ولماذا طلب منه أن يستدعي من ينقل عنهم الأخبار المضللة ويحلفهم على المصحف..؟
1
في كتابه: (رسائل وطنية في السياسة والحرب).. يشير السيد شكيب أرسلان في إحدى رسائله إلى دوره الإنساني ومساعيه الحميدة والصادقة، التي بذلها من أجل إطلاق سراح المعتقلين الليبيين في سجون الاحتلال الإيطالي وفي معتقلاته الجماعية.. وإرجاعهم إلى ديارهم ورد حقوقهم المغتصبة إليهم.. وذلك بحكم صداقته وعلاقته القديمة بالديكتاتور موسوليني.
في هذه الرسالة أشار السيد أرسلان التي نحن بصددها.. التي أخذت ما يقرب من خمس صفحات من كتابه المشار إليه.. من : 254 وحتى صفحة : 257.. أشار إلى ما تعرض له من تهم وشائعات لا أساس لها من الصحة، هدفها تشويه سمعته.. الأمر الذي اضطره إلى أن يكتب إلى أحد أصدقائه المقربين قائلا :
(أخي أبا الحسن.. لا عدمته.. أظن أن ردك الأخير الذي في “الجهاد” قد كفى فشفى.. فإن سكتوا فلا يبقى لزوم لتجديد المناقشات.. وقد كان فيما وقع خير.. (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم).. لأنهم أفسحوا لنا مجالا أن نشرح أشياء كنا حياء وتواضعا لا نتعرض لنشرها.. وكذلك اضطرونا إلى شرح أمور أخرى قد يجوز أن تكون قد حامت حولها الشبهات.. فإن صديقكم المعهود الذي دس إلى المليجي ما دس.. أشاع أشياء كثيرة أنتم بمصر تسمعونها.. ومقصده من ذلك تشويه سمعتنا من جهة أسباب تفاهمنا مع إيطاليا.. فنحن لم ننكر هذا التفاهم.. ولكننا سردنا أسبابه).
وذكر في ذات الرسالة إلى أنه قد أولى قضية مساعدة الليبيين عناية خاصة، وقدمها على مساعيه وجهوده بشأن القضايا العربية الأخرى الفلسطينية والسورية والعراقية.. وأوضح بأن همه الأول وقضيته الأولى هي: (قضية تخفيف ويلات الليبيين) كما قال حرفيا:
(بفضل مساعينا مع موسوليني.. أصبح المهاجرون يعودون إلى أوطانهم من مصر وتونس.. ومن يومين جاءني بلاغ رسمي بأن الماريشال بالبو.. جمع أعيان بنغازي وأبلغهم أن العفو صدر عن الجميع الذين كانوا حكم عليهم عشرين سنة وثلاثين سنة حبس بسبب مساعدتهم للثوار.. وهؤلاء عدد كبير.
ثم أبلغهم أن الفقراء من عرب الجبل الأخضر ــ الذين أرجعناهم إلى أوطانهم بتوسطنا لدى موسوليني ــ سيوزع عليهم مبالغ ليشتروا بها مواشي.. وأن الذين ليسوا بفقراء يقدرون أن يقترضوا بفائدة خفيفة من بنك التوفير ليزيدوا مواشيهم.. وأن الحكومة ستنفق مليونا وخمسمائة ألف ليرة لإصلاح الآبار والمعاطن وغير ذلك.. مما سر الجميع وتلقوه بمزيد من الشكر).
هذه الرسالة المهمة التي نشرتها في الجزء (132) من سلسلة القضية البرقاوية.. ولم يلتف إليها أحد للأسف الشديد.. تشير بلا مواربة إلى الدور السلبي الذي انتهجه السعداوي تجاه إخوته البرقاويين المحاصرين في المعتقلات والمعتقلين في سجون الاحتلال.. وندرك من خلالها نبل مشاعر شكيب أرسلان تجاه شعبنا المحاصر.. وذلك في مثل قوله : (فإن الضائقة مستحكمة الحلقات في كل الدنيا.. فكيف تكون عند جماعة كانوا مشردين في الفلوات..؟).
2
لكن وفي المقابل.. لماذا قابل السيد السعداوي جهود السيد أرسلان التي تصب في مصلحة شعبنا المحاصر المعذب.. بالجحود والنكران، بدل أن يقابلها بالشكر والعرفان.. ولماذا انتهج معه نهج التجاهل والتكذيب وبث الإشاعات المغرضة.. حتى اضطره إلى الرد عليه من خلال رسالته هذه.. ويقول:
(نحن لا غيرنا الذين أعادوا هذه القبائل إلى أوطانهم.. ونحن الذين كنا السبب
في العفو عن المحكوم عليهم.. وفي هذه الإعانات المالية).
لاحظوا هنا كما لاحظت أنا أن جملة: (نحن لا غيرنا الذين أعادوا هذه القبائل إلى أوطانها) تخفي من ورائها كلاما كثيرا لم يرد السيد أرسلان الإفصاح عنه.. ردا على من يزعمون ويدعون فعل ذلك وهم في الواقع لم يفعلوا شيئا سوى قولهم: (نحنا اللي حررناهم).. مفضلا مواصلة جهوده ومقالاته بشأن القضية البرقاوية.. والحديث عنها في المقطم والكوكب والجهاد.. وبالذات مقالته في الفتح التي يشير فيها إلى ما نحن بصدد الحديث عنه.. فيقول: (أشرت إلى وعود موسوليني لي التي منها قسم نفذ وقسم تحت التنفيذ).
ثم يعود مجددا إلى الحديث عن مسألة التكذيب.. فيقول لصديقه الذي يخاطبه من خلال هذه الرسالة ويقول له: (ولا تبالي بما ينقله “بعضهم”… فمسألة التكذيب هذه قد بلوتها من قبل.. كنت أكتب سائلا عن قضية فيجيبون بعدم صحتها.. فأعيد الكتابة إلى روما قائلا: لم يحصل شيء مما قلتم.. فيجيبون بالتأكيد القطعي مع البراهين.. فنعود ونكتب مرة ثانية إلى إخواننا ونأتي بالبراهين.. وعند ذلك يضطرون أن يعترفوا.. حصل ذلك معي مرارا).
ولكي لا نلقي الكلام جزافا.. ولكي تعوفوا من المعني بكلامه هذا.. لا بد لي من أن أحيلكم إلى هذه الفقرة من رسالته المتضمنة جزءً من الإشاعات التي يبثها السعداوي بالخصوص.. ويذكره فيها بالاسم: (آخر مرة كان الأخ بشير السعداوي كتب لي : إنه جاء أناس من (ليبيا).. وأكدوا بأن الثمانين ألف عربي لايزال منهم قسم كبير مشردين في الصحراء.. لم يؤذن لهم في الرجوع).
لاحظوا قوله (آخر مرة كان بشير السعداوي كتب لي).. التي تبين لنا بوضوح أن موجه التكذيب والإشاعات قد أخذت منه وقتا طويلا.. فهل كان هذا الإصرار من جانب السعداوي من باب التثبيط.. ؟ وإعاقة أعمال الرجل الخيره.. ؟
ولم يتأخر أرسلان في الرد عليه.. كان رده مختصرا ومؤكدا ومفيدا.. حيث قال له مكذبا: (ولكن موسوليني نفسه كان قد أكد لي بأنه لم يبق منهم أحد في الصحراء.. وأنهم أعيدوا بأجمعهم).. ويؤكد على ذلك في موضع آخر من رسالته ويقول: (فكتبت إلى رومة قائلا : لعل الحكومة المحلية في (ليبيا) أهملت إنفاذ بعض الأوامر.. ونحن كنا اتفقنا مع موسوليني على أن يكون إرجاعهم لأوطانهم تدريجيا.. بشرط أن لا يأخذ ذلك أكثر من خمسة أشهر).
وليس هذا وحسب.. بل يجدد تأكيده على كل ذلك ويقول: (كتبنا إلى روما لعل الفئة التي أخروا إرجاعها هي الباقية.. فجاءنا الجواب بالتأكيد الجازم بأنهم كلهم رجعوا.. فعدنا وكتبنا إلى (السعداوي) نقول له: يا أخي هؤلاء يؤكدون ويراهنون على أن الثمانين ألف عربي.. أعيدوا كلهم إلى الجبل الأخضر.. وأنت تقول العكس نقلا عن أناس قادمين من “ليبيا”.. فأرجو منك الآن أن تستدعيهم وتأتي بالمصحف الشريف وتحلفهم عليه.. هل رجع هؤلاء أم لا.. ؟).
ولما وصلت مسألة التكذيب إلى هذا الحد.. وبعد هذا الرد الصارخ والصريح.. يقول أرسلان: (التزم السعداوي أن يكتب لي نقلا عمن نقل عنهم : نعم.. إنهم رجعوا.. ولكنهم من حالة بؤس شديد).
ويضطر أرسلان أيضا إلى الرد عليه بشأن مسألة البؤس ويقول له: (أما البؤس فهذا معلوم وسنعالجه بكل الطرق.. ولكن إنكار الحقيقة لا فائدة منه.. والآن أنا عرف أنه في الشهرين الأخيرين رجع من المهاجرين الذين بمصر ما يقرب من ثلاثة آلاف بمواشيهم وخيامهم.. وأن آخرين سيرجعون.. وهذا العفو الجديد وهذه المساعدات المالية سيكون لها وقع عظيم.. ويعود القسم الأكبر من المهاجرين).
جزاك الله خير جزاء سيد أرسلان : فقد كانت جهودك التي بذلتها خدمة لإخوتك في العروبة والإسلام.. وتبتغي بها وجه الله تعالى.. أفضل وأكبر من جهود الكثيرين من إخوتهم في الوطن أيضا.. الذين يدعون خدمة الوطن.. والوطن منهم براء.
3
أنا هنا أيها السادة.. لست في معرض الدفاع عن أرسلان أو عن السعداوي.. أنا هنا أعرض جانبا من تلك الشائعات والاتهامات التي قوبلت بها جهود أرسلان الخيرة.. تلك الجهود التي كانت تصب في مصلحة اللبيين المعتقلين والمشردين.. الذين عانوا كثيرا من ويلات تلك الحرب المدمرة.. أعرض هذه المسألة كما عرضها أرسلان نفسه.. وبشيء من الاختصار والتبسيط.. وفي قالب حواري.. ودونما إخلال أو زيادة.
يقول أمير البيان: لما كنت في القدس تكلمت مع الأستاذ الثعالبي.. وقلت له : تفاهمنا مع موسوليني وتوصلنا إلى إرجاع جميع عرب الجبل الأخضر إلى أوطانهم.
فقال لي: لم يرجع منهم أحد.. وإن إيطاليا لم تفعل شيئا.
فقلت له: يا سبحان الله ينبغي قبل أن تتكلم أن تتحقق الأمور.. إنهم أعيدوا بأجمعهم وأراهنك على هذا الأمر.
فقال: طالما أنك متأكد مما تقول.. فهل لك أن تذكر لي متي أعيدوا إلى ديارهم.. ؟
فقلت: هذا لأني كنت عارفا كل ما جرى.. وكان رجوع هذه القبائل كلها قبل أن أسافر إلى جزيرة العرب.
ثم يشير إلى رسائله التي بعث بها إلى شخصيات عدة.. من بينهم السعداوي.. وقال لهم فيها: من كانت له ظلامة.. أو كانت أراضيه مغصوبة فليكتب إلينا.. ولكن بصورة موضحة مبرهنة حتى نراجع في أمره.. وحتى هذه الساعة ما جاءنا شيء.
فأجابه السعداوي: إنهم بعثوا رجلا إلى مصر لأجل الاستعلامات اللازمة وسيجاوبنا.
وأجابه قاضي الصلت قائلا : إن له بيتا وأرضا كان الطليان استأجروهما ثم اغتصبوهما.
كان رد أرسلان هو: إنه يتعاطى الآن مع قضية استرجاعها.. لكن إذا لم تنجح مساعيه.. فإنه يراجعني.
وفي معرض الدفاع عن نفسه.. وعن جهوده ومساعيه الحميدة التي حورب من أجلها يقول: (وبالاختصار فإننا عملنا هذا الذي عملناه لتخفيف هذه المصائب.. فنحن نسأل المعترضين ما الطريقة عندهم لأجل تلافي هذه الأضرار.. ؟ لو كان موسوليني صمم ولم يقبل أن يعيد قبائل برقة إلى أماكنها.. وخلت برقة من الإسلام.. كما كان قرر الجنرال غراسياني.. فماذا كنا نستطيع أن نعمل.. ؟
ولو كان موسوليني سار في سياسة (ليبيا) سيرة فرنسا في المغرب من جهة التبشير بالنصرانية.. فليخبرنا هؤلاء القوم المعترضون.. ماذا كنا نقدر أن نصنع.. ؟ هذه فرنسا تفعل ما تشاء.. والعالم الإسلامي قائم قاعد وهي غير مبالية بشيء.. أفلا يكون الأفضل أن تتفاهم مع رجل يقول لنا عندما ذكرنا له قضية المبشرين : كن على ثقة أيها الأمير.. أنني لا أسمح قطعيا بأن مبشرا واحدا مسيحيا يبث دعايته بين المسلمين.
ويبد أن السعداوي هو المعني الوحيد بكلام أرسلان عن التبشير.. فقد أخذ كلام الأمير بالتشكيك والازدراء.. وقال له عندما تقابلا في الطائف: كلا.. فمن جهة الدعاية المسيحية والتبشير في (ليبيا).. هذا ما سمعت به.
فرد عليه أرسلان قائلا: عند مروري بأسمرة سألت المسلمين فقالوا لي: إن مبشرا واحدا تعرض للدعاية.. فأخذته الحكومة وحبسته ثم طردته.
وذلك بناء على وعود موسوليني التي قدمها لأسلان ووعده من خلالها بمنع التبشير في بلاد المسلمين.. وليس ليبيا وحسب.. بل إنهم وأكثر من ذلك يقومون بناء المساجد في أغلب المناطق التي يحتلونها.
وأخيــــرا..
يختتم رسالته الهامة هذه بقوله: (عندما ينتقدون تفاهمنا مع إيطاليا نحب أن يبينوا لنا الخطة التي كانت أحسن من هذه الخطة.. لتخفيف هذه الويلات.. ولبقاء المسلمين آمنين على دينهم).
هذا هو مضمون ومختصر رسالة السيد شكيب أرسلان: التي نشرها بكتابه: (رسائل وطنية في السياسة والحرب).. التي أخذت منه ما يقرب من خمس صفحات.. ولمن يريد المزيد أو التأكد مما ذكرناه.. عليه مراجعة الكتاب المشار إليه.. أو الجزء: 132 من كتاب القضية البرقاوية.