ظاهرة رجع الصـوت (صداه) هي ظاهرة فيزيائية ومعروفة لدى عامة الناس، لكن هناك ظاهرةً اجتماعية ذكرتني بها تواً، ولا شك أبداً في أنكم تعرفونها، ولا يساورني أدنى ريب في أنها قد حدثت مع كل واحد منكم، مثنى وثلاث ورباع وهيَّ ظاهرة رجع السؤال أو بالأحرى (إرجاعه) لأن تلك الظاهرة الطبيعية تحدث تلقائياً عند اصطدام ذبذبات الصوت بأيِّ جسم أصم، لا يفقه ولا يعقل شيئاً، كما تعون، أما الثانية، فهي نتاج فعل فاعل من الفعل (أرّجع) على وزن (أفّـعل) بتشديد (الفاء) على أية حال، لا أُريد الخوض في غمار هذا الشأن اللغوي بخصوص الفعل ومصدره بتوسع أكثر، وسأكتفي في هذه العُجالة من هذه المقدمة، بهذا التلميح المبسط والعابر.
جرت العادة، حينما تسأل أحدهم سؤالاً، أنْ يردَّ عليك بإجابة عنه، هذا إن كان يدركها، و إلا فسوف يُفيدك صراحةً بأنه جاهلٌ بها، وبذا يكون قد أضحى في حلٍّ من سؤالك، لكن اللافت للانتباه والغريب في الأمر، أنْ تكون الإجابة الصادرة منه متمثلةً في إعادة سؤالك إليك، وكما تفوهت به حرفياً، مع اختلاف طفيف يُشار إليه، ويكمن في نوع الصوت، أي بين صوتك وصوته، وهوَّ اختلاف طبيعي مما لاشك فيه، أفهذا ما كنت تتوقعه وتنتظر منه ؟ وما تعليلك لهذه الظاهرة ؟.. أخالك الآن، قد أرجعت إليّ السؤال بشقيه، لذا دعني في هذه الآونة، أُجيبك عنه من خلال تجربتي الخاصة، لدى تعاملي مع الكثير من الناس، فإجابتي ستكون بالنفي عن الشق الأول، أما عن الشق الثاني، أي فيما يتعلق بالتعليل، فأسبابه تتعدد، وسأحاول في هذه الفسحة المخصصة لي من هذا المقال، أنْ أُلخص وأُبرز لك أهمها، في الفقرة الموالية
أذكر حين طفولتنا، أنَّ معلمينا كانوا كلما أراد الواحد منهم شدَّ انتباه وعناية تلاميذه إليه، وإذكاء وتأجيج الرغبة لديهم لتلقي المعلومة القيمة والمراد إيصالها إليهم، على أكمل وجه، يلجأ إلى هذا الأسلوب متى أحسَّ بشرود الأخيرين وانصرافهم عنه أثناء شرحه للدرس، فيعيدهم بالتالي إلى جو الحصة، وقد يكون الدافع وراء اللجوء إلى هذه الطريقة التي هي في جلية الأمر ظاهرة وغدت فيما بعد وسيلة للإيضاح والإقناع، هو تشجيعاً من المعلم للطالب على طرح أي سؤال يطوف في خلده آنئذٍ، من دون أيَّ تردد واستحياء، فبانتزاع ذلك السؤال الحائر الذي ينتصب على طرف لسانه، يكون المعلم قد أزاح عن ذهب الطالب حملاً تقيلاً، فيتشجع بُعيد ذلك، ويسأل ما بدا له من دون خجل ولا وجل، زد على ذلك احتمال آخر يقوم على أن سؤالك بالأساس لم يأتِ في محله و لا توقيته المناسبين، كما قد يُراد به من مُرجِعه أحياناً، معرفة الجديد الذي ستأتي به أنت من جراء طرحك إياه، طالما أنَّ الإجابة عنه بديهية و لا تقتضي منه إضاعة الوقت والجهد الفكري، فهو سؤال غريب ولا أقول غبياً، وليس ثمة أيِّ داعٍ له، بل أنه مدعاةٌ للاندهاش..(هكذا).
هذه الظاهرة ما كنت لا عرض لها بكل هذا التعبير والشرح المسهبين، لو لا أنني كنت ولا زلت في حاجة ماسة لا تناول معكم موضوعاً مهماً، في شكل سؤال لطالما أرّقني وما برح مخيلتي، حتى أنه عاش في مخيلتي منذ أمدٍ بعيد، إلى أن عشعش في نسيجها، فهاكموه: هل في الشعر ثقافة ؟ ما من أحدٍ يجهل إجابته بما توفر له من إطلاع، هذا ما أدركه جيداً، كما إنني اعلم بأنَّ البعض منكم سيجيبني بالإثبات قائلاً: (نعم) ثم يصمت مكتفياً بهذه الإجابة الموجزة، لكأنه يملأ نموذجاً لاستفتاء ما، فلا خيار أمامه إلا بين كلمتين هما (نعم) أو (لا) كما أعي أيضاً، أن البعض الآخر سيحتفظ بهذه الإجابة لنفسه ولوقت لا يكاد يذكر بسبب قصره، لكونها منطقية، ومن العبث السجال في صحتها، ثم يُعقب عليها بعد أن يلتقط أنفاسه من وقع الاستغراب أو الاستهجان، لست أدري ضبطاً، وبعد أن كان قد استقبل سؤالي سيعيد إرساله إليّ بحرفية فائقة، وبصورة المخاطب قائلاً: وما رأيك أنت ؟ لعلك لاحظت جيداً حرف (الواو) الذي جاء في بدء سؤاله المُسترجَع، فكُن على يقينٍ تام، بأنه لم يجيء هكذا عبثاً ولا عبطاً، فكما تعلم هو حرف عطف، قد يتوسط اسمين أو فعلين، وفي أحايين أخرى، قد يفصل بين جملتين، ثانيتهما معطوفة على الأولى، كما ورد في سياق إجابته المتسائلة، إذ أنَّ أولاهما قد حُذفت رأساً لكونها معلومة مسبقاً ولا غُبار عليها (هكذا يرى) أما الثانية، فهي ما نطق بها، على العموم، وعلى اختلاف الأسباب والدوافع التي حملت البعض الثاني على إحالة السؤال إليّ، وكنت قد لخصت وأبرزت لكم بعضاً منها أنفاً، والتي أُرجح منها أحد السببين الأخيرين كدافع إلى ذلك، وأجد أن، من الضرورة تذكيركم بهما مجدداً، منعاً لرجوعكم إلى الفقرة الفائتة، فيصيبكم الملل، وحفاظاً مني على نسق السرد من التفكك والخلل، ومخافة ضياع لُبّ الموضوع، فقد يكون باعثه، هو محاولة منه لإشعاري أدبياً، بأن سؤالي يبعث على الدهشة، لأنه لم يكُن في موضعه المناسب، ولأن الإجابة عنه لا تستلزم منه إهدار وقته الثمين، إذا دخل معي في معترك سجال عقيم سوف لن يولّد مخاضه العسير أية نتيجة ذات فائدة ملموسة، فهو في غنى عن كل ذلك، ولأنها إجابة من البداهة بمكان، للحد الذي جعله يختزنها في قراره نفسه لغاية ما يُخفيها، وأدركها تمام الإدراك، من خلال تجارب ودروس كثيرة قد مررت بها على حداثة سني، فقد أراد أن يسألني بصريح العبارة بعد أن أجابني: نعم هو كذلك.. وما الجديد الذي ستتفضل به في هذا الصدد ؟ هكذا استطعت أنْ أُحلل سؤاله، وأتعمق في جوهره عميقاً، وهكذا تمكنت من أُخرج سؤالي إلى النور، وانفض عنه غبار سنين طوال، وهو ماكث في خاطري، وقدمته لكم أكثر لمعاناً، وعلى طبق من فضة، لا تناوله و إياكم، وقام بعضكم بإرجاعه إليّ،وهو لايعلم بأن هذا ما قد سعيتُ ورميتُ إليه أصلاً، لذا سوف لن أُعيده إليه، إلا مجاباً عنه وبمنظوري الخاص، فيما تبقى من مقالي هذا، ولكل منا الرأي الذي يرتأيه.
أرى فيما أرى، أن الثقافة في تعريفها هي حوصلة المعرفة، التي يكتسبها المثقف وقدرٌ من الإلمام بشتى مجالات الحياة، العلمية منها والأدبية، فيطوّع ما اكتسبه من خبرة ويسخره لأجل منفعة الخلق، وأجد أنَّ الشعر في حقيقته، ما هو إلا ضربٌ من ضروب الفن، ودليلي الدامغ الذي استشهد به على ذلك،هو أن هناك عدداً وافراً من الشعراء يستطيع كتابته في شكل قصائد لها تشطيرات وتفعيلات خاصة لأجل أن تُغنى، فكما تعلم أن الغناء هو من ألوان الفنون المعروفة، كالرسم بأنماطه والنحت بكل أشكاله والموسيقى بتنوع مذاهبها ومقاماتها، وما إلى ذلك من ألوان الفنون الأخرى، فالشعر هو فيضٌ دافق من المشاعر التي تخصُّ كاتبها (الشاعر) الذي يعيشها فيصيغها بحلوها ومرها شعراً على اختلاف مشاربه، مقفى كان أو حراً، فما الثقافة التي سيجنيها المتتبع للشعر، حالما يقرأ في بعض القصائد كلمات لا تعنيه بصلة، وإنما تعني الشاعر في المقام الأول، كأن يقرأ البيت التالي: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى.. فما الحب إلا للحبيب الأوّل ؟ فهل هو قول منزل من السماء ومسلم به، حتى أن البعض يتحجج ويُحاجج به غيره ؟ فهو مجرد كلام يقبل الأخذ والعطاء، كما مضمون هذا المقال، لذا سيستفزني أحدهم ويستفسرني بقوله: إذاً ما هو تعليلك لتصدر الشعر صفحات الملاحق الثقافية بالصحف السيّارة ؟ وإنْ كان الشعر فناً كما تدّعي، لماذا نجدهم يكتبون على غلاف أية مجلة وتحت اسمها مباشرةً العبارة الآتيــة: (مجلة فنيةـ ثقافيةـ شاملة) ومع ذلك، نجدهم يخصصون لكل مجال منها باباً على حدة، ونرى أن الشعر يُنشر في مقدمة صفحات باب الثقافة، ولا ينضوي تحت زاوية الفنون ؟ إياك أن تظنَّ بأنك قد ربحت الجولة بهذا الكم من الأسئلة التي تطرحها، فسوف أُعاملك بالمثل وأتحداك قائلاً: لئن أردتني أن أُجيبك عن أسئلتك فعليك أنْ تُجيبني أنت أولاً عن هذا السؤال: لِمَ في تصورك، يُذيّلون في أول صفحة من هذه المجلات التي تتحدث عنها العبارة التالية: (المواد المنشورة لا تُعبر بالضرورة عن سياسة المجلة ورؤيتها) في حين، نجدهم يقومون بإرجاع المواد إلى أصحابها، وهذا في أحسن الأحوال، لأنهم في أحيان أخرى يهملونها، يعيدونها بطريقة مفبركة على الرغم من أنَّ هذه المواد قد كُتبت بأساليب محبكة وبجمل مسبوكة ولا تشوبها أية شائبة، وتتوافر فيها كل مقومات النص الأدبي الناجح، بحجة أنها ستؤلب عليهم الرأي العام، فيا عزيزي، لا تعتد بمثل هذه الشكليات التي ذكرتها ودعك منها،وذرني الآن، اكتفي بهذا القدر، فربما لاحظت بنفسك أننا دخلنا في سجال عقيم، لم يُفضِ إلى نتيجة، بخصوص سؤال تفرعت من أسئلة كثيرة، وتشعبت منه استفسارات عديدة، وصرنا فقط نتراشق بالأسئلة، في شكل إجابات متسائلة وغير مجدية نفعاً، وبات كل واحد منا يُريد أن يُغلّب رأيه على الآخر، لذا سأعود عن طرح ذلك السؤال، وأُعيده إلى مخيلتي، وتذكر فقط بأنني في يوم ما قد طرحته عليك، وذا يكفيني.
بنغـــازي فــي: 2. 6. 2006