من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي
قصة

الحضرة

 

كانت الحلقة تدور بسرعة، وأهازيجها ترتفع في كبد السماء.

تلك الليلة، كنت سترى أنك في وسط عالم غريب عليك بصحبة الأغاني والألحان والرقص، كانت مجموعة الأطفال تلعبُ وشأنها وتمضي الوقت في الوبيس، عليك أن تعرف أن السماء كانت ساكنة يتلاعب القمر وحدها في ساحتها الواسعة وسط نجوم بعيدة كبعد تمار النخيل بقدر عشرين قدماً بالنسبة لنملة عاملة، عليك أن تدرك أيضاً أنّ السكون الذي في السماء سمح لبعض الكائنات أن تتنقل فيها بحرية، كان الأطفال يمارسون اللعب عندما حطت الطيرة أعلى شجرة نخيل قريبة من المقبرة، كانت تبكي ليلاً باحثة عن طفلها الذي فقدته بسبب تهورها فتأخذ كل ليلة طفلاً بديلاً عنه من أحدهم، ستكذب مقالة أنها امرأة لُعنت بسبب مسحها لبراز طفلها بالخبز، ولكن تلك الحقيقة التي لا جدال فيها التي ستسمعها في كل حين، ولن تسأل نفسك: ألم يكن عندها ماء؟

أضواء النيون المتدللة على زقاق البيوت المتقاربة، سرب طويل منها، أضواء حمراء وخضراء وصفراء تتراقص فيما بينها تشير دائماً إلى أنّ عُرساً ما مقام وخيمة حمراء، رائحة التربة المبلولة للتو ووليمة شعبية تغني النساء على نارها ما تبقى لهنّ من فرح، يمكنك أن تشتم ذلك الجنون الذي يصنعه التفاعل بين البصل والآدام واللحم، وأن ترى من خلال الثقوب بالخيمة الأذرعة السميكة التي تحيط بالطناجر والمغارف العملاقة لافة على رأسها المحارم المزركشة وكأنها تخوض حرباً، كنتَ سترى أنك في ظل ذلك ستسمعهنّ وكأنهنّ يبيكن لا يغنين فرحات، اللحن الحزين والكلمات السعيدة كانت ستؤدي بك إلى التهلكة إن لم تعتد عليها منذ نعومة أظافرك.

هناك، قريباً من الجبانة كانت حشود من الرجال تلتئم لبدء الأهازيج ومباركة العُرس، صوت دق للطبول يبدأ ببطء في محاولة لقتل الزمن، ومجموعة من الجالسين تدندن بكلمات غير مفهومة ببطء شديد، حشد كبير يحيط بحلقة المؤديين للطقوس، بعض الأطفال لكي ينالوا رؤية جيدة للمشهد ينبثقون من تحت السيقان العالية أو فوق شجرة، كان أولئك الذين يلعبون الوبيس قد سمعوا بالأمر فارتجلوا يسرعون للانضمام إلى العرض المخيف كما وُصف لهم، بدأ بعض من المؤديين الدراويش في تأدية رقصات بطيئة، الزمن لم يتوقف، لكن أمراً ما أصابه، ربما قد لعق خده اللحن الضخم الذي يؤدونه، كان الإيقاع يزداد سرعة مع كل دقيقة تمضي ولكن بسرعة خفيفة لا تلقي بالا لمرور الدقائق حتى حلت لحظة صمت وانطلق صراخ من وسط الحلقة لا يعلم من مطلقه، صراخ كان شبيهاً بآذان للقيامة، تجمد الراقصون الأربعة في الداخل الذين كانوا يهزون رؤوسهم ببطء يميناً لأعلى ويساراً لأسفل وأذرعهم كأنها مخلوعة من أطرافها يتقدمون خطوة ويتأخرون أخرى، انطلق الصراخ بكلمة سمعها جميع الأحياء لأنها كانت تعنيهم، فرّت الطيرة الباكية إلى مكان بعيد باحثة عن طفل شريد آخر وتوقفت النساء عن الغناء وخرجن الفتيات المقبلات على سن الزواج ليشاهدن المهرجان، وصلت الصرخة إلى القمر حتى ارتاب أعادها كل زقاق بنغمته ونغمتها الأحياء داخله الخاص:

–       حيْ!

وهناك انطلق عالم آخر، يُقال أنّ كائنات من ذلك العالم تنزل بسرعة البرق تركب أحصنتها التي تجر عالمها للأرض، تبدأ التربة تحت أقدامك بالحركة، والطبول التي كانت تدق ببطء تبدأ بالإسراع في الضرب وبصوت عالٍ، الحناجر لا تلهج إلا بكلمتين في تكرار متسارع ” الله حي.. الله حي”، والراقصون يبدأون في الدوران والقفز والهز برؤوسهم داخل الحلقة حتى يصاب الأطفال المشاهدون بالدوار بينما يغالب الرجال ذلك بالحديث مع بعضهم والتدخين وبعضهم بأن يلهج خلسةً مع الحلقة الراقصة، يصيح رجل لا يعرف من كان، ليس من داخل الحلقة :

–       حضروا الاسياد!

يبحث الأطفال عن صاحب الكلمات، ربما ليسألوه عن الأسياد الحاضرين، كيف هم وأينهم؟ بل، ولماذا يعلم الجميع بأنهم قد حضروا؟، ضحكة خفيفة وخبيثة خلف نخلة ما قريبة جداً من مكان الحدث تظن أنك تسمعها أو ربما كانت حقيقية، ويقول أحد الشباب محاولاً إخافة الأطفال :

–       هذا واحد منهم يرحب بيهم.

–       من هما؟

–       الجن!

ويرتعد الأطفال، بعضهم يجري مسرعاً ناحية النساء محاولاً أن يخفي رأسه داخل فستان أمه،  آخرون يغالبون خوفهم، آخرون لا يعرفون ما يقصد، ربما كان يقصد مسئولين من الحكومة وما الذي يهم؟ ما دام الرقص قائماً، كان أحد الراقصين قد ازدادت سرعة رقصه حتى سقط على الأرض محدثاً صوتاً كالقذيفة، قال أحدهم:

–       ناض عليه العون!

بقي على الأرض بضعة ثوانٍ، كان أحدهم يسرع لاحضار ماء عندما حذره أحد القائمين على حلقة الرقص من الاقتراب من الرجل، منعه، قام بالقذف بالماء عالياً ليصل للرجل الذي على الأرض ليبتل جميعه، يستيقظ لا بفعل الماء، كانت سحنته توحي بأنه كائن جديد، نظرته الثاقبة التي يصوبها نحو الجميع لم تكن له، كان يلقي بكلمات من عالم آخر لم يفهمها أحد، تحرك ناحية طاولة مليئة بالسكاكين، أمسك سكيناً، ارتعد الجميع، أخذ معظم الرجال خطوتين للخلف، كان بعضهم مستعداً للهرب والبعض الآخر للانقضاض عليه، أما الأطفال لم يتبق منهم إلا المتهورين، أمسك بالسكين، لم يمكن لأحد أن يصف حالته وهو يمسك به، الشعور الذي ينتابه، لأنه وكما قيل هو لا يشعر بشيء، فقد استولى أحد الأسياد على حواسه وهو الآن لا يصنع إلا ما يؤمره به السيد، أمسك السكين بقوة، رفعه عالياً، أمال رأسه عالياً بحيث تلمس مؤخرة رأسه ظهره الساخن، وأدخل السكين داخل فمه، أنفاس الدهشة تحررت من صدور العديدين، أخرج السكين، أعاده مرة أخرى. سقط راقص آخر، وصرخ أحدهم مرة أخرى:

–       حيْ!

أما الآخر عندما استيقظ، أشعل النار في مشعل وبدأ في بلع النار، كان مشهداً غرائبياً، لك أن تتخيل كمية الخيال الذي من الممكن لكاتب من عالم مختلف أن يصوغه في وصف المشهد الذي يلمتع أمام عينيك حقيقةً وبرهاناً على مقدار القوة التي يتمتع به الجسد الانساني، تزداد الحلقة هياجاً وهرجاً، ويزداد الخوف من الراقصين الذين لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم، وضحكة خبيثة من شجرة نخيل قريبة يصيح صاحبها :

–       حيْ… الله حيْ!

مقالات ذات علاقة

الأم المغدورة

يوسف الغزال

ثلاث تفاحات

أحمد يوسف عقيلة

مكابدات يومية

الجيلاني طريبشان

اترك تعليق