المقالة

البصر والبصيرة

المسرح
المسرح

في رحلته الطويلة، الشاقة والممتعة، المنيرة والمظلمة، الدامية والحالمة، ظل المسرح مخلصا للبصيرة، لتلك الشعلة التي تتوهج بآخر النفق، تلك التي تبشر بانقشاع الظلام وسيادة الأنوار. فرغم كل الأضواء والمشاعل التي حملها صناع المسرح فإن بصيرة الأعمى “تريزياس” ظلت النور المضمر الذي يقود حملة تلك المشاعل وأضوائها في سفر الخروج من ظلام القبو الإنساني.

المدينة ظلت تلجأ لبصيرة تريزياس الأعمى ورؤاه التي يبطن، رغم فقدان بصر عينيه، لينير طريقها للخروج من نفق الطاعون والموت والظلام. كانت البصيرة أنوار الإنسانية، كان على “أوديب” الغارق في الوحل أن يفقد بصر عينيه الزائف ليرى، عبر بصيرته الكامنة، أنوار الحقيقة والانعتاق.

أنوار المسرح ومشاعله ومصابيحه المبهرة ظلت عاجزة في غياب تلك البصيرة المضمرة عن تلمس واكتشاف الطريق خارج الوحل والظلام، ظل كل أسرى الجسد والخشبة والديكور والأضواء في أغلالهم يتخبطون قفزا ورقصا، تشنجا واسترخاءً، صراخا وصمتا، انهمارا وتسمرا، دون بلوغ لحظة التنوير والمسير الواثق نحو الفضاء المفتوح، نحو إنسان طليق، ذاك الذي “شمسه فيه” كما يقول الشلطامي.

البصيرة هي تلك الشمس الكامنة في العمل المسرحي، تلك التي ضمرها النص المسرحي، لتنير أضواء المسرح وممثليه وتقودهم. إنها الشرارة التي تشعل لتنير كل المسرح، في غيابها كما في غياب الشمس عن أرضنا وخشبة مسرحنا وإن أشعلنا كل مصابيح الكهرباء وسلطناها على الممثلين والخشبة.

النص المسرحي كان البصيرة التي شكلت المسرح منذ بداياته وظلت تقوده. كان كاتب النص المسرحي لبنة المسرح التي انبنى عليها كل العمل المسرحي. فكان الممثلون وحملة مشاعل الإضاءة البصيرة التي سبقت البصر المسرحي وأسسته.

إذن، قاد النص “البصيرة” المسرح لقرون ليشاركه بعد ذلك المخرج كمنسق لعناصر العرض المسرحي من أجل تحقيق رؤى البصيرة، ولكن ومع تطور أدوات العرض المسرحي هيمن المخرج على العمل المسرحي، وبالتحديد هيمن البصر على البصيرة. لم تحدث تلك الهيمنة سريعا وإنما أخذت زمنا طويلا. فقد تطور المخرج في البداية وصار مفسرا وشريكا في العرض المسرحي قبل أن يتحول إلى مالك للعرض وسيد له. سيطرت رؤى المخرج وتراجعت رؤى المؤلف والنص.

بعد منتصف القرن العشرين الثاني سيطر المخرج تماما على العرض المسرحي وتحول العمل المسرحي إلى عرض بصري فقط لا غير. سيطر البصر على البصيرة حتى اختفى النص تماما من غالبية الأعمال وتحولت إلى عروض بصرية فقط، تحاول تلمس الطريق عبر البصر للخروج من أوحال النفق الإنساني المظلم.

غابت بصيرة تريزياس عن مدينة أوديب المصابة باللعنة والطاعون.

في المسرح العربي وفي عقدي القرن الواحد والعشرين هذه نرى انتصار البصر على البصيرة. نشاهد أعمالا بلا بصيرة، يتخبط أبطالها.. تغشى أبصارهم أنوار الفرجة وتغيب البصيرة ويتلاشى الأمل.

عودة النص بشخصياته وحواره، بصراعه، بتطور أحداثه ونمو شخصياته، بلحظات التنوير الفارقة التي تولد من النور الداخلي، من البصيرة بدل هذا الإبهار الخادع والمربك، هي عودة لبصيرة المسرح.. تلك البصيرة التي تعيد المسرح لذاته بعد رحلة طويلة من التوهان والضياع في شوارع الإضاءة المغشية للبصيرة.

هذه ملاحظات هامشية وصغيرة على المسرح في يومه العالمي، أرى أننا بحاجة لها علنا نعيد المسرح.. نعيد البصيرة لتكون هي البصر الحقيقي، الذي ينبع أو يشع من داخل الفعل المسرحي، ليكون المسرح حوارا اجتماعيا تتجلى عبره “البصيرة” ولا يظللها خداع البصر والحواس.

مقالات ذات علاقة

المحتوى الليبي على الإنترنت

المشرف العام

«الإبادة الجماعية» في ليبيا الحديثة.. التاريخ المخفي للاستعمار

المشرف العام

العشوائية في صناعة الرأي العام

آمنة القلفاط

اترك تعليق