سحبتُ أطلس من مكتبتي، وفتشتُ عنها في خرائط المنطقة، ولم أجدها في أي مدينة. وأيضاً فتشتُ عنها بين الناس، ولم أجد لها حضوراً يُذكر في وسط المدنيين منهم، ومسحتُ بعيني خريطة الأطلس، من الحد إلى الحد، ولا أثر لها، حيثُ المنتزهات وملاعب كرة القدم. وتتبعت مواطنها من باكستان شرقاً وحتى مراكش غرباً، ولم أجدها إلا حيثُ توجد العشائر والإبل، فخالت لي داعش، كما لو أنها فطر متطفل يعيش على الأشياء القديمة.
كانت بقوة في سيناء، وفي صحراء المغرب الإسلامي، وأكثر وجود لها بين عشائر الأنبار، وفي قبائل اليمن، ووسط قبيلة “البشتون” في أفغانستان، وحتى في سرت، وفي الجزيرة العربية، حيثُ نبتت شجرتها الأولى، ودعوت الله من كل قلبي أن يحفظ مدينتي سبها، المليئة بمثل هذه الأشياء القديمة، في حين تراءى لي أن العشائر والإبل اثنان لا ثالث لهم، سوى داعش.
كتمتُ هذه القاعدة في نفسي، ولم أبح بها لأحد، ذلك أنها قد لا تكون دقيقة، لأن مدينة درنة عندنا في ليبيا ربما تشكل خرقاً لهذه القاعدة، ولابد أن داعش نفسها تشعر بوجود غريب لها هناك. فدرنة، حتى وقت قريب، كانت تقيم، في ديسمبر من كل عام، عيداً أسمته عيد الفن، وكان الفن العنوان الذي يميزها عن بقية مدن العالم. وكان الفن هو الروح التي تسكن درنة وتبقيها درنة، وكان الفن على وشك أن يجعل منها في جنوب المتوسط مدينة لا تقل روعة عن مثيلتها كان في شمال المتوسط. وظلت يومها درنة تكبر بعيدها عام بعد عام، وظل القائمون على العيد يستعدون له قبل موعده بأشهر، ثم فجأة رمى كل منهم ما في يده، بعد أن كادوا ينهون اللمسات الأخيرة على عيد 1974، حين أتاهم مَن يطالبهم بتجميد العيد على أجل آخر، لتبقى درنة من تاريخه بلا عيد، وتبقى المساحة الكبيرة التي تركها العيد وراءه شاغرة في وسط درنة، مفتوحة لكل مَن يريد أن يستثمر فيها.
بعد مضي فترة، أي في يوم 20/12/2013، كانت هناك محاولة جادة لانقاد العيد في أنفاسه الأخيرة، وكنتُ من المدعوين، وكنتُ جد سعيد، لأنني سوف أنفخ مع الحضور في رميم العيد. لكنهم ما لبثوا أن أبلغوني أن عودة العيد تأجلت إلى أجل غير معلوم. ولم أفاجأ، فالتطرف الذي استثمر في مكان العيد، في وسط المدينة عبر الزمن، لن يسمح بعودة الزمن، وعودة من يهدد وجوده في وسط المدينة، ذلك أن التطرف، أياً كان شكله، هو تطرف، ولن يسمح بوجود أعياد قريبة منه.
أعدتُ حقائبي، وكتبت على ظهر الأطلس الذي سحبته من المكتبة: أعيدوا العيد إلى مكانه وفي مكانه، إذ لا قيمة لعيد خارج أرضه، بل لا قيمة لأرض بلا عيد، فنحن ما كنا نعرف أن الأعياد التي تعاود على مدار السنة تُشبه الماء الذي يعاود إلى الجدول. فإذا شح عن الجدول مات العنب ونبتت أشواك في شح الماء، بل ما كنا نعلم أن العيد في المكان الذي نسكنه كالماء في الكوب الذي نشربه على مدار اليوم، فإذا نزح من الكوب جاء الفراغ، وملأ مكانه في انتظار ماء آخر، والأسوأ لو مرت من ناحية الكوب قدم عسكرية، وركلته ليطير، ويقع في بِركة، أو في مستنقع داكن.
العربي الجديد | 30 اغسطس 2015م