المقالة

الغزاة لا يأتون بالضرورة من خلف الحدود

كان الكُمُّ على الكُمِّ، والرمة على الرمة، نحيب الجوع والفقد هو الصوت الذي يطغى كلما يخمد الجميع بفعل النوم، وكانت كل مساء تمر الشاحنة لتجمع جثث الموتى وتمضي بها، كل يوم من عشرين إلى أربعين جثة، ولا أحد يعرف كيف وأين دفن صاحبه، حتى الدموع جفت وغدا البكاء وراء كل فقيد جافاً.

هكذا كان أبي يحدثني، بلهجته التي أنقلها للفصحى، عن الزمن الذي قضاه في معتقل العقيلة إبان الاحتلال الإيطالي. في تلك الفترة كان شاباً في بداية العشرينات من عمره، وكانوا يستعينون به، مثل غيره، في أعمال السخرة ومن ضمنها كيل الشعير الذي يوزعونه على الأُسر. حصة كل عائلة كيلو جرام من الشعير طيلة اليوم.

كان الصمت المطبق لا يتخلله سوى الأنين وجعجعة الرِّحِي بما يسد الرمق أو بدون طحين، يصاحبها مهاجاة الأغاني الحزينة التي ترثي الزمن الجميل والفرسان الذين قضوا دون عزاء أو ندابات. كان أبي يتيم الأب والأم في قطعة قاحلة من الصحراء تحيط بها الأسلاك الشائكة، ولأنه كان يعمل مجبراً في كيل الشعير، يكافأ آخر اليوم بكيلوجرام إضافي، مما يجعل العائلات الأخرى تتسابق على استضافته، وكان لا يفتأ يحدثني عن تلك الأيام طالباً مني كلما سنحت الفرصة أن أقرأ له قصيدة شاعر المعتقل رجب بوحويش “ما بي مرض غير دار العقيلة” حتى أنني حفظتها عن ظهر قلب. عاش أيام وليالي المعتقل، ويدرك جيداً مدى الألم الذي حملته هذه القصيدة ونقلته بصدق.

عاشق لم أر مثيله للوطن، ويذكرني هذا العشق بقول هنري ميلر: “إننا نحب المكان الذي نتألم فيه”. وكأن هذا العشق المازوخي هو قدر المتشبثين بالوطن. لن أنسى الأوقات التي كنت أرى فيها البريق في عينيه عندما يحدثني عن شقيقيه اللذين ماتا في حروب المقاومة، حسين الشاب الفتي والوسيم الذي قتل في معركة القرقف، وأجبرت قرينته فيما بعد على الزواج من ضابط إيطالي نافذ، وشقيقه المبروك مفتاح الذي قتل في كمين نصبه هو ورفيقه لدورية إيطالية في طريقها إلى المخيلي، ولقد رحل أبي في بداية الألفية الثالثة وهو يرفض أن نسجلهما في قوائم الشهداء، لا إنه يؤمن بشدة أنهما في سجل خالد يجب أن لا نسحبهما منه، وأن لهما مكافأة عند الله علينا أن لا نطمع فيها في الدنيا، أو كما يقول دائما: ماحد يجمّل عالوطن.

عندما تم تصوير مشهد شنق المختار من فلم (أسد الصحراء) في قريتي (القيقب)، تحول معظم سكان القرية إلى كومبارس، فكان أبي وأمي، لفترة أسبوع، يرتديان ملابس الفلم الرثة ويذهبان كل صباح للتصوير، وكنا نمازحهما بالقول أنهما محظوظان لأن أول أدوراهما السينمائية كانت مع انتوني كوين وإيرين باباس أبطال فيلم زوربا، لكن أبي كان سعيداً لأنه مشى أخيراً في جنازة عمر المختار، أما عمتي عازة مفتاح البالغة من العمر آنذاك الثمانين- التي كانت في أحد أدوار الجهاد ضمن المتطوعات لخدمة (المحافظية)، وتعرف عمر المختار شخصياُ- كانت لا تتوقف عن البكاء حتى عندما ينتهي التصوير، وكان على المرحوم عبدالسلام قادربوه، المشارك في إخراج هذا المشهد الشعبي، أن يهديْ من روعها، محاولاً أن يقنعها أن ما يحدث مجرد تمثيل، لكن شخصية أنتوني كوين الشبيهة بعمر المختار لا تفتأ تجدد حزنها وجراحها، وطيلة أسبوع كان يُعاد تصوير المشهد، وطيلة أسبوع كانت عمتي تعود متورمة العينين، ولا أحد يستطيع أن يقنعها بأن ذاك الزمن ولى ولم يعد، ولا أحد بإمكانه أن ينزع منها فرصة أن تبكي عمر المختار، الذي شنق في زمن جفاف الدمع، بما تبقى في ذاكرتها من وجع ودموع.

تلك المحاكاة السينمائية لتراجيدايا مجتمع، مازال بعض ضحاياها أحياء، يستحث الذاكرة بكل ما فيها من ألم، ويقطع ذلك الحاجز الرقيق بين المخيلة والواقعة، لكن أبي الذي كان يأتي كل يوم من مكان التصوير محايدا، ومعتبرا تلك الملابس الرثة التي وزعت عليهم ترفا لو وُجدت في ذلك الزمن، كان يدرك أن اختزال هذا الزمن في مشهد شبه مستحيل، خصوصا عندما يتجاوز المشهد تفاصيل تلك الحياة الصعبة التي عاشها والجميع في ظل الجوع والقهر، كان معنيا بالتفاصيل أكثر من تلك الأحداث الكبرى التي تغري صناع الدراما التاريخية، لذلك كنت أستعيد أمام حياده تجاه ما يحدث في الفلم، بريقَ تلك الدموع الحارنة التي تظهر خلف ما تبقى من أهدابه البيضاء حين كنت أقرأ له قصيدة فرج بوحويش، التي توغل في تقنيات الوصف الموجعة لأحد أشرس المعتقلات في التاريخ.

تلك القصيدة تقع أيضا في حقل الفن المتجه إلى أرشفة الألم الإنساني، وهي إذ تستحث- كل مرة- ذاكرة أبي، فهي لكونها نتاج ذاك الألم ومعايشته اليومية، وليست رؤيا متأخرة للحدث حين يكون في ذمة التاريخ، لذلك تقف حرارة الوصف فيها وطزاجته وراء حضورها القوي في ذاكرة مجتمع كامل، ووراء تأثيرها العميق في كيان أبي كلما أصغى إليها بكل حواسه، وتلقائيا كنت أتشرب فعلها في ملامح أبي، وكنت أدرك قدرة الشعر على أن يجعل من التاريخ سؤالاً أخلاقيا تجاه الحياة والإنسان والمصير، والأهم من ذلك اختراق الفن للألم بشكل يجعله مكانا أيضا لتربص الجمال، ولفتنة اللغة حين تستبدل الصورة الصامتة بالمشهد الشعري المتحرك، وبذلك الوصف الحسي لوقائع مؤلمة تضع فكرة القهر في صميم المعالجة الشعرية، وصدمة الإنسان المخدوع بوهج الحضارة حين تُفرّغ من مضمونها الأخلاقي، ولكن في الوقت نفسه لا تنسى هذه القصيدة، التي ولدت وسط الجراح والموت الجماعي، لا تنسى فكرة الأمل التي يدسها الشاعر في نهاية هذا السرد الشعري، لأن الشعر مهما أحدقت به العتمة لن يكف عن تقصي تلك الأضواء التي تتسرب من كوى الروح مهما كانت خافتة.

ربما لكل هذه الأسباب أهدى القاص عمر أبو القاسم الككلي، للشاعر رجب بوحويش، كتابه (سجنيات) الذي يرصد فيه روح المقاومة والأمل الذي لا يفتر عبر وقائع كان شاهدا عليها في قلب معتقل الفاشية الوطنية (الوطنية بمعناها الجغرافي وليس القيمي)، وهو المفهوم الجغرافي الدارج الآن مع الاستخدام الكثيف لهذا المصطلح.
منحتني قصيدة بوحويش التي كان علي أن أكرر قراءتها الكثير مما أدين به لها، ومع الوعي ما برحت تلهمني الإيمانَ بما يعزز جدوى الفن ودوره الأساسي في أرشفة الروح الإنسانية، والأهم من ذلك قدرته على إنتاج تاريخ موازٍ، له زمنه الخاص، وله القدرة على أن يجعل من الذاكرة مخزنا شاسعا لكل ما يعزز قدرة الحياة على أن تستمر.
_______
هوامش على ما حدث:

* حدثني ابن عمي إدريس السنوسي، الذي كان طفلا لا يتجاوز الخمس سنوات في معتقل العقيلة، بأن الأطفال يبكرون كل صبح إلى سياج المعتقل ليتفرجوا على الضباع والثعالب وهي تنبش جثث الموتى من تحت الرمال وتلتهمها، حيث كان الطليان ينقلون الجثث يوميا ويدفنونها كيفما اتفق تحت الرمال خلف الأسلاك، وفي مكان مطبق القسوة والظلام تغدو تسلية الأطفال الوحيدة التفرج على الحيوانات البرية وهي تلتهم أعضاء أقاربهم قرب الأسلاك الشائكة.

* عندما كان يتهافت الكثيرون لتسجيل أقاربهم في قوائم المجاهدين أو الشهداء، بعضهم حقيقي وبعضهم مزيف، من أجل الحصول على مكافآت أو مرتبات، رفض أبي بشدة تسجيل شقيقيه، وكان يردد عبارة: الدم والوطن موش تجرة (تجارة).

* عمي حسين مفتاح، كان قد عقد قرانه على ابنة عمه، ثم تطوع وذهب إلى القتال في دور أنور باشا الذي كان يعسكر في منطقة (المقر والطنجي) على مشارف درنة، وقُتل في معركة القرقف. بعد فترة أصر جنرال إيطالي على الزواج من أرملته العذراء، واستعان ببعض المتعاونين معه لإنجاز هذه الرغبة، فأُرغمت على الزواج منه. مِثلُ هؤلاء المتعاونين الذين يتاجرون بالوطن وبالأعراض موجودون في كل وقت، يظهرون في الأزمات بكل انتهازيتهم ليتاجروا في كل شيء دون خجل، وما أكثرهم الآن.

* يبث الشاعر فرج بوحويش شكواه من موت القيم الذي يفوق ألما موت الرجال والنساء. هذه القسوة لا تحدث بفعل الغزاة فقط، ولكنها نتاج انحراف أخلاقي عن ثوابت الإنسانية، يسببه المحتل ويسببه أبناء الجلدة الذين لا يقلون قسوة عن الغزاة، فتنطبق شكواه على ما يحدث الآن، لكنه يدرك أن هذا التشوه بطبيعته مؤقت لأنه ضد منطق الحياة كما أريد لها أن تكون فوق هذه الأرض، حيث في النهاية لا يصح إلا الصحيح.

ما بي مرض غير بعد العماله .. وحبس الرزالة .. وقلة اللي م الخطا ينشكاله.
وغيبة اللي يحكموا بالعدالة .. النصفة قليلة .. والباطل على الحق واخذ الميله.

السجن بلا أدنى حد لأخلاق الإنسانية، وغياب من تشكو له الظلم، وقلة الإنصاف، وميل الباطل على الحق، وبالتالي غياب العدالة. وصف مختصر للجحيم الإنساني الذي من الممكن أن تعيشه في وطنك ومسقط رأسك، وليس بالضرورة أن يكون الغزاة صناع هذا الجحيم، فثمة من يخرجون من قلب الوطن وهم يتغنون به ويجعلون منه معتقلا واسعا، من يمكن أن نسميهم صناع الجحيم الوطنيون(بالمفهوم الجغرافي نفسه للوطني الذي من الممكن أن نطلقه على توصيف اللحم الوطني دون تردد).

وما أكثرهم الآن، صناع الجحيم الوطني، وكل فترة يُعثر على مقبرة جماعية جديدة، وكل مرة نرى جثث الليبيين المجهولة وغير المجهولة مائدة للكلاب المتشردة، تلك الجثث السائبة التي لم توارَ حتى بغطاء خفيف من الرمال.

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (17)

المشرف العام

جدليات فكرية فلسفية .. ديالكتيك اياتي (100/65)

حسن أبوقباعة المجبري

عمر دبوب

منصور أبوشناف

اترك تعليق