قصة

خبز ونساء…

محبوبة خليفة

من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.


كنت أجلس بمواجهة جمال لا يقارن بشيء ولا بأي جمال تعرفونه، كانت ممددةً بغنج وبها بعض انتفاخ، وجهها كسته حمرة وكأنه تعرض للفحة لهب فبدت كخد جميلة وقد تلون بحياءٍ فشعَّ حُسنها…

الخطوط المُحَدِدَة لملمسها واضحة ولا تفسير لها سوى مزيد الإغراء. وسيرتها في هذا المجال لا تخفى على أحد فلا صنعة لها إلا الإغواء وتاريخها مزدهرٌ بقصصها، سليلة الحسب والنسب.

تحتها مباشرة جلست سيدة أنيقة جميلة الملامح ببعض حَولٍ في العين اليسرى لا يُرى لولا حظها العاثر الذي أوقعها بي. ترتدي تنورة مخططة بنفسجية يبدو أنها لأحد كبار المصممين أو هكذا تخيلتُ، أما الجاكيت فسادة من نفس اللون، والشعر قصير مصفف بطريقة لطيفة والنظارات منتقاة بعناية، واكتملت الأناقة بخاتم من الذهب الأبيض بفصوص لابد أنها ثمينة مع عقد بنفس لون الفصوص.

لم يكن لون المقاعد بعيد عن جو الأناقة والجمال السائد، فلونها أزرق فاتح بخطوط في بعض أجزاءها وسادة في أجزاءٍ خرى.

تمسك بالهاتف منذ دخولها، لم تتوقف حتى بعد انضمام زوجها -على ما يبدو- للمكان فهي لم تُعره انتباها ولم تتوقف عن الحكي! انتبهت للَّهجة -ولم تكن لأهل العاصمة- التي تصلني بلا محاولة مني لاستراق السمع. كان على كل حال أسئلة عن الأحوال وبث الكثير من الأشواق. لعلها قادمة من خارج البلاد وهي هنا لفترة وسوف تغادر لموطن من تبثهم شوقها للِّقاء.

يا لهذ الشوق الذي أتعبنا أنت -يا رفيقة المكان- تفصحين وأنا أغالبه، «فمثلي لا يُذاعُ له سرُّ» *

كانت اللوحة فوقها مغرية فإلى جانب الحسناء ذات الخطوط، تظهر أخرى دائرية الملمح ببعض سمرة، منتفخة كأنها تترفع عن وجودها في ذلك المكان بعيداً عن موطنها ومبدعيها. اسمها المتداول (Pane Casareccio) أو خبز من صنع البيت) لنقل ابنة وصنعة البيت بل وإرث عريق لمبدعيها الطليان، فمطابخ بيوتهم على كل حال امتداد لذوقٍ رفيع عمره بعمر حضارتهم ومزاجهم المتوسطي الرائق والحيوي. كانت تراقب نظراتي الولهى وتكاد تنطق لتنبِّهني أنها مجرد خيال لرسّام أذهلتني رسوماته هذه وكأنها تقول لي لا تتعبي فشوقك بلا طائل!!

ذكّرتني بصاحبة الخطوات الرشيقة بكعبها العالي وجسدها العَفيّ تتسلل من ضجيج البيت وطلبات أهله -التي لا تنتهي- إلى شوارع (روما) يتلقفها الجمال من ناصية لأخرى تستمتع بنسمات عليلة ومشهد التاريخ يطل على الناس المزهوة به وبميراثه وتصل لمحل (فِيتِّي) تُحَيي صاحبه فيبادرها بسؤال تأكيد فهو يحفظ طلباتها فتومئ بالنَعَمْ، فيسحب (الكازاريتشو) من الرف ويقطعها نصفين ثم يقطع ربعاً ويلفه ويسأل والسينوريتا؟ فتجيبه كالعادة (بيتسا بيانكا-بيتسا بيضاء) فيبتسم لهذه العنيدة الصغيرة التي لا تحب الطماطم ولا الأجبان وهي في قلب روما.

تتبادل معه الحديث ويسألها عن أهل بيتها وتبادله السؤال والتحايا وتغادر عائدة ومعها قطعة من الجنة، كهذه التي تحدِّق بي الآن مستغربة حالي وكأنها لا تعرفني! ما أسهل تعمّد فقد الذاكرة في هذا الزمن.

تحت تلك اللوحة أرى نظرة ما فارتبكُ واستعيدُ وضعي السابق وكأنه لا يعنيني شيء مما يجري أمامي. قالت لي نفسي -التي لا تترك صورة تمر دون ملاحظة داخلية-هذه النظرة ربما شبيهة بنظرتك، كلنا نشبه بعضنا، ربما تسأل نفسها هي الأخرى من هذه السيدة التي تجلس قبالتي ولا يبدو عليها أنها من أهل البلد؟ وربما هي الآن تحاول التعرف عَلَيّ ومن أي اتجاه رمتني الريح وأجلستني على ذلك المقعد وفي مواجهة مع اللوحة ومعها.

لكنها ورغم نظراتنا المتبادلة ما تركت الجهاز ولا أعارت انتباها للرجل فخرج ثانية ربما للتدخين او ليستمتع بنور الشمس فهذا النهار كان مشمساً بنسمات باردة. نحن على كل حال في ثاني أيام العام الجديد وف عز شتاءٍ متوسطي طيب ولطيف في أغلب أوقاته.

كانت إلى جانب الحسناء ابنة البيت وصنعته الفاخرة، قطعتين ملفوفتين بطريقة كلاسيكية ملفتة، والكتابة بفرنسية واضحة بالنسبة لي فهي ابنة عم اللغة الإيطالية من بعيد ولنقل من قبيلتها وجدودهما الاوائل متوسطيين جداً.

هي الخميرة القديمة بأنواعها إذن وهي لا تنتسب لخميرة هذه الأيام ولا معرفةً بينهم إلا في بث فقاعات الهواء داخل العجين فتنفخه فيصبح ليناً وصالحاً للأكل بعد خبزه.

انزلقت مني الطفلة وغادرت المكان إلى بيت بعيد على ضفاف المتوسط هو الآخر، كانت الخميرة إحدى معجزاته. تراها وتذهلها كل يوم، عندما تطرق بابهم إحدى الجارات لتسأل هل لديكم خميرة؟ وتنطلق الصغيرة مستفسرة فتقطع أمها قطعة من العجين وتلفه في ورق رمادي اللون قوي الملمس فتأخذه وتعطيه بسعادة للجارة التي تعدها (بِقَنّان)*عندما تحمي التنور وتخبز. وكان التساؤل مصحوباً دائماً بحيرة العلاقة بين هذه القطعة الصغيرة من العجين وبين العَطِية التي ستحصل عليها من الجارة، محبوبها القَنَّانْ بروائح ماء الزَهَرّ التي تغمر أنفها ومهجتها وهذه الحبوب السوداء والرمادية التي تصنع معجزةً اسمها خبز الحبايب بل خبز الغوالي، خبز ساكني القلب.

أعود لجلستي بعد الجولة التي أعادتني لمطارحٍ لا تتركني لحالي أبدا.

كانت اللوحة توالي بث حكاياها والسيدة تحتها مباشرة تواصل حكايات لا تنتهي عبر هاتفها وقد عاد الرجل يحمل مجلة ما ويبدو من لمسه لجيوبه أنه قد حاسب الكاشير ويتأهب والسيدة للخروج، وقفتْ ورفعتْ رأسها متأملةً اللوحة بحملها المبارك، ثم التقت عيوننا فبادرتْ بتحية فرددتها بابتسامة وقد أسعدني ذلك جداً.

بقي أن تعرف رفيقة لوحة الخبز أنني وبهذه العادة التي تلازم قلمي قد سردتُ حالة نساء جمعهن مكان ولوحة كان الخبز بطلها.

_____________________

* من قصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني.
* القنّان: خبزة بحجم صغير مخصّصة للأطفال.

مقالات ذات علاقة

قصتان في لون الريح

محمد دربي

السيدة الأُولى

عزة رجب

الحـفــل

فتحي نصيب

اترك تعليق