حوار سنا الومضة .. مع الأديب الليبي جمعة الفاخري
اسعد بك الصديق العزيز واسمح لي بطرح نقاط للحوار ثم يتداخل الأصدقاء معنا.
* عن مشوارك الثقافي ومشوارك مع القصص القصيرة جداً، كيف ترى جيل اليوم ؟
– أنا بدأت كتابة القصة القصيرة جدًّا منذ عام 2002 تقريبًا .. قبلها كنت أقترف القصة القصيرة جدًّا .. وارتكب القصيدة .. والشذرة والمقالة الأدبية .. وأصدرت أوَّل مجموعة لي القصة القصيرة جدًّا ( عناق ظلال مراوغة ) سنة 2006 عن دار قناديل ببيروت .. ثم توالت بعدها مجموعات أخرى ( رفيف أسئلةٍ أخرى ، حبيباتي ، عطر الشمس ، سحابة مسك ، قهقهة شهيَّة ) ، والطبعة الثانية من ( عناق ظلال مراوغة ) ، ولديَّ تحت الطبع ( مراسم اقتراف وطن ) و( عصير ثرثرة ) . فضلاً عن مجموعتين أخريين أسميت الأولى ( شهرَسرد ) والثانية في طور التنقيح والمراجعة وهي بلا اسم حتَّى الآن.
أما ما يخصُّ هذا الجيل ، فكما أنَّ لكل عصر مواهبه ومبدعيه ؛ فإن هذا الجيل به كثيرون من أصحاب المواهب الحقيقية .. والهمم العالية .. وذوو الطموحاتِ الكبيرة .. وقد أفادوا من التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال في اكتساب كثير من المعرفة والتواصل والانتشار .. وأنا متفائلٌ جدًّا بوجود المواهب الحقيقيَّة ، بطموحات كبيرة وإصرار عالٍ يميِّز كثيرًا منهم .
* هل هنالك تراجع في المواهب والمقارنة بأيام الزمن الجميل وهل المقارنة مجحفة في حق جيل اليوم وأنا منهم.
– لا أجزم بوجود تراجع في مواهب هذا الجيل .. فلكل جيل مواهبه ومناقبه ، ومعايبه ومثالبه أيضًا ، وما يميِّز الأجيال السَّابقة عن اللاحقة هو اهتمام الأوَّلينَ الشديد باللغةِ بكلِّ جوانبها .. فضلاً عنِ الإلمام بلغاتٍ أخرى .. أما الجيل المعاصر فأغلبهم قليلو الدِّراية بأسرار لغتهم بفقهها وبلاغتها ونحوها وصرفها وعروضها وإملائها وغيرها .. وهذا أضعف مقدرتهم على اقتراف المجاز المنجز والمعجز .. والجنوح إلى الخيال المبهر .. وقلَّل من قدراتهم على التعبير عن خوالجهم ومكنونات أعماقهم . فلا إبداعَ بلا لغةٍ رصينةٍ خاليةٍ منَ الأخطاء .. أما دعاوى صعوبة العربيَّة التي يتحجَّج بها بعض فاقدي الأهليَّةِ للكتابة السَّليمة ، الواضحة المبينة ، فهي غير مقنعة على الإطلاق ، لا سيَّما ونحن في زمنٍ يتيسَّرُ فيه كلُّ شيءٍ ..
* تعددت الوسائط وانتشرت منافذ النشر ،لكن هل هذه على حساب الجودة .
– بلا أدنى شكٍّ ؛ أن كثيرًا ممَّا يُنشر عبر الوسائط الإلكترونيَّة بخاصَّة فيه ضعفٌ وإسفافٌ كبيران .. لأنَّ الفضاءات المفتوحة غير قابلة للمراقبة والتوجيه اللازم .. وكثيرون لا يتقبَّلون النقد والتوجيه .. وهذه معضلةٌ كبيرةٌ .. فالنقدُ ضرورةٌ جدُّ مهمَّةٍ لترقية الإبداع ، وتطوير أدوات وأسلوب المبدعين.
ولا عجبَ أن تتراجع الجودة في ظلِّ هذا الانفلات غير المسبوق فيما ينشر على يدِ كثيرين من ناقصي الموهبة .
* أيام الزمن الجميل اقتصر النشر على الوسائط الورقية ،إذ اعتبرنا هذه الفرص كانت تأتي لهم بعد تمرس كبير ودراية ثم يسمح لك بالنشر .
– لكلِّ زمن أحكامه وظروفه ، وأعتقد أنَّ ذلك ساهم بشكل كبير في التقليل من نسبة الردئ ، وانتشار الأجود والأفضل.
* تنصح بعدم تعجل الكتاب للنشر أي نص إلا بعد عرضه على مصحح لغوي كما يوجد في كل دور النشر .
– إذا كانَ المبدعُ قليلَ الدِّرايَةِ بقواعِدِ لغِتِه ، فهذا واجبٌ حتميٌّ .. لكيلا يخرجَ الكِتَابُ أو النَّصُّ مولودًا مشوَّهًا .. ولا ينبغي على الكاتب أن يُكابر في هذا الأمر إن كانت لغته ضعيفةً مهما كانت مكانته الإبداعيَّة.
* من أهم المشاكل التي تقف عقبة في انتشار كتابات الجيل الحالي كي تصبح أعمالاً ورقية .
– ثمَّة أمورٌ كثيرةٌ تقف حائلاً بينَ المبدعينَ الشبابِ وبينَ فرص النشر الورقي ، فهو مكلِّفٌ ماديًّا نوعًا ما .. عوضًا عن ضعف الحالة الماديَّة لدى أغلب الكتَّاب الشباب .. وغياب الدعم الرسمي من قبلِ المؤسِّسات الثقافيَّة في بلداننا العربيَّة ، واستغلال كثيرٍ من الناشرين لعوز المبدع وحاجته الماسَّة للنشر أوَّلاً ، وللقمة العيش ثانيًا ، ذلك كلُّه يفقد المبدع لذاذات السعادة بما ينشرُ .. ويصعِّب عليه فرص النشر ، أو تحقيق عائداتٍ ماديَّةٍ تغطِّي ثمنَ الورقِ والحبر على الأقل ..
* عن الومضة القصصية في ميزان الأديب جمعة الفاخري
– الومضة القصصيَّة من النصوص المبهرة ، كونها كبسولة سرديَّة معبَّأة بمبهراتٍ كثيرةٍ .. فكرة تبدو صغيرة لكنَّها ( كونيَّةً ) مكتظَّة بمضامين واسعة … تكثيف واختزال وترميز ومفارقة ، وإيجاز وإنجاز فيما يشبه الإعجاز .. هي أشبه بالرصاصة .. صغيرةُ الحجم .. لكنَّها وخيمة النتائج بالمعنيين الإيجابي والسَّلبي.. لكن متى يتحقَّق ذلكَ التأثيرُ الإيجابيُّ المأمول ؟ كثيرون يستسهلونها فتسخرُ منهم .. فمن لا يحيط بماهيَّتِها ، ولا يدرك عوالمها وأسرارها لا يمكنه كتابتها . لهذا فالجيِّدُ قليلٌ أو في حكم النَّادر .. وكثيرٌ من ممَّا يكتب باسمها هو هراءٌ محضٌ .. وعبثٌ لا طائلَ منه.
* كيف وجدت مجموعة سنا الومضة في هذه الفترة القصيرة من عمرها ؟
– إنها تمضي نحو النجاح والتفوُّقِ بثباتٍ واضحٍ . وأرجو ألاَّ يعتني القائمون عليها بالكمِّ لا الكيفِ .. فكثيرٌ من المجموعات يتنسبُ إليها أعضاء كثيرون تفوق أعدادهم العشرة آلاف .. والفائدة قليلة .. فلا يكاد عشرة أو عشرون متابعًا يتفاعلون مع نصٍّ إلاَّ إذا كان نصًّا جنسيًّا للأسف ..
* ما هي أهم النصائح لكتاب الومضة من جيل الشباب :
– أهمُّ ما ينصحُ به المبدع عامَّةً هي القراءة والاطلاع الواسعان .. الركون إلى كتب النقد ، العودة إلى كتب التراث العربيِّ ، والاستماع إلى نصائح الآخرين من ذوي الدراية والخبرة .. والاطلاع على الفنون الأخرى .. الشعر والقصة والقصة القصيرة جدًّا والرواية وقصيدة النثر والهايكو وغيرها من الفنون الإبداعيَّة ، فضلاً عنِ التحسينِ المستمرِّ في المهارات اللغويَّة ، والتنويعُ القرائيُّ في شتَّى مناحي الثقافة ، التاريخ والفلسفة والعلوم والأديان وغيرها ، فكما يقول المثل ( ما الأسد إلاَّ عدَّة خرافٍ مهضومة ).
* كيف أصبح كاتبا جيدا ماذا افعل ؟
– لعلَّ الإجابة السابقة تتحمَّل عنِّي ثلثي الإجابة ، وأضف إلى ذلك القراءة الواسعة لروائع الأدب العالمي ، القراءة الجيَّدة تصنع قارئًا جيِّدًا ، ومن ثمَّ مثقَّفًا واعيًا .. وكاتبًا مدركًا لما يقول ، وماذا يقول ، ولمن ومتى يقول ..
*ما رأيته من عدم اتساع صدر البعض وعدم تقبله للحوار حول نصه .
– لعلَّني أجبت عن هذا سابقًا ؛ لكنَّ تحمُّلَ النقدِ ضرورةٌ ملحَّةٌ ، والنقدُ الموجَّهُ لنصِّكَ لا يطال شخصك في الغالبِ ، نحن لا نكتبُ قرآنًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. نحن كلُّنا عرضةٌ للخطأ .. القارئ والمقروء .. والناقد والمنقود على حدٍّ سواء .. وأن تختلف معي في وجهة نظر أو رأي ، فلا يفسد هذا علائق الودّ .. فلا بدَّ منِ احتمالِ النَّقدِ ، والصَّبرِ على آراءِ الآخرينَ فيما نكتبه .. والإنصاتِ إليهم .. فكثيرون ممَّا يقال في أعمالنا توجيهٌ لنا لنعرفَ أين نقف ، وعلى أي أرضٍ نقف .. !؟
* كيف ترى التسابق هل يبرز لنا صياغات جيده أم مناسبات فقط.
_ التسابق مهمٌّ جدًّا .. فهو يشحذ الهمم ، ويذكي روح التنافس بين المبدعين .. لكن في الغالب لا نتقبَّل النتائج بروحٍ رياضيَّة .. لعلَّهُ عيبٌ موروثٌ في طبيعَتِنَا العربيَّةِ المحبَّةِ للتَّفوُّقِ .. والنابذة للهزيمة .. أو هي موروثٌ جينيٌّ في خلقتنا لا يجعلنا نرضى أن يسبقنا أحدٌ .. ولعلَّها الأنا المتضخِّمة / المتعالية والمكابرة ..
* بين الكاتب والناقد العلاقة يشوبها كثيرٌ من التوجُّس والحساسيَّة المفرطة .
هذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما .. هذه الحساسيَّة محكومة بنفسيَّة كليهما ، ومدى قدرتهما على تقديم النقد من الأوَّل ، وتقبُّله من الثاني. لكن متى أُدرِكتِ المقاصد ، وتوضَّحت والنيَّات ، وتبيَّنتِ الغاياتُ والأهدافُ ، زالَت هذه الريبة ، وانتفت هذه السلبيَّة المقيتة.
* الحماسة الزائدة وتعامل الكاتب مع نصه كأنه ميزان مراجعة لا يقبل أبدا الميل إلى الكفة السالبة ينتظر فقط توازن النص حتى إن كان مختلا.
– هذا مرجعه إلى الكِبْرِ والغرورِ فقط .. كلامُنَا ليسَ محصَّنًا .. ولا هو مبرَّأٌ منَ الخللِ والزَّللِ ، ولا هو معصومٌ منَ الأخطاءِ والنَّقائصِ .. متى أدركنا هذا تقبَّلنا رأي الآخر .. قيل للراحل الكبير ( كامل الشنَّاوي ) ما الفرق بينك وبين الأنبياء ؟
فأجابَ : ” الفرق بيننا ؛ أنهم معصومون من الخطأ ، أما أنا فمعصومٌ منَ الصَّوابِ ..”
* النصوص الإبداعية تتعدُّد قراءاتها وقد تختلف من ذائقة إلى أخرى.
– طبعًا ..لا خلافَ حولَ هذا الموضوع .. زوايا الرؤية تتعدَّد تبعًا لمقدرة الكاتب على طرحِ نصِّهِ .. وتحميله بمحمولاتٍ دلاليَّةٍ ورمزيَّةٍ يمكن أن نتخذها مرتكزًا لرؤى وقراءاتٍ مختلفَةٍ .. الأعمال العظيمة هي تلك التي لم تفسَّر بعد .. ولم تتضح زاوية رؤية بعينها نحوها .. أمَّا تلك القابلة للتفسير .. والسهل الفهم فهي في متناول الجميع .
* النصوص النموذجية في وجهه نظر الأديب جمعة الفاخري هي التي تمسُّ هموم الناس من تجسيد لمشكلات المجتمع وأي قارئ يعتبر أن هذا النص كتب له .
– لا شكَّ في أنَّ النصوص التي تمسُّ حميميَّات الإنسان هي أقربها إليه .. بل هي أقربها للخلودِ .. والأعمال التي تتنصَّل من حملَ همومِ النَّاسِ لا يكتب لها البقاء غالبًا .. والكتَّاب البارعون هم من يتحسَّسونَ حاجاتِ البشرِ .. ويتلمَّسونَ مشاكلهم لأجلِ تناولها إبداعيًّا .. أما الكتابات التي تدير ظهرَها للهمِّ الإنسانيِّ لا بقاء لها .. ولا ذكر لأصحابها ولا خلود.
* ماذا؟ عن السرد القصصي الخيالي هل تعتبر خواطر .
– السَّردُ القصصيُّ الخياليُّ من خلال تعريفكم له يعني ( قصَّة ) والقصَّة من حيث الموضوعات أنواعٌ .. فقد تكون من قصص الخيالِ العلميِّ .. وقد تكون قصص تجريبيَّة يسطو فيها الخيال على نصابِ الواقعِ .. أمَّا الخواطرُ فهي نصوص وجدانيَّةٌ قد تحمل شكل القصِّ .. أو السرد المباشرِ .. وهذا يدخل في باب تماهي الفنون السرديَّة وانفتاحها على بعضها البعضِ.
* الومضة القصصية لأجل ردها إلى جنس القص وعدم التعامل معها كنوع أدبي جديد.
– إن كنت فهمت سؤالكم جيِّدًا ، فإنَّ الومضةَ القصصيَّةَ جنسٌ أصيلٌ منِ القَصِّ ، لها مزاياها وأركانها وخصائصها .. وهي ليست نوعًا أدبيًّا بالتأكيدِ .. لكنَّها تنتمي بجدارةٍ إلى عائلة السَّردِ.
* ماذا عن تحدد عدد كلمات معينة لومضة من 12 الى 10 إلى 8
– أنا لستُ معَ التَّنميطِ والتَّأطيرِ .. فتحديدُ نصٍّ إبداعيٍّ في عددِ كلماتٍ معيَّنةٍ يحبسه في سجنِ العددِ .. ويخنقُ خيالَ المبدعِ ويقيَّدُهُ .. وهذا ينطبقُ على القصَّة القصيرة جدًّا أيضًا ، فأوَّلُ نصٍّ كُتِبَ في هذا الفَنِّ يُرجعُهُ بعضُ المهتمِّينِ بالتأريخِ له إلى ثمانين عامًا خلت ، ذلكَ حينَ كتبَ الرِّوائيُّ الأمريكيُّ الشَّهيرُ أرنست همنغواي قصَّتَهُ القصيرة جدًّا ذاتَ السِّتِّ كلماتٍ ، وذلكَ حينَ تحدَّى أصدقاءَهُ على أن يكتبَ قصةً كاملةً في ستٍ كلماتٍ ، فكتب (For sale: baby shoes never worn ) ، (للبيع ؛ حذاءُ طفلٍ، لم يُلبس أبدًا ) ، وهو ما سمِّيَ بـ( ق. س. ك) ، أو ( قصة ست كلمات ) وقد عدَّها أفضلَ عملٍ كتبَهُ في حياتهِ. وبعدها ولدت ملايين القصص بــ ( مقاسات عدديَّة ) مختلفة وصل بعضها لثلاث مئة كلمة أو يزيد.
لهذا ؛ فبعضُ الإيجازِ لا يُنجزُ .. و( الشَّكلُ قبرٌ ) كما يرى أدونيس. لكن متى ما اتفقنا على ( توصيفٍ وظيفيٍّ ) للومضة ، وهو الأهمُّ ، فسنتخلَّى عن عددِ الكلماتِ .. ونخرج من مأزق القبر الشَّكليِّ ، أو الشَّكلِ القبريِّ إلى براحاتِ الإبداع بحريَّةٍ وانطلاقٍ.
________________