لقد كان الرائن على الأغنية الليبية، حتى النصف الثاني من منتصف خمسينيات القرن المنصرم، الطابع الشعبي بتنوع ألوانه، نتيجة ًلاتساع الرقعة الجغرافية لبلادنا، و اختلاف أقاليمها الساحلية و الجبلية و الصحراوية و شبهها، فطال زمن هيمنة الغناء الشعبي في بلادنا لفترة طويلة، على النقيض من بعض الأقطار العربية الأخرى، التي نجح فنانوها الروّاد في النهوض بالأغنية لديهم، بشق الطريق أمام الأغنية الحديثة عبر تجارب كثيرة و تمهيدها بأسلوب علمي، عرف كيف يحافظ على الهوية العربية من الضياع، بالحرص على الغناء على المقامات الموسيقية العربية المعهودة، مع التطوير في الألحان، و مدّها بروح الموسيقا الحديثة و تأثيث التخت الشرقي بعديد الآلات الموسيقية، و محاولة فرز الغناء العربي من كل غناء دخيل، كما أنهم قاموا بتهذيب الكلمات و العمل على إقصاء الكلمة الموغلة في العامية المنغلقة على ذاتها، و تنميق المفردات، باستحضار المفردة العربية الفصحى، أو على أقل تقدير، المشتركة بين الأقطار العربية كلها.
ففي الأصل، كان الغناء العربي، هو ذلك الغناء، الذي لا يُسمَع من كلماته سوى الكلمة المستقاة من معاجم اللغة العربية، قبل ظهور اللحن في الكلمة لا الموسيقا، لكنْ بعد تشتت المسلمين و سقوط عاصمة الخلافة ” بغداد ” على يدي ( هولاكو ) سنة 1258 ميلادياً – أي قبل 751 سنة من سنتنا هذه – التي تلتها سنو الانحطاط الشامل، و على الأصعدة جميعها، و تشرذم العرب، و تقوقعهم كجماعات في أقطار تفصلها الحدود الوهمية، ما أدّى إلى تكريس ثقافة الفرقة و الانغلاق، خصوصاً بعد خضوعهم للمستعمر الأوربي، مع بداية القرن السابق، لكنْ بعد تنامي الشعور القومي و حروب التحرير ضد هذا المستعمر البغيض، و نيل أغلب هذه الأقطار العربية لاستقلالاتها، غدا العرب يبحثون عن هويتهم الثقافية و الدينية و الفكرية المستلبة، ما أسهّم فوراً من حيث الجانب الفني، في بزوغ و سطوع أسماء لفنانين عرب كبار، كان لهم فضل السبق في وضع لبنات الأغنية الحديثة، و ليس على سبيل الحصر، بل المثال، أذكر منهم: ” سيد درويش” و ” الشيخ زكريا أحمد ” و ” رياض السنباطي ” و ” محمد القصبجي ” و ” محمد عبد الوهاب ” و ” فريد الأطرش ” و التابعين لهم، مثل ” علي الشريف ” و ” منير مراد ” و ” كمال الطويل ” و ” محمد الموجي ” و ” الرحابنة ” فكان لهؤلاء، و لغيرهم ممّن لم آتي على ذكرهم – لأنّ القائمة تطول – التأثير الواضح على فناني بلادنا، لا سيما أنهم كانوا على مسافة قريبة منا، فأشرأبوا منهم التحديث الموسيقي، و انعكس ذلك على أعمالهم لاحقاً.
و على الرغم من الصعوبات، التي كانت تقف حجرة عثرة أمام الفنان في ( ليبيا ) في العقود الستة المنفرطة، إذا ابتغى أنْ يعلن عن نفسه، خصوصاً من حيث الجانب الاجتماعي، كما أنه كان يصعب على الفنان حينذاك، أنْ يحاول مجرد المحاولة، أنْ يخرج على الناس بلون جديد من الغناء، غير الذي اعتادت أسماعهم التقاطه، إلا أنّ الفنان الراحل ” محمد صدقي ” أصرّ صُحبة الملحن الكبير ” يوسف العالم ” على أنْ يخوضا غمار هذه التجربة الرائدة، التي حدثت في الأقطار العربية الأخريات، من حيث الفكاك من أسر الأغنية الشعبية، التي قاما بما يجب عليهما تجاهها، بيد أنّ لكليهما باعاً طويلاً في ميدانها، الذي أمسى لا يتسع للجميع من كثرة ما يعجُّ به من أسماء لفنانين ليبيين، فقد تناغم الاثنان مع أنغامها لفترة طويلة، و قدَّما معاًَ و مع غيرهما من مطربين و ملحنين، ما بوسعهما من غناء يأتي على شاكلتها، فالفنان الملحن ” يوسف العالم ” الذي أعدُّه قيدوم التحديث الموسيقي، كان يعي و بكل تأكيد، بأنّ الغناء على أوزان الأغنية الشعبية، سوف يحّدُّ من طموحه، لأنّ في هذا الغناء، تتعطل مهمة التلحين، ذلك أنّ أنغامه، تأتي على عدد معدود من الألحان الثابتة، التي تـُركـّب عليها الكلمات و الأبيات الشعرية، بطريقة اللصق و النسخ، ما جعل جلَّ تركيز المتلقين في ( ليبيا ) – و حتى انقضاء فترة ليست بالقصيرة على ظهور أولى الأغنيات الحديثة، حين تقييمه لأية أغنية – ينصب على الزجال لا الملحن، و هذا أمر طبيعي، فقد اعتاد تجمُّد الألحان، التي أقرُّ بروعتها، غير أنني أملُّ تكرارها دوماً، و من ثم، اعتاد أيضاً، غياب عنصر الدهشة الذي توفره الحداثة و التجديد في التلحين.
أستطيع القول بأنّ المستمع الليبي، لم يع ِدور الملحن، إلا بعد أنْ ائتلفت جهود الشاعر و الزجّال الراحل ” عبد السلام قادربوه ” و الملحن ” يوسف العالم ” و المطرب الراحل ” محمد صدقي ” وقت إصدارهم لأول أغنية ليبية حديثة، كانت زمن ظهورها في عام 1957 ميلادياً، كما المولودة من رحم الأغنية الشعبية الكلاسيكية، ففي خطوة جريئة من ثلاثتهم، قدّموا للمستمعين الليبي و العربي، أغنية ( طيرين في عش الوفاء ) التي دخلت اليوم، عامها الثاني و الخمسين، لتكون أماً لكل أغنية حديثة جاءت بعدها، فمثلما استقبلها المستمع الليبي بكل ترحاب، فقد حازت إعجاب المستمع العربي، الذي قلّدها أطواق الياسمين و أساور الذهب و الفضة، فرحة ًبميلادها، خصوصاً في المحتفلات الفنية العربية، إذ أنها حظيت بإشادة المنظمين لهذه المهرجانات، فبالنسبة للتحديث الغنائي الحاصل لدينا منذ تلك الفترة، يُعدُّ فوزاً و مكتسباً كبيرين للأغنية الليبية، مقارنة مع أقطار عربية أخرى تأخر التحديث الموسيقي فيها، كما دول الخليج مثلاً، التي على الرغم من استعانتها بالفرق و الأطقم الموسيقية المؤلفة أعدادها من عشرات العازفين، و اعتمادها التوزيع الموسيقي الحديث و تصوير الأغنيات بالطرق الحديثة، إلا أنها ما زالت إلى يومنا هذا، تقدّم غناءً يبتعد كل المسافة عن الغناء الحديث، الذي يعتمد أصول الغناء العربي، فما يعرض من غناء هناك و نراه على شاشاتنا، لم يتحرّر من السلم الخماسي الأفريقي، حتى في أعمال كبار فنانيهم و روّادهم، الأمر الذي يعني – و الحال كذلك – مدى تفتق الذهنية الموسيقية المستقبلية لدى هؤلاء المبدعين الثلاثة.
و قبل أنْ أباشر في الكلام عن سر نجاح هذه الأغنية، دعوني بادئ ذي بدء، أسطرُ لكم مفرداتها الفاتنات، ثم سيكون ليّ عنها حديث آخر:
طيرين في عش الوفاء.. باتن سهارى كنهن ؟
من شوق بالماضي لفى.. و للا الهوى شاغلهن
و حيرتهن معايا.. في لوعة غلايا.. في ماضي بنيته
…
و كان الحب في ماضي زماني.. نار اتقيد.. و أوهاماً غريبة
نسمع بيه ما يوماً دعاني.. و لا شاكيت من قسوة لهيبه
برموشه رماني.. خللاني نعاني.. في سهوة لقيته
…
بعد الليل.. ما سهّر عيوني.. تشكي دوم.. مشغولة بحالي
و عاد الموح.. يوقد في ظنوني.. ظلم أيام.. ما فارق خيالي
و تاه القلب مرة.. و عاد معاه نظرة.. من غالي هويته
…
مال الورد.. فوق الغصن زاهي.. يوصف شوق.. في موّال غيّة
يوم شقيت.. بيه و كان لاهي.. زاد النار.. في دموعي الخفية
و سهّرني ليالي.. تايه دوم بالي.. نحلف ما نسيته..
أما وقد طالعتم كلماتها و معانيها، ماذا برأيكم، لو قام ملحن آخر بتلحينها، غير الأستاذ ” يوسف العالم ” ممّن كانوا على الساحة الفنية وقتذاك ؟ فبكل يقين، كان سيقوم فقط بالإعداد الموسيقي لها، و لقال في مطلعها: ” في عش الوفاء طيرين باتن سهارى كنهن ؟ ” أي لاستعمل آلية التقديم و التأخير، التي درج عليها روّاد الأغنية الشعبية، إذ يتمّ تفريغ الكلمات في القوالب اللحنية المُعدَّة سلفاً، و بما يتناسب و يتماشى معها، من دون أي جهد لأي ملحن، لكون الشاعر، هو من يُقدِّم على اختيار الوزن اللحني من ضمن ما يحمل في جعبته من ألحان شعبية، عديدها مساو ٍ لستة عشر لحناً و كفى، فالشاعر هو من يخبّر المطرب باللحن، الذي يجب عليه الغناء عليه، فيتعدى بذلك على المَهَمَة المُهـِّمة في الغناء، و هي الجانب اللحني و الموسيقي، الذي يجب أنْ يتولاه شخصٌ مُلـِّم بالموسيقا و أسرار التلحين، كما فعل الأستاذ ” يوسف العالم ” في تلحين هذا العمل الجميل، الذي قام فيه باستحداث أسلوب جديد في التوزيع الموسيقي، الذي حشّده بكثير الجمل الموسيقية، التي نفذتها مجموعة من الآلات الموسيقية، برز في صدارتها صوت آلة ( الأكورديون ) بإحساس الفنان الكبير ” سليمان بن زبلح ” ؛ هذا فيما يتعلق باللحن، أما فيما يتصل بالمفردات المنسوجة منها القماشة الحريرية لهذه الأغنية، التي طرزها الشاعر الراحل ” عبد السلام قادربوه ” فقد كان لها دورٌ فاعلٌ أعمق الفعل، في إنجاح هذه الأغنية، لأنّ مهندسها و مُعمِّر بنيانها ( الشاعر ) أدرك هو الآخر كيف ينتقي الكلمة الدارجة التي يتكلمها و يستوعبها الناس من واقع حياتهم اليومية، و أبدع بإضفاء الصور القلمية البديعة، و باختيار الحدوثة الدرامية، و إسقاط إبطالها على كل حبيبين كانت لهما التجربة عينها، مراعياً في ذلك، كونه يعيش في مجتمع محافظ لا يسمح بأنْ يسمع كلاماً في الغناء، ينفلت من ضوابط الحشمة و يتجاوز الخطوط الحمراء ؛ أما عن السرّ الكامن خلف نجاح هذه الأغنية و تميّزها، فهو يعود إلى صوت المطرب الليبي الراحل ” محمد صدقي “.
فبرأيي الخاص الذي أحتفظ به لنفسي، لكني أود أن أطلعكم عليه، أرى أنّ الملحن في عمله الغنائي، كما المخرج في البرامج المرئية، فهو من يستلم النص المكتوب من الشاعر، و يقوم، بتصوير معانيه و مفرداته، أما المطرب، فهو كما الممثل في العمل الدرامي المرئي، لكونه هو من يقوم بإيصال العمل الغنائي إلى المتلقي، هذا إذا احتكم على الأدوات، التي يجيء في طليعتها الصوت الحسن، و مثل هذا الصوت، هو ذاك الصوت الذي يتوافر على معايير الجمال كلها من دون استثناء و لا نقصان، من سلامة في النطق و عرض في المساحة، و قدرة على التعبير، و صراحة في الملامح، و التمكن من الغناء على الطبقات الصوتية الثلاث ( المنخفضة و المتوسطة و العالية ) و هذه الأشياء المتعلقة بالصوت الحسن، متحصّلة و متوافرة إلى حدٍّ بعيدٍ في صوت المطرب الراحل ” محمد صدقي ” الذي امتاز ببحة مليحة تلقائية، كانت تزيّن غناءه، من دون تعمُّد و لا ترصُّد ؛ فبأدائه لهذه الأغنية الحديثة البكر، وضع هذا المطرب حجر الزاوية للأغنية الحديثة في ( ليبيا ) و جعل المطربين من مجايليه، و ممّن جاؤوا بعده، يتسابقون نحو هذا اللون الجديد من الغناء، الذي سيتيح لهم إظهار ملكاتهم الصوتية الرفيعة، بالتحرر من عقال القوالب الكلاسيكية اللحنية المعمول بها قبل ذلك، فظهرت بعدها مباشرة أغنية حديثة أخرى منافسة لها، بصوت الفنان الكبير ” محمد مختار ” التي نغـّمها له الملحن الذي يقف وراء كل عمل حديث ” يوسف العالم ” و هي أغنية ( يا عين ليش دمعتك ؟ ) و أعمال الملحن الراحل ” كاظم نديم ” و الموسيقار الكبير ” محمد مرشان ” أطال الله في عمره.
و بعد إطلاقه لهذه الأغنية، ازدادت المسؤولية على كاهله، لأنّ أي نجاح لأيِّ فنان، يجعله دائماً يبحث عن الجيد و الجديد، و قد كان أهلاً لهذه المسؤولية، حيث إنه أتبع عمله هذا بكثير الأغنيات الحديثة، كأغنيته ( هذه الأرض هي العرض لنا ) للملحن ” سالم بشّون ” و أغنية ( هلّت ليالي العيد ) للشاعر ” مسعود بشّون ” و للملحن ” إبراهيم أشرف ” و أغنية ( ظلمتك معايا ) و ( و كيف نوصفك ؟ ) للملحن الراحل ” حسن عريبي ” و غيرها من أغنيات و مواويل، بيد أنه كان يتقن أداء هذا الضرب من ضروب الغناء العربي الصحي ( الموال ).
غير أنني، أعدُّ أهم محطتين مرّ بهما، هما تدشينه لمشروع الأغنية الحديثة في بلادنا، الذي أوضحته لكم بعاليه، و ثانيهما، ما اختاره لنفسه في أواخر عمره الفني، حينما قدّم للمستمع، السيرة النبوية في شكل مطوّر و مغاير للذي تُقدّم به في الزوايا الصوفية و المساجد حين الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حيث إنه انتقل بهذا الإنشاد الصوفي إلى بلاتوهات الإذاعة، فكانت خطوة مباركة.
بنغازي _ ليبيا: 10 / 8 / 2009