المقالة

الشعب الذي لا يحفظ تاريخه، لا يحفظ ذاته

رد على مقال محذوف!

تاريخ 7 أبريل
تاريخ 7 أبريل

نشر عضو سابق بحركة اللجان الثورية مقالاً في صفحته الشخصية بالفيسبوك، بتاريخ 8 أبريل 2024م، سماه: «حديث حول السابع من أبريل»، لم أنتبه إليه ساعة نشره، ولكن وصلني من عدد من الأصدقاء عبر الرسائل الخاصة على الوتس أب وفيسبوك ماسنجر، فقرأت المقال على الفور بعدما لفت نظري عنوانه واسم كاتبه الذي كان زميل دراسة في المرحلة الثانوية ثم لمدة عام ونصف في الجامعة، حيث غادرت الوطن في نهاية شهر مارس 1981م في رحلة غربة طالت سنينها وامتد فيها ليل الحنين إِلى الوطن.

هالني ما جاء في المقال وما ذكره الكاتب من تفسير وشرح للأحداث لا تمت للواقع بصلة، ومن صور تخالف ما عشناه وعايشناه، وتتناقض تماماً مع واقع عهد اتسم بالعنف والتخلف والاستبداد.

وبعد الانتهاء من قراءة المقال، قمت بحفظه على جهاز الكمبيوتر الشخصي للعودة إليه في وقت لاحق، لأني نويت الرد عليه خلال أيام، لأن وقتي حينها لم يكن يسمح بذلك، خصوصاً أن الرد على التفسيرات الخاطئة والمغالطات التاريخية يحتاج إلى وقت وجهد لرصد الأحداث والوقائع ثم الإتيان بالبيانات والوثائق الدالة عليها بعد تمحيصها وتدقيقها.

وبعد أسبوع من نشر المقال المذكور، دخلت مجدداً على رابطه لأخذ فكرة على تفاعل القُرّاء وقراءة التعليقات ومعرفة عدد الذين قرأوا المقال ومَنْ قاموا بمشاركته، ففوجئت بعدم وجود المقال، لأن الكاتب حذفه من صفحته، وكأن شيئاً لم يكن!!.

وبعد الذي حدث، طرحت على نفسي سؤالاً: هل مازلت هناك جدوى من الرد على مقال قام صاحبه بحذفه!؟. ثم فكّرت في الموضوع، وأخذت المسألة أياماً قبل أن اهتدى إلى فكرة الرد على المحتوى دون ذكر اسم الكاتب، لأني رأيت حذفه للمقال يعني التراجع، أو الاعتراف بالخطأ، أو تجنب المواجهة في معركة خاسرة، أو لأي شيء آخر، والتي جميعها تعني الانسحاب. وقد اهتديت إلى فكرة ضرورة الرد على محتوى المقال، لتبيان الحقائق ودحض الأباطيل، ولوضع النقاط على الحروف، ولإيقاف محاولات الاحتيال على التاريخ وصناعة التزوير. كذلك للتأثير على الواقع بشكل ما، والحفاظ على الذاكرة الوطنية للأجيال، لأن الذاكرة صمام أمان لشعبنا الليبي، أو كما قال أحمد العكيدي القاص والكاتب مغربي: “الذاكرة بمثابة صمام أمان يحمينا من الاختراق ويجعلنا ننعم بإنسانيتنا، وإلاّ صرنا مجرَّد لوحة يشكلها الرسام كيفما شاء ومتى شاء، يضيف إليها اللون الذي يشاء والرسومات التي يشاء وإن شاء نقلها من مكان إِلى آخر أو عرضها للبيع أو أهملها”.

اخترت أن أكون هادئاً في ردي غير متشنج، وأكون صاحب حجة مصحوبة بالدليل والبرهان، أرد بما يليق – وبهدوء تام – لعلّهم يخجلون.. ويستفيقون.. ويندمون.. ويعتذِرُون، ثم يستقيمون.. أي لعلّهم يعقلون.

أراد صاحب المقال المذكور، أو كأنه أراد، رسم صورة مغايرة في أذهان الناس عمّا كان سائداً في عهد العقيد معمّر القذّافي، متناسياً أن الوثائق التي تدين عهد العقيد بآلاف الأطنان، وأن شهود العيان مازالوا أحياء، وأنه أي العقيد حكم بلادنا طوال 42 عاماً بالحديد والنار، عن طريق عصابات اعتادت الهتاف والتلذذ بتعذيب الضحايا وسفك الدماء وقتل الأبرياء، وأن العقيد لقي حتفه بموت شنيع، وترك البلاد بعد معارك ضارية خاضها أحرار ليبيا ضدَّه، خاوية على عروشها لا بنيان فيها ولا مؤسسات، أو كما قال الكاتب المغربي الدكتور عبدالحكيم أحمين: “ترك ليبيا بلداً كأنه خيمة في صحراء قاحلة ليس فيها أثر ولا تلال ولا مقومات.. وترك اسمه ملعوناً على مر الأزمان وأسرته مشردة بين الأوطان وبلده صفراً قحلاً يبدأ رحلة بحث عن حياة كريمة بلا طغيان.. إنها لعبرة لأولي النهى والأبصار”.

قال صاحب: «حديث حول السابع من أبريل»: إنه كتب مقالته عقب نشر العديد من الأحاديث والكتابات التي تحتوي على الكثير من المبالغات والمغالطات، “هدفها صب الزيت علي النار” كما يُخيَّل إليه، وذلك بمناسبة ذكرى السابع من أبريل. ويزعم أن السابع من أبريل لم يعدم فيه العشرات ولا اُعتقل فيه المئات، فالاعتقالات التي تمّت لا تتعدى بضعة أشخاص اعتقلوا في معسكر السابع من أبريل لمدة لا تزيد عن أسبوعين حسب زعمه واعتقاده، والذين تم إعدامهم هم ثلاثة ليبيين فقط تورطوا في حرق مقر الاتحاد الاشتراكي وتفجير ميناء بنغازي، وبالتعاون مع مخابرات دولة أجنبية وفقاً لما ذكر!. وقال بالنص: «هناك كثير من الأحاديث والكتابات هذه الأيام عن السابع من ابريل، يتناول فيها إعدام العشرات من الطلاب في الجامعات الليبيه كما يقال!، ولتصحيح الأحداث.. ولتباين الحقيقة.. ولتصحيح لكثير من المغالطات والمبالغة والجهل بالأحداث، هدفها ونتيجتها صب الزيت علي النار. حدث الإعدام في مكان حدوث الجريمة، ميدان الاتحاد الاشتراكي وميناء بنغازي.. عمر دبوب ومحمّد بن سعود (ميدان الاتحاد الاشتراكي)، والحالة الأخرى مخزوم الورفلي (ميناء بنغازي). صدر حكم الإعدام من محكمة الجنايات ولا يمكن إنكار ذلك، بسبب جريمة تفجير ميناء بنغازي وحرق مقر الاتحاد الاشتراكي، بالتعاون مع مخابرات أجنبية خارجية حسب علمي».

وقال أشياء أخرى تحتاج إِلى تفكيك، سنذكرها تباعاً، ونرد عليها في الوقفات التالية:

تفكيك المحتوى، والرد على المقال!

أقول في البداية، أن اعتقال عمر دبوب ومحمّد الطيّب بن سعود وعمر المخزومي كان تعسفياً، من دون سبب مشروع أو من دون مُسوِّغ قانوني، وقد تعرض جميعهم إِلى التعذيب الوحشي لأنهم كانوا خارج حماية القانون تماماً. وأن عمر دبوب ومحمّد الطيّب بن سعود قد تمَّ الإفراج عنهما بكفالة في فبراير 1977م بعد اعتقالهما في 6 أبريل 1976م، ولكن اُستدعيا مجدَّداً بعد أيام قليلة من عملية الإفراج، ووضعا في سجن «الحصان الأسود» بمدينة طرابلس، وحوكما بمحاكمة لم يتوفر فيه شرطُ واحد من شروط العدالة، فأصدرت المحكمة المسماة بـ«محكمة الشعب» التي ترأسها وقتئذ الرَّائد أحمد محمود الزوي وعضوية النقيب عبدالسلام بوقيلة والنقيب محمّد المصراتي، في الخامس من أبريل 1977م، حكماً يقضى بإعدامهما شنقاً، وقد أُعدما بعد يومين من صدورالحكم بساحة الكاتدرائية في بنغازي.

أما الفنان عمر المخزومي، فقد تمَّ اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها أجهزة النظام الأمنية على الكثير من الطلاب وعدداً آخر من الوطنيين، عقب المظاهرات الطلابية في يناير 1976م، وأودع السجن، وبعد ثمانية أشهر من اعتقاله، اقتيد إِلى ميناء بنغازي ونُفذ فيه حكم جائر بالإعدام. كما يُذكر أن نظام القذّافي – وقبل الإعدامات العلنية الأولى في ميدان الكاتدرائية وساحة ميناء بنغازي – قام بإعدام واحد وعشرين ضابطاً رمياً بالرصاص داخل معسكراتهم، من الذين اتهموا بالمشاركة في محاولة الرَّائد عمر عبدالله المحيشي الانقلابية في أغسطس 1975م، وذلك في 2 أبريل 1977م.

وأستهل ردي بالقول إن حركة اللجان الثورية كانت الذراع الطُّولَى للعقيد معمّر القذّافي في الداخل والخارج منذ تأسيسها في العام 1978م. وقد أسسها القذّافي لتكون أداة ينفذ بها أفكاره وسياساته ومخططاته، أشبه بالحزب الحاكم، لكنها لم تكن حزباً!. ولم تكن الحركة خاضعة للمحاسبة أو الرقابة بأي شكل من الأشكال، وكانت تأخذ التعليمات من القذّافي مباشرة، هدفها حماية الثورة، أي السلطة الحاكمة، وتصفية خصوم ومعارضي القذّافي في الداخل والخارج، كذلك التحريض على ممارسة السلطة وفقاً لما جاء في كتاب القذّافي الأخضر، والتي يصفونها بـ«سلطة الشعب».

كانت اللجان الثورية اليد الطُّولَى في قمع الحركة الطلابية والسيطرة التامة على المدارس والمعاهد والجامعات، وهي التي أشرفت على انتهاك حرمات الجامعات وطرد الطلبة وسجنهم ونصب المشانق لهم، ونفذت عمليات الزحف على البيوت والأملاك والأعمال التجارية والسفارات الليبية، وأقدمت على تنفيذ برنامج القذّافي القاضي بتصفية خصومه داخل ليبيا وخارجها، فشرعت في مطلع الثمانينات في تنفيذ برامج التصفيات الجسدية للمعارضين في الداخل والخارج.  

قلب معمّر القذّافي حياة الليبيين رأساً على عقب، وتطاول على الدين وتعدى على كل شيء يمسّ قيمهم وحياتهم، استخف بالشريعة الإسلامية، وأنكر سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وقال فلنكتفي بالقرآن لا غير، وذلك وفقاً لتصوراته التي هداه إليها عقله السقيم. وحّرف القرآن الكريم، وكان يرى أن كلمة «قل» التي جاءت في القرآن لا ضرورة لها اليوم، وطالب بحذفها، وقد قرأ سورة «الإخلاص» ذات مرة فلم يقرأ كلمة «قل» بل بدأ مباشرة بـ«هو الله أحد…» فهو يرى حذف كلمة «قل» لأنه لا يرى قيمة لها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام!!!. وأنكر حادثة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء. وألغى التاريخ الهجري، وأمر بتاريخ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان التاريخ في عهده ليس بالهجري إنما من وفاة الرسول!!. وقام بأداء العبادات ذات مرة بصورة مخالفة لما هو متفق عليه، حيث صلى بالجماعة ذات يوم صلاة العصر ثلاث ركعات بقراءة جهرية!!. وقد رأي بعض كبّار علماء الأمة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات أن معمّر القذّافي دعيّ على الإسلام، منكر للسنة، مستخف بالشريعة، فاعتبره أولئك العلماء خارجاً من الملة ضالاً مضلاً.

كما أن نظامه كان نظاماً إجرامياً بامتياز، حيث تمّت خلال سنوات عهده الاثنين وأربعين: قتل الأنفس بغير وجه حق، ومصادرة الممتلكات وتضييق سبل العيش على الناس بغرض إذلالهم وإهانتهم والحط من كرامتهم، وتبذير ثروات البلاد على أحلامه المريضة ولتأجيج الصراعات في أماكن كثيرة من العالم ولتمويل عمليات تخريب في بلدان عربية وعلى العمليات الإرهابية بشكل عام، جاء كل ذلك على حساب المواطن أولاَ ثم الوطن حيث توقفت عجلة التنمية في البلاد وتُركت بنيتها التحتيّة تتهالك وتمضي من سيئ إِلى أسوأ، وإِلى درجة الانهيار في بعض الحالات.

وفي جانب ثانٍ، تمَّ تدمير الاقتصاد الليبي بتبنى سياسات اقتصادية فاشلة وإلغاء القطاع الخاص ومحاولات إلغاء العملة والعودة إِلى عصر المقايضة، كذلك تمَّ حلّ المؤسسة العسكرية «الجيش» بعد أن دفع بالكثير من العساكر وضباط القوات المسلحة في معارك خاسرة في صحراء تشاد وأدغال أوغندا وغيرهما، وقد وجه القذّافي اهتمامه لإنشاء الكتائب أو الميليشيات الموالية له عقب الهزيمة الثقيلة التي مني بها في تشاد، فهمّش الجيش بعد ذلك وصارت تلك الميليشيات منذ العام 1987م أكثر أهمية من الجيش.

رفض الاختلاف وقتل المعارضين شنقاً في الميادين العامة والملاعب الرياضية وداخل الجامعات ونقل مشاهد الإعدام مباشرة عبر التلفزيون الليبي، وخروج القذّافي على وسائل الإعلام ذات مرة بعد حملة إعدامات واسعة شهدتها البلاد، قائلاً، وبلسانه: «شنقناهم زى القطاطيس بدون محاكمة». بالإضافة إِلى تعذيب السجناء السياسيين وانتزاع الاعترافات غير الصحيحة تحت التعذيب الجسدي والنفسي، واتخاذ التعذيب أسلوباً في التعامل مع السجناء ؟، لدرجة استشهاد العديد منهم تحت وطـأة التعذيب والضرب المبرح في سجون القذّافي سيئة السمعة.

استرخص النفس البشرية، وارتكاب جرائم القتل الجماعي، وجريمة «سجن أبو سليم» واحدة من جرائم القتل الجماعي الكاشفة لما كان يجري في عهد القذّافي وداخل ردهات وزنازين سجونه ومعتقلاته، فقد اقتحمت مجموعة من القوات الخاصة غالبية زنازين «سجن أبو سليم»، بضواحي العاصمة طرابلس في التاسع والعشرين من يونيو من العام 1996م، وفتحت النيران عليهم فأردتهم قتلى، في قضية شهيرة عُرفت باسم «مذبحة أو مجزرة سجن أبو سليم»، راح ضحيتها «1269» معتقلاً أو معارضاً لنظام معمّر القذّافي.

مطاردة المعارضين الليبيين في المنافي وملاحقتهم أينما كانوا، وإطلاق حملات مسعورة للقتل والتصفية، تحت شعارات: «سير ولا تهتم.. صفيهم بالدم»، «نحن شرّابين الدم»، ثم إرسال فرق من عناصر اللجان الثورية لاغتيال المعارضين، اللجان التي أعلنت في 3 فبراير 1980م عن البدء في عمليات التصفية الجسدية للمعارضين السياسيين في الداخل والخارج تحت عنوان عريض هو: «التصفية الجسدية هي المرحلة الأخيرة في جدلية الصراع الثوري لحسمه نهائياً».

وفي 11 أبريل 1980م، قامت اللجان الثورية باغتيال محمّد مصطفى رمضان الكاتب والإعلامي والمذيع الليبي المعروف عربياً عبر محطة وراديو «بي بي سي»، أثناء خروجه من مسجد ريجنت في العاصمة البريطانية لندن « Regent Mosque in London» بعد أداء صلاة الجمعة. وتوالت بعد ذلك اغتيالات المعارضين في الخارج في شهر أبريل، حيث قامت اللجان الثورية باغتيال عبداللطيف المنتصر في بيروت في 21 أبريل 1980م، ومحمود عبدالسلام نافع في لندن في 25 أبريل 1980م، وجبريل عبدالرازق الدينالي في ألمانيا في 6 أبريل 1985م.

كانت حادثة اغتيال الشهيد محمّد مصطفى رمضان في لندن العملية الثانية، حيث تمّت عملية الاغتيال الأولى في روما والتي طالت رصاصاتها الشهيد محمّد سالم الرتيمي، وكان ذلك في 21 مارس 1980م. وقد نفذت حركة اللجان الثورية ما يقارب من ثلاثين عملية اغتيال في الخارج منذ أول عملية نفذتها في مدينة روما عاصمة إيطاليا في شهر مارس 1980م، حتى آخر عملية نفذتها في لندن في 26 نوفمبر 1995م وكان ضحيتها الشهيد علي محمّد أبوزيد الذي عثر عليه جثة هامدة غارقاً في دمائه داخل دكانه المخصص لبيع الخضار واللحوم في شارع وستبرن غروف وسط لندن «Westburn Grove Street, central London»، مصاباً بطعنات من آلة حادة في القسم الأعلى من جسده.

ما سلف ذكره، ما هو إلاّ جزء مهم من سلسلة جرائم نظام عُرف بعنفه وتخلفه وغرابة أطوار مَنْ كان يتحكم في مفاصله وبيده كانت كافة خيوطه.. نظام حارب الفضيلة ونشر الرذيلة، وأفتى بغير علم، وأنكر السنة النبوية الشريف.. ونظام فاقت بشاعة جرائمه أعتى الأنظمة جبروتاً وقمعاً عبر التاريخ، فعلاوة على قتل معارضيه والتمثيل بجثثهم، كان يقوم بهدم بيوتهم ليحرم أسرهم من سقف يأويهم، ويحتفظ بجثث بعضهم في ثلاجات الموتى لعقود من الزمن تشفياً وتلبيةً لمتطلبات عمليات السحر والشعوذة التي كان يتعاطاها!.

هذه حقائق تاريخية، لابد من الوقوف عندها وإدانتها دون أي تحفظ أو إنكار، لأن تجاهلها يزيد من مخاطر تكرارها. كذلك، لابد من تجريمها والتذكير بها، لأن نسيانها يعني خسران معركة الحرية، وفقدان الذاكرة، والشعب الذي يفقد ذاكرته ويهمل تاريخه ولا يعيه، ولا يتعظ ولا يعتبر ولا يأخذ بالأسباب، تنبعث له قوى هدمه التاريخية مجدداً.. وهذا ما حدث في ليبيا بعد ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة.

تجريم نظام القذّافي، أي الفكر الذي قام عليه، وإصدار قانون بذلك، واجب وطني لابد من الإتيان به، وكل مَنْ يتحفظ على هذا التجريم أو ينكره أو يبرر جرائم نظام القذّافي ويدعو لعودته، ينبغي أن يتعرض للمساءلة القانونية وينال عقابه وفقاً للقانون.

صارت الحاجة اليوم أكثر إلحاحاً لإصدار قانون يجرم نظام القذّافي ويعاقب الأصوات التي تشيد بشخص القذّافي وتدافع عن جرائم عهده البائس المتخلف الذي مازلنا نعاني من تبعاته ومخلفاته وإرثه الثقيل حتى الساعة. أقول أكثر إلحاحاً بعدما عادت بعض عناصر نظام القذّافي الدموية إِلى الواجهة وصارت تتبوأ مواقع قيادية في السلطة من جديد، وبعدما رأينا عتاة اللجان الثورية يصدرون الكتب ويخرجون اليوم على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يصفون ثورة السابع عشر من فبراير بـ«النكبة»، ويزيفون الحقائق، ويبررون جرائم القتل الفردية والجماعية التي ارتكبها نظام القذّافي، ويدعون أن جرائم القتل والإعدام التي حدثت بعد فبراير أكبر وأعظم من حوادث القتل التي تمّت في عهد سبتمبر والذي كان قائده معمّر القذّافي يخوض حرباً ضدَّ الإمبريالية والغطرسة الغربية والقوى المحلية الموالية لهما على حد زعمهم!!!.

ذكر العضو الفعّال السابق بحركة اللجان الثورية في المقال المذكور، أنه لم يحدث خلال سنوات وجوده بالجامعة فيما بين عامي 1978م و 1984م أي عنف أو إعدامات أو اعتقالات أو أذى لأي طالب بسبب سياسي، وقال بالنص: «أنا التحقت بالجامعة في العام الدراسي 78/ 79 إلى 1984م، لم يحدث أي عنف ولا أي محاكمة ولا إعدامات ولا فصل أي طالب لأي سبب سياسي خلال فترة دراستي بالجامعة، وإن وجدت حالة إعدام واحدة غيرهم (يقصد عمر دبوب ومحمّد بن سعود وعمر المخزومي) فأرجوكم إعطائي الاسم ومكان الإعدام، وأنا هنا أتكلم عن يوم السابع من أبريل العام 1976م إلى الفترة التي درست بها في الجامعة».

هذا تغيير للحقائق وتزوير بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وربما اعتقد صاحب المقال المُشار إليه أن كثرة المصائب وتتابعها أصاب ذاكرتنا بعطب مزمن، وأن ذاكرتنا مثقوبة، وأن مصائب اليوم أنست الناس ما حدث بالأمس، لأنها أشد وطأة حسبما يعتقد، متناسياً أنّ الماضي الأليم يترك آثاره مخلدة في الذاكرة، ومتجاهلاً إرثاً ثقيلاَ تركه النظام السابق، لأن إرث الاستبداد يترك وراءه ثقافة تشكل تحدياً أمام الانتقال السلس من النظام القمعي القديم إِلى نظام دستوري ديمقراطي يقوم على صناديق الاقتراع، ويصبح فيه الفرد مواطناً لا رعية، وغاضاً الطرف كذلك عن نتائج سقوط المستبد وما ينتج عنه من ثورة مضادة وصراعات واستفاقة النعرات القبلية والجهوية والدينية، بالإضافة إِلى الفوضى والتدخلات الخارجية، وأن التخلص من كل ذلك يحتاج إِلى وقت قد يطول وقد يقصر، فلا مسؤولية للثورة عما حدث بعد نجاحها في إسقاط المستبد، لأنها سلمت الراية إِلى الشعب ليتغلبوا على مخلفات ثقافة الاستبداد ويواجهوا الثورة المضادة والتدخلات الخارجية.. المسؤولية تقع على عاتق الجميـــــع.

حملة اعتقالات في صفوف الشباب، وغير مسبوقة في صفوف طالبات كلية الاقتصاد!

قال صاحب مقال: «حديث حول السابع من أبريل»، إنه لم يحدث خلال سنوات وجوده بالجامعة فيما بين عامي 1978م و1984م أي اعتقالات أو عنف أو قتل أو إعدامات، ولكن الحقيقة تقر عكس ذلك تماماً، حيث شنت حملات اعتقال خلال الفترة المشار إليها، ونصبت المشانق في ساحات الجامعات الليبية. ففي صيف 1982م، تم اعتقال مجموعة من الطلبة والطالبات في جامعة بنغازي، بعد التطورات التي حدثت في الجامعة عقب نقل كلية الاقتصاد من بنغازي إِلى طبرق لمدة فصل دراسي، وبعد توزيع بعض المناشير المنددة بشخص القذّافي ونظامه في العام 1982م، ثم ظهور بعض الكتابات على جدران الجامعة الداعية إِلى إسقاط نظام القذّافي ولجانه الثورية.

في أواخر العام 1980م، قرر العقيد القذّافي تحويل الجامعات إِلى ثكنات عسكرية، واختار أن تبدأ التجربة أو تكون البداية بكلية الاقتصاد، وأوعز إِلى لجانه الثورية بعقد اجتماع مع طلبة الكلية وإخبارهم بنقل الكلية في السمستر الدراسي القادم إِلى إلى أحد معسكرات مدينة طبرق التي تبعد عن بنغازي ما يساوي الـ«450» كيلو متراً مربعاً!!.

عقدت اللجان الثورية في مطلع العام 1981م الاجتماع الذي أوصاهم القذّافي بعقده، في «مدرج 1» بكلية الاقتصاد، في أجواء طلابية كان يسودها الرعب والخوف والتوتر، حضره عتاولة اللجان الثورية وقتذاك، وبدأت تلك العناصر الاجتماع بتمجيد القذّافي والثناء على مواقفه والتأكيد على الاستجابة لما ينادي به ويطرحه، مهددة مَنْ لا يستجيب لنداءاته بالويل والثبور وعظائم الأمور.

أخبرت اللجان الثورية الطلاب بنقل كليتهم إِلى أحد معسكرات طبرق في السمستر القادم، تنفيذاً لمشروع تحويل الجامعات إِلى ثكنات عسكرية، وتعزيزاً لفكرة الشعب المسلح، وتحقيقاً لهدف أن تكون السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب، كما دعت النظرية السياسية الواردة في الكتاب الأخضر ونصّت على ذلك، وعلى أن يكون الشعب في الجماهيرية يحكم نفسه بنفسه دون وصاية من أحد.

لم يكن الطلبة راضين عن نقل كليتهم إِلى طبرق، وحاولوا التعبير عن موقفهم ورفضهم بشكل أو آخر، ولكن اللجان الثورية كانت لها اليد الطُّولَى في ذلك الوقت وكان بإمكانها إلصاق تهمة العمالة والخيانة والرجعية والانتماء إِلى جماعة محظورة والتخطيط لأعمال إرهابية، لكل مَنْ يرفع صوته ويعترض.

وبعد فترة من هذه الواقعة ظهرت مناشير في الجامعة تندد بنظام القذّافي وتصفه بالدكتاتوري المستبد، وتحرض الطلبة على الوقوف ضده ومواجهته وتضييق الخناق على أدواته القمعية المتمثلة في حركة اللجان الثورية. وفي مايو 1982م، ظهرت كتابات على حائط أو حَوَائِط الجامعة في مدرج كلية الاقتصاد، مثل: «يسقط القذّافي»، «تسقط اللجان الثورية»، «أين الحرية.. أين الديمقراطية؟؟».. وغير ذلك. اتهمت ثلاث بنات أو طالبات بكلية الاقتصاد بالعملية، وهن: جميله محمّد فلاق، سارة الشافعي، صوفيا بودجاجة، وأُلقي القبض عليهن داخل الجامعة وتم احتجازهن لمدة ستة أيام في مركز البحوث داخل مبنى كلية الاقتصاد، حيث تم تعذيبهن وضربهن ضرباً مبرحاً حتى الاغماء كما قالت جميله فلاق إحدى المعتقلات. وتواصل بعدئذ التحقيق معهن وتعذيبهن، بعد نقلهن إِلى الكتيبة ثم السجن. وبعد أسابيع قليلة من اعتقال الطالبات الثلاث، تم إلقاء القبض على واحد وعشرين شاباً، كان واحد من بينهم طالباً منتسباً، هو «جلال حسن السوسي»، وبعضهم كان من الطلاب النظاميين، والبعض الآخر كان إما حديث العهد بالتخرج أو تخرج في الجامعة منذ بضع سنوات. وجميع الذين تم اعتقالهم من سكان مدينة بنغازي ماعدا اثنين درسا بها ثم غادر كل منهما إِلى مدينته، «عثمان المقيرحي (مدينة طبرق)، محمّد بوخريص (مدينة غريان)».

والذي حدث، تم اعتقال الواحد عشرين شاباً في شهر رمضان 1402 هجري الموافق شهر يوليو 1982م على خلفية المناشير والكتابات التي ظهرت على جدران الجامعة، وقضوا في السجن سنة كاملة، وتعرضوا في السجن لأشد أنواع التعذيب الجسدي، منها الحبس الانفرادي والضرب المبرح والصعق الكهربائي، وهم:

1 – فتحي فرج البرقاوي

2- عثمان سليمان المقيرحي

3 – ثابت أحمد بوهدمة

4- فتح الله عبدالله الشيخي

5 – السنوسي موسى البرعص

6 – فرج عبدالحميد الحاسي

7 – حاتم رجب الماجري

8 – عمر رجب بن كاطو

9 – بلقاسم عبدالسلام بويصير

10 – فوزي دخيل بوشريدة

11 – فوزي محمّد الهوني

12 – فوزي طاهر الشامي

13- عبدالرازق بن عمران

14 – محمّد بوخريص

15 – ناجي بوحوية خليف «استشهد تحت التعذيب»

16 – صلاح محمّد الشكماك

17 – أحمد إسماعيل مخلوف «استشهد تحت التعذيب»

18 – بلعيد الصابر

19 – صالح عبدالسلام المكحل

20 – جلال حسن السوسي

21 – أسامة علي الشويهدي المعروف باسم «سامي الشويهدي»

وبعيداً عن الجامعة، شنت أجهزة القذّافي الأمنية حملة اعتقالات واسعة على طلبة المرحلة الثانوية في مدينة بنغازي «مدرسة صلاح الدين، مدرسة شهداء يناير، مدرسة بنغازي»، .. شملت خمسة وعشرين طالباً وعدداً آخر من العسكريين أغلبهم من الجنود من مدينتي المرج والبيضاء بلغ عددهم عشرين شخصاً، في أواخر العام 1981م وأوائل العام 1982م، على خلفية محاولة اغتيال معمّر القذّافي في «سوق الرويسات» ببنغازي التي اتهم فيها الضابط فتحي عبدالحميد الشاعري «نقيب طيّار». وطالت الاعتقالات عدداً من آل الشاعري، أخوة النقيب فتحي الشاعري، وابن اخيه، والأخوة هم: عبدالله عبدالحميد الشاعري، سليمان عبدالحميد الشاعري، أحمد عبدالحميد الشاعري، بالإضافة إِلى ابن أخيه: ناصر عبدالله الشاعري.

أصدرت المحكمة حكماً بالإعدام على النقيب فتحي الشاعري المتهم الرئيسي في القضية، وحكمين بالإعدام غيابياً على السيد علي عبدالحميد الشاعري «أخ فتحى»، ونبيل عبدالله الشاعري «ابن اخيه». ويُذكر أن هناك بعض الأشخاص تمَّ اعتقالهم لمدة خمسة وأربعين يوماً وتعرضوا للتحقيق المكثف وسوء المعاملة والتعذيب الشديد لبعضهم، ثم أطلق سراحهم، وهم: فتحي عبدالله السنكي المقيم في طرابلس، ومجموعة راس لانوف التي كانت تعمل في مجال النفط والغاز، وهم: عزالدين الطويل، خليفة طقطق، فتحي المجريسي، حمد سردينة. كما يُذكر أن الأحكام التي صدرت على الطلبة الخمسة والعشرين ومجموعة مدينتي المرج والبيضاء، تراوحت بين المؤبد والخمس سنوات والبراءة، وأن جميع هؤلاء – وحتى الذين حُكم عليهم بالبراءة – ظلوا في السجن إِلى الربع الأول من العام 1988م، حيث شملتهم إفراجات 3 مارس 1988م التي عُرفت شعبياً بـ«إفراجات أصبح الصبح!».

أفرج معمّر القذّافي على عدد كبير من السجناء السياسيين يوم 3 مارس 1988م، ولم يفرج عن البعض الآخر وهم أعضاء حزب التَّحرير، وأعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبَيا، وربما بعض المستقلين، وكان هدفه من ذلك تحقيق بعض الأهداف السياسية لنظامه وتحسين صورته في الخارج وتفكيك المعارضة التي كانت تشكل ضغطاً عليه وتنشط ضدَّه وقتئذ، ووقتما كان نظامه يوصم بالإرهاب والاستبداد.

والطلبة الخمسة والعشرون الذين تم اعتقالهم هم:

1 – سعد عبدالجليل الصلابي

2- سعد ياسين العبيدي

3 – سعد محمّد عامر

4 – عبدالسلام عبدالحميد فوناس

5 – يوسف عبدالسلام قرقوم

6 – سوسي عبدالسلام قرقوم

7 – عبدالوهاب محمّد بسيكري

8 – ميلاد ابراهيم البدين

9 – بالنور محمّد العبدلي

10 – حسين مراجع كويدير

11 – جمال سعيد جربوع

12 – مصدق يوسف بوكر

13 – جلال عبدالله البرعصي

14 – محسن عبدالكريم لياس

15 – ناصر عبدالله الشاعري

16 – السنوسي عيسى المحجوب

17- علي محمّد الصلابي

18 – محسن ونيس القذافي

19 – نايف الرضا السنوسي

20 – عبداللطيف بسيكري

21 – يوسف فرج الفيتوري

22 – عبدالكافي مصطفي بوزيان

23 – مصطفي حمد خليف

24 – أحمد بوبكر العبّار

25 – عبدالحكيم سعد البرغثي «الطالب الوحيد الذي كان وقتها في الجامعة، كلية الطب – طرابلس»

مشانق وإعدامات!

نصبت المشانق في ساحات الجامعة بين عامي 1983م و1984م، وأُعدم عدد من الطلاب أمام زملائهم في جامعتي طرابلس وبنغازي. أرغم الطلاب على حضور إعدامات زملائهم، وسط هتافات اللجان الثورية وتصفيقهم وزغاريدهم، ومن بين هتافات شرّابين الدم من أعضاء اللجان الثوريه حينها: «اطلع يا خفاش الليل… جاك السابع من أبريل»، و«صفيهم بالدم يا قائد… سير ولا تهتم يا قائد»، و«ما نبوش كلام لسان… نبو شنقة في الميدان»، «لا ترحم من خان، شنقاً شنقاً في الميدان».

أُعدم محمّد مهذب إحفاف «طالب جامعي بكلية الهندسة» شنقاً يوم 7 أبريل 1983م في ساحة كلية الهندسة بجامعة طرابلس. وأُعدم رشيد منصور كعبار «طالب جامعي بكلية الصيدلة» شنقاً يوم 16 أبريل 1984م في ساحة كلية الصيدلة بجامعة طرابلس. وأُعدم حافظ المدني الورفلي «طالب جامعي بكلية الزراعة» شنقاً يوم 16 أبريل 1984م في إحدى ساحات كلية الزراعة بجامعة طرابلس. وأُعدم مصطفى إرحومة النويري «الرئيس السابق لاتحاد عام طلبة ليبيا» شنقاً يوم 21 أبريل 1984م داخل الحرم الجامعي بمدينة بنغازي، وقام أحد أعضاء اللجان الثورية الذي لقي حتفه لاحقاً، هو وزوجته بجرجرة جثته بعد إنزالها من المشنقة وركلها أمام أعين الجميع.

وبعيداً عن الجامعة وما جرى فيها، تمّت إعدامات أخرى في ليبيا بعد أحداث الثامن من مايو من العام 1984م التي قامت بها «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا» بقيادة مفوضها العسكري أحمد إبراهيم إحواس الذي استشهد يوم 6 مايو 1984م، الأحداث المعروفة بـ«معركة باب العزيزية»، حيث استشهد في ميدان المعركة يوم الثامن من مايو، تسعة أشخاص هم: «خالد علي يحيى معمّر، عبدالناصر عبدالله الدحّرة، مصطفى الجالي بوغرارة، محمّد ونيس الرعيض، جمال محمود السباعي، محمّد هاشم الحضيري، عبدالله إبراهيم الماطوني، سالم طاهر الماني، يحيى علي يحيى معمّر». واستشهد شخصان آخران بعد يوم المعركة، وفي مواجهات منفردة، هما: مجدي محمّد الشويهدي – استشهد يوم 11 شعبان 1404 هجري الموافق 12 مايو 1984م، في اشتباك مُسلح مع عناصر نظام القذّافي في إحدى ضواحي مدينة طرابلس.. سالم إبراهيم القلالي – استشهد يوم 16 شعبان 1404 هجري الموافق 17 مايو 1984م، في اشتباك مُسلح مع عناصر نظام القذّافي في إحدى ضواحي مدينة طرابلس.

هذا، وقد اعتقل نظام القذّافي بعد معركة باب العزيزية أكثر من ثلاثة آلاف شخص، أعدم منهم تسعة أشخاص شنقاً في ميادين عامة بقرى ومدن ليبية مختلفة، وأفرج عن مجموعة منهم بعد أسابيع وشهور قليلة من اعتقالهم، ومجموعة أخرى أفرج عنهم بعد سنوات، وظل ستون عضواً من أعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا رهن الاعتقال ستة عشر عاماً، حيث تم الإفراج عنهم في صيف 2001م.

أعدم نظام القذّافي شنقاً على أعواد المشانق تسعة أشخاص بقرى ومدن ليبية مختلفة، ثمانية منهم في شهر يونيو من العام 1984م والذي كان يوافق شهر رمضان المبارك، وواحد فقط أُعدم بعد سنتين من إعدام رفاقه. ونقلت مشاهد الإعدام في التلفزيون الليبي، وقبل موعد الإفطار في الشهر الكريم، وهم:

• محمّد سعيد الشيباني – أُعدم شنقاً في بلدة «بلدة طمزين» بالجبل الغربي، يوم 2 رمضان 1404 هجري الموافق 2 يونيو 1984م.

• ساسي علي ساسي زكري – أُعدم شنقاً في مدينة «نالوت» بالجبل الغربي، يوم 4 رمضان 1404 هجري الموافق 4 يونيو 1984م.

• أحمد علي أحمد سليمان – أُعدم شنقاً في مدينة «نالوت» بالجبل الغربي، يوم 4 رمضان 1404 هجري الموافق 4 يونيو 1984م.

• عثمان علي زرتي – أُعدم شنقاً بميدان «سوق الجمعة» بمدينة طرابلس، يوم 5 رمضان 1404 هجري الموافق 5 يونيو 1984م.

• الصادق حامد الشويهدي – أُعدم شنقاً في المدينة الرياضية، مجمع «سليمان الضراط» بمدينة بنغازي، يوم 6 رمضان 1404 هجري الموافق 6 يونيو 1984م.

• عبدالباري عمر فنوش – أُعدم شنقاً في واحة «جالو»، يوم 7 رمضان 1404 هجري الموافق 7 يونيو 1984م.

• المهدي رجب لياس – أُعدم شنقاً في مدينة «طبرق»، يوم 7 رمضان 1404 هجري الموافق 7 يونيو 1984م.

• فرحات عمّار حلب – أُعدم شنقاً في مدينة «زوارة«، يوم 10 رمضان 1404 هجري الموافق 10 يونيو 1984م.

• إسماعيل السنوسي – أُعدم شنقاً بعد مرور سنتين على معركة باب العزيزية، في مدينة «ودّان»، يوم الأربعاء الموافق 6 أغسطس 1986م.

وبالإضافة إِلى الإعدامات هناك مَنْ استشهد تحت التعذيب على أيدي اللجان الثورية وغيرهم من عناصر أجهزة القذّافي العسكرية والأمنية، التعذيب الذي كان نظام القذّافي تفنن في ابتكار أبشع أدواته للتنكيل بمعارضيه أو انتزاع اعترافات على جرائم لم يرتكبوها، ويخبرني علي العكرمي عن مسلسل التعذيب داخل سجون القذّافي فيقول: «كنّا نسمع صرخات التعذيب، آهات المذبوحين، استجداءهم، في كل يوم، أحياناً توقظنا تلك الصرخات في منتصف الليل، أحد الزبانية عنَّ له أن يتسلى فأخرج سجيناً بطريقة عشوائية من أقرب عنبر إليه وراح يتلذذ بتعذيبه، وكان بعض التعذيب يتم أمام أعيننا جميعاً، كانوا يفعلون ذلك لزرع الرعب في قلوبنا. أحدهم ألزموني أن أقف فوق رأسه، انهالوا على رأسه بهراوة غليظة، نفر الدم من جبهته كنافورة، صرخ صرخة نزعت الحياة من روحي، استجداهم أن يتوقفوا، قال لهم: “توقفوا واكتبوا ما تريدون على لساني وأنا أوقع عليه.. فقط ارحموني”. لم يتوقفوا، ظلوا يضربونه، وظل يصرخ حتى خفت صراخه مرة واحدة، وهمد فجأة!.

رأيت أناساً قلعت أظافرهم، وظلوا لا يستطيعون المشي شهوراً، ورأيت جلوداً اصطبغت بالدم أول التعذيب، ثم لما تجلط الدم في المساء بدأ اللون الأزرق يظهر، ثم لما ترك فيها العفن زمناً تحولت إلى اللون الأسود حافرة أخاديد، وتاركة تشوهات ظلت ترافق السجين إلى آخر عمره. ورأيت أصابع مقطوعة جراء الضرب بالكاوات المعدنية، لممت عن الأرض بعضها، ولم أدر ما أفعل بها، أعطيتها للحاج صالح، لفها في بعض القماش ودفنها في الآريا في صباح اليوم التالي في غفلة من أعين الحرس، رأيت أسلاكاً كهربائية تغوص في أقدام سجناء وتُنتَزع من باطن تلك الأقدام آخذة معها شيئاً من لحم القدم، مخلفة وراءها دفقات كبيرة من الدم لا تتوقف.

رأيت أناساً ماتوا تحت التعذيب أمام ناظري، كيف يمكن أن أصف خروج الروح من جسد المعذب ؟ هل يكون الخروج خلاصاً ؟ هل يكون الموت في هذه الحالة أمنية ؟ لقد كان كذلك حقاً، لكن أمنية الموت كانت تجري على ألسنتنا ألف مرة دون أن تتحقق، كان الدخول في الغيبوبة أول الخطوات إلى الخلاص؛ أول الدرب إلى النجاة، كثيرون لم يصحوا من غيبوبتهم، كانت أرحم من أن تعيدهم ببعض رشقات الماء إلى الحياة ليواجهوا الموت في كل جلدة».

استشهاد تحت وطأة التعذيب!

استشهد في الفترة التي قال عنها صاحب المقال المذكور، فترة كانت تسير بشكل طبيعي وفي هدوء تام دون أي عنف أو اضطرابات، لكنه لم يقل الحقيقة وما قاله كان شيئاً من نسج الخيال!؟. فقد استشهد طالبان تحت التعذيب فَي يوليو 1982م، هما: ناجي بوحوية خليف وأحمد إسماعيل مخلوف، اللذان سبق اعتقالهما على خلفية أحداث الطلبة بين عامي 1975م و1976م، وتم فصلهما من الجامعة «كلية الحقوق – بنغازي» بعد الإفراج عنهما، وأعيد اعتقالهما للمرَّة الثانية بعد حملة الاعتقالات التي طالت بعض الطلبة والطالبات في جامعة بنغازي على خلفية مناشير وزعت في الجامعة وكتابة بعض العبارات المنددة بالقذّافي ونظامه على جدران الجامعة. كان أحمد مصباح الورفلي عضو اللجان الثورية، هو مَنْ يترأس فريقاً أو جماعة التعذيب في معسكر «7 أبريل»، المعسكر الذي فارق فيه ناجي الحياة تحت سياط التعذيب في أغسطس 1982م. تمَّ الاعتقال الثاني لناجي بوحوية خليف في يوليو 1982م، وأن المجموعة الّتي اعتقلت مع ناجي نقلت أولاً إِلى معسكر 7 أبريل ومن بعده الحصان الأسود والجديده بطرابلس. هذا، وقد انتقل إِلى رحمة الله مع ناجي – وتحت سياط التعذيب – الشهيد أحمد مخلوف.

وروى فتحي البرقاوي، صديق ناجي بوحوية خليف ورفيقه، وأحد الذين سجنوا معه، ما حدث لناجي في السجن، فقال: “طلب عبدالله السنوسي رجل المخابرات والمقرب جدَّاً من معمّر القذّافي، من ناجي بوحوية في اعتقاله الثاني وقتما كان ناجـي محتجزاً بـ«معسكر السّابع مِن أبريل»، أن يعترف على نفسه بالقول إنه منتمٍ إلى اليسار الليبي ومنضم إِلى حزب سياسي يعمل للإطاحة بالنظام الحاكــم، وهذا لم يكن قائماً ولا تربطه بالحقيقة أي صلة، وما كان له إلاّ أن رفض طلب السنوسي رفضاً قاطعاً وأبى التوقيع على أيِّ ورقـة تفيد بذلك، حتى استشهد تحت سياط التعذيب، وقد رأيته بأم عيني مرمياً على كوز رملة غائباً عن الوعي من شدة التعذيب وآثار الضّرب على جسمه ولون قدميه مثل «الرئة» من الضّرب المبرّح والتعذيب الوحشي”.

وبالإضافة إِلى الطالبين المذكورين، هناك قامتان وطنيتان شامختان قضيا نحبهما تحت سياط التعذيب ووحشية الضرب المبرح في الفترة التي أشار لها صاحب المقال المذكور وقال لم يقع فيها أي اضطرابات من أي نوع، وهما: عامر الدغيّس ومحمّد حمّي. اُعتقل عامر الطاهر الدغيّس المحامي والمُناضل الوطني والرجل القومي العروبي وأحد مؤسسي «حزب البعث العربي الاشتراكي» في ليبيا، عدة مرات في عهد معمّر القذّافي، واحدة من تلك المرات كانت في شهر ديسمبر من العام 1979م، وتمَّ اتهامه بمعاداة سلطة الشعب والتآمر على قائد الثورة والعلاقة بإحدى الدول العربية التي تخطط لقلب نظام الحكم في البلاد، والمرة الأخرى كانت في 24 فبراير 1980م، وبعد ثلاثة أيام فقط من اعتقاله هذا، تمَّ تسليم جثمانه إِلى ذويه في صندوق محكم الإغلاق، وكان ذلك يوم الأربعاء الموافق 27 فبراير 1980م. استشهد عامر الدغيّس تحت سياط التعذيب، وقيل لأهله ساعة تسليمهم جثمانه أنه مات منتحراً، وقد أشرفت أجهزة النظام الأمنية على دفنـه، ومنعت أهله من فتح الصندوق.

والثاني هو محمّد فرج حمّي المعلم ومحرر العقود والمُثقف والمُناضل والسياسي وأحد مؤسسي «حزب البعث العربي الاشتراكي» في ليبيا ومؤسسي «نادي الهلال الرياضي الثقافي الاجتماعي» في بنغازي. اُعتقل محمّد حمّي يوم 12 مارس 1980م، بعد تأبّينه لرفيقه عامر الدغيّس في المقبرة يوم دفنه، مطلقاً صرخة تحدٍ، متهماً السلطة الغاشمة بقتله وتصفيته. وفي غضون أسابيع قليلة جداً من اعتقاله، استشهد حمّي تحت التعذيب الوحشي والضرب المبرح، وصعدت روحه إلى بارئها وخالقها عز وجل، ثم نُـقل جثمانه من طرابلس إلى بنغازي مقر سكن ذويه مصحوباً بإفادة بوفاته صادرة عن بلدية طرابلس مؤرخة في 5 أبريل 1980م ليدفن بصمت تام.

المقارنة الظالمة بين سبتمبر وفبراير!

يقول صاحب المقال المذكور ما حدث بعد السابع عشر من فبراير أدهى وأمر، وأن ما كان يتمتع به المواطن الليبي من استقرار وأمان في ظل حكم معمّر القذّافي، عجزت فبراير على توفيرهما له، وقال بالنص: «حصلت عشرات الإعدامات في الميادين بعد فبراير، وتصفية لعدد كبير من المتهمين في السجون، وحالات من قتل حتى قبل التحقيق، ولكن لم يتطرق أحد من المغردين بمناسبة ذكرى السابع من أبريل، عن الجرائم والإعدامات التي حدثت في ظل حكم فبراير، والتي مازالت مستمرة إلى اليوم.. وعن مَنْ ثبت القبض عليهم أحياء ووجدوا جثثاً بعدها..».

مَنْ يقول هذا الكلام يتجاهل العوامل التي أدَّت إِلى الثورة. فقد كانت البلاد في ظل حكم معمّر القذّافي الذي دام 42 عاماً، تعاني من تهتك في البنية التحتية، ضعف شديد في الخدمات وانعدامها في بعض الحالات، غياب الحريات وقمع المعارضين ومحقهم، تردي الأوضاع المعيشية وتدني المرتبات في بلد غني يزخر بالثروات تحت الأرض وفوقها، كل هذه العوامل دفعت الليبيين للثورة وإسقاط الدكتاتور. ويتجاهل حقيقة أن القمع الذي كان يحدث في عهد معمّر القذّافي كان ممنهجاً من قبل سلطة كانت مسيطرة وتحكم فعلياً، إنّما التجاوزات والجرائم التي تحدث اليوم ما هي إلاّ نتاج الانقسام السياسي والانفلات الأمني وفوضى السلاح، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لسقوط دكتاتور حكم البلاد بالحديد والنار، ولم يترك خلفه لا مؤسسات ولا قانوناً ولا مجتمعا مدنياَ. وينسى العامل الخارجي الذي صار شريكاً أو جزءاً أساساً في المعادلة، أو كما قال المحلل والكاتب الليبي، عبدالله الكبير: «يجب ألا ننسى أن مواجهة القذّافي للشعب الثائر، ومحاولته قمعه، هو ما أدَّى لعسكرة الثورة، ودفع أيضاً للاستعانة بالتدخل العسكري الخارجي، والذي كان له دور بارز في نجاح الثورة، لكنه تحول أيضاً لشريك رئيسي بقطف ثمارها، وتدريجياً زادت حدة التدخلات الخارجية بشؤون البلاد..».

كما ينسى أو يتناسى، أن كل الثورات في العالم عبر التاريخ احتاجت لفترة زمنية، قد تطول أو تقصر، لتحقيق أهداف الثورة والتخلص من تركة الماضي الثقيلة ومن الأوضاع التي ثارت من أجلها.

لا شك أن القتل وسائر الانتهاكات الأخرى في عهد العقيد معمّر القذّافي كانت ممنهجة وبإرادة سلطة حاكمة، وما يحدث اليوم من انتهاكات وجرائم يحاسب عليها مرتكبوها ولا علاقة لثورة فبراير بها، فالثورة منها براء. فقد هدفت ثورة السابع عشر من فبراير إِلى إسقاط الدّكتاتور وإنهاء نظام حكمه، وأتمت مهمتها بنجاح تام، وتركت تحقيق الطموحات والآمال والتطلعات على عاتق كافـة النَّاس. ونجحت الثورة نجاحاً باهراً في تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط الطاغية الذي كان متمسكاً بعودة المجتمع الليبي إِلى العصر الحجري، وسلمت الراية أو الأمر إِلى كافة النَّاس ليواجهوا الثورة المضادة ومخلفات ثقافة همجية كان عنوانها الإقصاء والرقص على جثث أصحاب الرَّأي والعلم والمعرفة، وشعارها: «سير وﻻ تهتم يا قائد وصفيهم بالدم».

ومَنْ يحاول اليوم تحميل ثورة فبراير، وزر الفشل والتدهور والانقسام والانفلات الأمني الذي يُهدد وحدة البلاد واستقراره، ووزر ما هو جارٍ من تدخلات خارجية والمرتزقة الذين يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها، يخلط الأمور، ويتجاهل الثورة المضادة، ويتغاضى عن التآمر الخارِجِي، ويتغافل عن إرث ثقيل تركه نظام متخلف حكم البلاد بفوضوية لم ير العالم مثيلاً لها عبر العصور.

وخاتمة الختام فإنَّ كثيرين اليوم من عناصر النظام السابق واللجان الثورية في مقدمتهم، بدأوا يظهرون مجدداً في المشهد، وعادوا إِلى مناصبهم، وكشروا على أنيابهم معتقدين أن ثورة فبراير أصابها الوهن والأمر عاد إليهم من جديد، ليكشفوا عما في صدورهم من غل وكراهية وحقد على الثورة التي تسامحت معهم وعفت عنهم، محاولين النيل من ثورة فبراير وكل مَنْ عارض القذّافي ووقف ضدَّ ظلمه وعجرفته، بافتراءاتهم وأكاذيبهم وتزويرهم للوقائع والأحداث، ونسوا أن التجارب تخبرنا أن مَنْ قاموا بمثل أعمالهم عبر التاريخ خابوا وخسروا، وكانت عاقبة أمرهم أن نزلوا من أسفلَ إلى دركٍ أسفل، وارتفع أصحاب القيم والمثل والذين وقفوا في وجه الظلم والاستبداد من شاهقٍ إلى شاهق أعلى، والله سبحانه يتولى الصالحين ومَنْ قال كلمة حق في وجه سلطان جائر.

وهذا ما لزم، وإِنّ غداً لناظرهِ قرِيبُ.

فجر الجمعة الموافق 26 أبريل 2024م

مقالات ذات علاقة

قباعيات 10

حسن أبوقباعة المجبري

أسئلة في العملية التعليمية

يوسف الشريف

الصادق النيهوم… بين محاكم التفتيش ودواوين المحنة…

علي عبدالله

اترك تعليق