قصة

يوميات حارقة

من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري
من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري

كان من المفترض أن تكون درجات الحرارة مرتفعة أكثر بكثير، وخاصة في نهاية شهر مايو، فما زالت درجات الحرارة لم تتجاوز الأربعين، كل شيء يتغير إلا شروق الشمس، فهي تشرق باكراً هنا في الشرق وتغرب أيضاً باكراً، لا تشعر بالوقت وكأن الأيام تتسابق الرحيل.

خرجت من البيت باكراً جداً، لم أغطي وجهي ولا يدي بأي مستحضرات واقية ولا لبست قبعة على رأسي ولا نظارات شمسية، أردت فقط أن أواجه الطبيعة بلا أدوات مقاومة، لأبدأ مشواري وأجدد رياضة المشي.

عندما فتحت الباب لفحني هواء ساخن، لكن هذا لم يثنيني عن مواصلة ما عزمت عليه، لم يكن هناك أحد في الشارع سوى صوت خطواتي على الرصيف، أصوات أجنحة حمام حلق فوقي، صوت حفيف أشجار لا أعرف اسمها على جانبي الطريق، وصوت خرير ماء من حديقة أحد الجيران، لفت نظري أشجار الجهنمية المنتشرة وأزهارها الحمراء الكثيفة، ونافذة مفتوحة في الدور الارضي لبيت على ناصية الشارع، هنا لا يفتحون النوافذ في الصيف أبداً، يبدوا أنه ساكن جديد، كانت النافذة كبيرة مطله على الشارع، توقفت قليلاً وأنا أسمع صوت موسيقى خارجاً منها، استطعت أن أرى رجلاً أشيب الشعر يجلس أمام بيانو أبيض اللون ملتصقا بالنافذة، لم ينتبه لوجودي، وخمّنت أنه أجنبي ربما من أحدى الدول الآسيوية، فأغلب من يسكنون هنا جاليات أجنبية.

ذكرني هذا المشهد بمدرستي الابتدائية، والبيانو الكبير الكلاسيكي البني اللون ، لقد كان في مدرستي قاعة مسرح كبيرة، احتل البيانو مكاناً فيها قرب النافذة المطلة على الساحة. أذكر كيف فتحت غطاء البيانو الثقيل لأول مرة عندما كنا في حصة الموسيقى، وكيف عبثت بمفاتيحه البيضاء، وكيف شعرت بقشعريرة عند سماعي لذلك الصوت العميق، لقد وقفت كثيراً بجوار أستاذ ( سالم ) معلم الموسيقى أمام البيانو، تمنيت وقتها أن أتعلم العزف عليه أو على أي آلة موسيقية أخرى لكنه اختارني للغناء.

تذكرت كيف كنت آخذ آلة تقطيع البيض من المطبخ،  كان لها أسلاك رقيقة معدنية وكأنها أوتار أداعبها بأصابعي وتصدر صوتاً جميلاً، خرجت من ذكرياتي عندما شعرت بشيء يتمسح برجلي وصوت مواء قطة صغيرة تبدوا جائعة، انتبه الرجل لوجودي تحت نافذته فتوقف عن العزف ورأيت في عينيه نظرة تساؤل؟ ربما يقول من هذه المتطفلة على خلوتي في هذا الوقت من الصباح الباكر؟؟

واصلت طريقي وانتبهت أن القطة تلاحقني، مشيت بمحاذاة الشاطئ ثم جلست  هناك أراقب ارتعاش الشمس وهي ترتفع، ظننت أني سأصمد كثيراً في هذا الجو الحار والرطوبة المرتفعة بدون أدوات مساعدة، فقد خرجت أيضاً بدون الماء فقررت العودة، نظرت إلى القطة الجالسة بجانبي أخذتها ووضعتها في حقيبتي وهي مستسلمة لذلك وعدنا من نفس الطريق.

كانت رحلة العودة بأصوات مختلفة، ضجيج سيارات، دراجات نارية، صوت سيارة إطفاء، يبدو أن حريقاً قد حدث، وجدت في طريقي كشكاً صغيراً بدأ يفتح أبوابه، دخلت لأشتري زجاجة ماء، وجدت جرائد كثيرة ملقاة على الأرض يحاول العامل ترتيبها في مكانها، وقع نظري على خبر مجزرة رفح وخيامها المحترقة، شعرت برغبة بالبكاء وخرجت دون أن أشتري الماء، نظرت إلى حقيبتي وجدت القطة تبادلني النظرات والصمت،  اقتربنا من الشارع  ومن بيت عازف البيانو وجدته قد أقفل نافذته وأسدل الستائر، قفزت  القطة فجأة من الحقيبة وكأنها عرفت مكانها الذي رافقتني منه ثم اختفت فجأة، عدت إلى البيت مع حروق في وجهي ومزاجي، وجفاف في حلقي وأصوات كثيرة وذكرى بيانو ..

مقالات ذات علاقة

هــــذيان

عبدالواحد حركات

أنا وشيخــــتي

عائشة إبراهيم

من لا يحب الزهور شريرٌ ..

المشرف العام

اترك تعليق