لم يعد يذكره أحد، سوى أمه، ذلك الذي سمَّاه بعضهم شهيداً، وآخرون اعتبروه خائناً!
تذهب أمه لتواسي جارتها التي فقدت ابنها هي الأخرى في نفس الحرب، وفي نفس المعركة، وهو أيضاً في شهادته قولان! الغريب في الأمر أن القتيلين كانا يتقاتلان، فقد كان أحدهما في محور، والآخر في المحور المقابل له!
قبل اندلاع الحرب كانا صديقين، لا يفرق بينهما سوى النوم، وأثناء الحرب صارا عدوين لا يفصل بينهما سوى خط التماس، وبضع شعاراتٍ تُشبه الحق!
لا ندري؛ ربما قُتل أحدهما برصاص الآخر، ولا ندري كيف ستكون علاقتهما لو قُدر لهما العيش إلى ما بعد الحرب! لكننا نعرف أن كلاهما تبنَّى قضية ليست على مقاسه، بل هي مفصلة على مقاس صناع الحرب، وعبَّاد الكراسي! ونعرف أيضاً أن أميهما لا تزالان تلتقيان كل يوم، تذكران مآثر ابنيهما وطرفهما، تبكيان، وأحياناً تضحكان لتُخفيا غصة في القلب، ولتخففا من ألم الفراق، لكنهما لا تتحدثان عن أسباب الحرب وملابساتها وظروفها!
بعد مرور بضع سنوات على الحرب كادت الجارتان أن تسلوا لولا رؤيتهما للخصمين السياسيين، والعدوين اللدودين، الذين أشعلا فتيل الحرب يتعانقان بحرارة، ويضحكان ملء شدقيهما، ويحتسيان قهوتهما معاً!
ارتشفت والدتا القتيلين الشاي في حركة واحدة، ومتوافقة، وعيناهما معلقتان على التلفاز، وعلى مشهد الصديقين اللدودين وهما يبتسمان، ويحتسيان قهوتهما التي صُنعت من دماء ابنيهما!