَا مِنَ الأَسْئِلَةِ المُهِمَّةِ التِي تَتَطَلَّبُ المَرْحَلَةُ العَرَبِيَّةُ الرَّاهِنَةُ مُحَاوَلَةَ الإِجَابَةِ عَنْهَا، وَحَشْدَ كُلِّ الطَّاقَاتِ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ فِي وَاقِعِنَا الحَالِيِّ بَعْدَ الثَّوْرَاتِ العَرَبِيَّةِ، وَدِرَاسَةِ هَذَا الوَاقِعِ بِمَوْضُوعِيَّةٍ، مِنْ أَجْلِ التَّعَرُّفِ عَلَى النَّتَائِجِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى الحِرَاكِ الثَّوْرِيِّ فِي كُلِّ الدُّوَلِ التِي حَدَثَتْ فِيهَا ثَوْرَاتٌ شَعْبِيَّةٌ، كَمَا أنَّ الأَمْرَ يَتَطَلَّبُ مُرَاجَعَةً نَقْدِيَّةً مَوْضُوعِيَّةً لِكَثِيرٍ مِنَ التَّوَجُّهَاتِ وَالمَفَاهِيمِ الفِكْرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّأمُّلِ وَإِعَادَةِ قِرَاءَةِ الأُمُورِ بِنَظْرَةٍ مُتَرَوِّيَةٍ ثَاقِبَةٍ، تَسْتَهْدِفُ تَصْحِيحَ الأَخْطَاءِ إنْ وُجِدَتْ، وَالإِشَادَةَ بِالإِنْجَازَاتِ الجَيِّدَةِ، وَالبَحْثَ عَنْ سُبُلِ تَطْوِيرِ مُجْتَمَعَاتِنَا، وَمُعَالَجَةِ كَافَّةِ العَقَبَاتِ التِي قَدْ تَحُولُ دُونَ إِحْدَاثِ التَّغْييرِ الإِيجَـابِيِّ فِيهَـا، فَكُلُّ الشُّعُوبِ بِانْتِظَارِ أنْ تَجْنِيَ ثِمَـارَ الثَّوْرَاتِ، وَأَنْ تَلْمَسَ التَّغْيِيرَ وَاقِعـاً مُعَـاشاً، لا شِعَـارَاتٍ بَرَّاقَـةٍ.