قصة

ناتالي..

من أعمال التشكيلية عفراء الأشهب.
من أعمال التشكيلية عفراء الأشهب.

“لا ينفك يذكرها في كل مرة.. أعرف ذلك”..

 تهتف أعماقها الممتلئة منه وهي تضع يدها على بطنها المتكورة.. يأتيها صوته من كوة تفصل غرفة من الغرف القليلة ببيتهما عن محل مواد البناء الملحق، حيث يجلس دائما. السوق كاسدة في ظروف الحرب، لكنه يمضي الوقت في مشاهدة الأخبار والقراءة وتصفح الإنترنت من هاتفه الخلوي. تذكرها رائحة البيت بأيام الوحم البغيضة. تستند إلى الجدران وهي تتنقل بين الغرف الكثيرة المغلق الأبواب أكثرها فتُعْلمها الخشونة بقسوة الحرب في الأشهر الماضية والتي لم تتوقف تبعاتها بعد.

ناتالي!!

يترنم مجددا. يأتيها صوته متسللا بين دوي القذائف والرصاص.  إنها هي. لا شك أن هذا هو اسمها. لا يزال يذكرها، وإلا لماذا لا يغني هذه الأغنية أمامها؟ ولا يصدح بها إلا لما يأمن أنها ليست إلى جواره؟ كيف تراها ناتالي اليوم يا عز الدين؟! لا شك أنها أصبحت عجوزا. نعم.. هي عجوز اليوم بالتأكيد.. لا يذكر إلا أيامها الخوالي. لا شيء يبقى على حاله.

قبل عام كانت في بيت أبيها معززة مكرمة، وخلال الشهور الأخيرة وجدت نفسها في بيت زوج يكبرها بربع قرن، تنتظر معه وجها جديدا قد يفد إلى تمثيلية الحياة الكئيبة في أي وقت، بعد أن اندلعت الحرب ونزح أهلها بأكملهم عن المدينة.

في زمن الحرب: التغيير أسرع وأمضى.

يعلو صوته من جديد. دائما يغني، تارة بالعربية وطورا بالإنجليزية، وكثيرا بالروسية.

وهي لا تعرف الروسية لكنها تدرك ذلك بحدسها، فهي اللغة الوحيدة التي يعرفها ولا تعرفها. صوته لا بأس به. بل إن صوته جميل. “لماذا لا تغني؟” سألته غير مرة وأجابها مرة واحدة أنه غنى في بعض حفلات المرسكاوي وفي الغربة وأن لديه تسجيلات بصوته “لماذا لا تغني الآن؟”

– يعجبني فيك أنك ديمقراطية، لكنني لم أعد أستطيع الآن. تغير كل شيء. لدي ابن وابنة شابان.

– ابنان من ناتالي؟ وتركاك مثلما تركتك أمهما؟ هؤلاء قوم لا خير فيهم.

– أولا: هي لم تتركني. كل ما في الأمر أن العيش استحال معها كزوجة. أما ابناي فقد تزوجا ومضيا إلى دنياهم.

تعود ناتالي إلى لسانه بعد أن دخل جنته:

 ناتالي.. قطعت أخبارا.. ما تشوفك عين..

قالولي بعيد اسفارا.. قالو بلادا فين..

يا مين ياخدني دارا.. لبوس منها الجبين..

 تقرر أن تقطع خيط سلطنته فجأة بعد أن جاوز الغيظ مداه بصرخة من فاجأها المخاض.. يترك كل شيء.. الهاتف والريموت كونترول والمفاتيح ويهرع إليها متسائلا في لهفة: هل حان الوقت؟!

تهدأ قليلا وتجلس على الكرسي الذي يتوسط الصالة ثم تسأله فجأة:

– من ناتالي هذه؟!

–  ما بك يا أمل؟ وهل هذا وقتها؟

– أسألك.. من هي؟

– ليست واحدة بعينها.. بل لا أعرف أي امرأة بهذا الاسم..

– ولماذا تغني لها إن كنت لا تعرفها؟

– إييييه.. هذه أغنية قديمة لعائلة بندلي اللبنانية أعرفها منذ مطلع شبابي.. عمرها أربعة عقود.. أي أن من غنيت لها أضحت عجوزا.. هذا إذا بقيت على قيد الحياة..

– مثل زوجتك السابقة..

– أوووووف.. ما بك اليوم؟ هل هكذا يفعل المخاض؟! لقد طلقتها كما سبق وأخبرتك.. سأعود إلى المحل إن كنت تشعرين أنك بخير..

     يعود إلى مملكته وتبقى هي تعاني الوحدة رغم الأمتار القليلة التي تبعده عنها.. يتناهى إلى سمعها دوي قصف في مكان غير بعيد. باتت تميز أصواتها المختلفة دون أن تعرف أسماءها. أخبرتها إحدى جاراتها التي تزورها من حين لآخر أن أطفالها يعرفون الفارق في الصوت بين قذيفة الهاون والآر بي جي والمدافع والإطلاقات الأخرى.

     أضحت هذه الأصوات تشعرها بالألفة. بأن الحياة تحمل الجديد وأن هناك أملا ما، فهي تقبع هنا بين جدران البيت بعد نزوح أهلها إلى منطقة بعيدة جدا، وباتت رؤيتهم شبه مستحيلة خاصة بعد مرض أبيها المفاجئ.  لم يعد ممكنا إلا أن تتواصل معهم هاتفيا.

سألته مرارا: أخواتي لسن معي.. من سيعينني في فترة نفاسي؟! لا أحب هذه اللامبالاة فيك..

كان يجيب في كل مرة:

– ستأتي شقيقتي من سبها.. قريبتي من حي السلام.. سأحضر لك ممرضة فيليبينية من مستشفى الولادة.. أو أوكرانية.. لا تهتمي..

– هل بقي أجانب في البلاد؟ لا أظن..

– هناك الكثيرون منهم.. قلت لك دعي الأمر علي..

  في كل مرة كانت تصمت دون أن تتوقف عن التفكير.. حتى في اللحظة التي جلست إلى جواره في السيارة وهي تصرخ من شدة الألم كان هذا الخاطر يؤرق تفكيرها: كيف ستمضي فترة النفاس لوحدها؟! حسناً.. وللإنصاف أيضا.. حتى عندما أحضرت لها الممرضة الشقراء المسنة صبيها وهي تبتسم لها تساءلت: أيها المسكين.. من سيهتم بك وبأمك التي حملت ووضعتك وهنا على وهن؟! وفي السيارة وهي تغادر المشفى إلى بيتها، كانت تبكي بهدوء وبدموع بطيئة مستحضرة المعاناة وهي ترى زوجها يضعه في الكرسي الخلفي للسيارة بداخل حقيبة حمل حديثي الولادة. سيكون الحمل ثقيلا. أثقل من الأشهر التسعة التي مضت.

توقف عز الدين لبرهة أمام باب المشفى وخرجت الممرضة التي أرتها طفلها لتجلس في الكرسي الخلفي للسيارة.

التفت إليها ثم نظر إلى زوجه:

– نسيت أن أقدم إليك من سيساعدك في الأيام القادمة. ناتاشا. طليقتي الروسية..

هتفت بغضب وفي صوت واهن:

– ولكن.. من هي ناتالي إذن!؟

من مجموعة (بائع المناديل)..

مقالات ذات علاقة

على حافة الحزن (1)

حسين بن قرين درمشاكي

طريقنا ليس في نفس الاتجاه

المشرف العام

لعنة الطريق السريع

رحاب شنيب

اترك تعليق