تتغير القضايا السياسية صعوداً وهبوطاً وفق متطلبات المصالح المعلنة أحياناً، والغير المعلنة في كثير من الأحيان. وبنفس درجة حرارة الصعود والهبوط تكون المناقشات السياسية وما يتعلق بالمستجدات والمنعرجات الهامة بين النخب المهتمة بالشأن العام، يحركها ما يطرأ على الساحة السياسية محلياً ودولياً. اعتادت النخب على النقاش والتشاور بشأن مختلف القضايا وفق أسس معتمدة على قواعد ومنهجية علمية وكذلك على حنكة جاءت من خبرة وممارسة طويلة، بهدف تقليل الخسائر والوصول لأفضل المطالب، كما يحدث بين الأحزاب المتنافسة على السلطة وحكومات الظل. ربما دخل الخائضون في بحرها متغير الأهواء في معارك شد وجذب واقناع وتأثير تأخذ مداها الزمني بالضرورة، كما أنها تستجد وفقاً لما يطرأ على الساحة من متغيرات وما يعقد من اتفاقيات.
القضايا السياسية التي تهم بلداً، أو عدة بلدان تربطهم مصالح مشتركة، كانت حتى ماضي قريب، مادة خصبة للنقاش بين مختلف الأوساط الإجتماعية والمستويات العلمية المتفاوتة من أحزاب سياسية ونقابات ومراكز بحثية مختلفة. بحيث تتدرج وفق الممارسات السياسية ونوعية المشاركة متمثلة في كم المعلومة المتاحة عبر الوسائط الإعلامية المختلفة بمعايير حرفية وتخصصية في أغلب الأحيان، بغض النظر عن كونها تتبع نظام سياسي ذا توجه معين، فهي في كل الأحوال تتبع خطوط تلك السياسة.
مع الإنفتاح الواسع للإعلام بكل إيجابياته، وجد الجميع فضاء التواصل الهائل مرحباً بكل مشارك. فأصبح حق المشاركة مكفول للجميع بأييسر الطرق وأسرعها. الجميع دون استثناء أصبح جزءاً فاعلاً في صناعة الرأي العام. تغيرت الصورة النمطية العامة، من تبنى الأراء السياسية وفق محصلة عامة تعتمد على قواعد منهجية مدروسة، إلى مشاركات عشوائية وغير عشوائية تعتمد في مجملها على العواطف والمقاييس الفردية، مع سهولة المشاركة، وبمتطلبات تعتمد على القبول الاجتماعي وجاذبية العرض والموهبة في إيصال الفكرة، بحيث يمكن للمشارك أن يصبح محلل سياسي يحظى بألاف المتابعين والمهتمين. في هذا الخضم برزت أيضاً ما يطلق عليها الجيوش الالكترونية والذي تشرف عليها المؤسسات ذات الصلة لتسويق افكارها بطريقة غير مباشرة بحيث تظهر وكأنها تعبير عن القاعدة بينما هي في الواقع مبرمجة في اتجاه أطراف معينة. وكا ما سبق ساهم في رسم النظرة العامة إتجاه القضايا المحورية ، وفق نمطية ساهمت في تشتت الرأي العام.
أمام هذه الموجة، تراجع بعض ممن يتمتعون برصيد علمي ومؤهلات تمكنهم من التحليل والإستنباط ورصد النتائج وصناعة المقاربات. ربما لأن الساحة اختلفت كما وكيفاً، ربما لأن الأسلوب الإحترافي له أدواته، والذي يمثل عامل الوقت ونضج المعلومة عاملين مهمين له. قد يفتقر المحلل الخبيرأو المثقف أيضا إلى الأسلوب البسيط الذي يصل به إلى قلوب المتابعين المنتظرين جديد اليوم والساعة. كما أن المثقف يحتاج بيئة خاصة يبدع من خلالها تتمثل في دورة الأفكار مع غيره من المثقفين. المثقف يعتمد في طرحه على نضج فكرته ليعرضها ثم يتتبع نتيجة ميلادها وقبول الناس لها وتفاعلهم معها. للمثقف أوقاته الخاصة لعمله وعائلته ومشاكله الحياتية، والأفكار العظيمة تحتاج وقتها ووقود استمرارها وبيئتها الصالحة لتثمر في أذهان الناس.
كثير من القضايا الدولية الهامة لعب فيها رأي الشارع دور محوري غير مجرياتها دون أن يعتمد هذا التغيير على آليات علمية تأخذ المصلحة العامة في اعتبارها. خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي مثلاً، أثرت به وسائط التواصل بشكل كبيروفق رغبة الشريحة الأكبر عدداً والأقل إطلاعاً وثقافة والتي تمثل شريحة ذوي الدخل المحدود، أملاً منهم في تحسين مستوى خدمات الحكومة بالدرجة الأولى. إختيار الرئيس الأمريكي ترامب، جاء ايضاً نتيجة استثارة الشريحة الأكثر عدداً من ذوي الدخل المحدود أملاً منهم في الحصول على فرص عمل وزيادة إنفاق الدولة على القطاعات العامة. اعتمدت النسبة الأكبر على تغريدات ترامب النارية، البعيدة عن المنطق المتعارف عليه في التدابير السياسية، ليحصد فوزه رغم إنعدام خبرته السياسية. لعبت وسائط التواصل الإجتماعي دور كبير في ثورات الربيع العربي وصناعة رأي عام طامح للتغيير دون استيعاب وافي لمراحله أودراية كافية بمستلزماته.
من الصعب أن يرتقي البسطاء لمستوى فهم المسائل السياسية المعقدة وبالتالي ممارستها بحرفية، والتماهي معها وفق هدف عام واضح. إذاً ليس من بديل في أن تنزل السياسة لمستوى القاعدة العامة. والإناء ينضح بما فيه. وعلى قدر أولو العزم تؤتى العزائم. سيجد الممارس للسياسة في دولنا صعوبة في التعاطي مع تباين شديد في وجهات النظر تزيد وتيرتها بإستخذام شبكات اعلامية سهلة، متاحة دون كلفة ولا عناء. وسيجد نفسه ملزماً بالتعاطي مع الساسة الجدد الذين صعدوا من خلال البسطاء وتبنوا خيارات متعددة يصعب معها أن لم يستحيل التوافق.
وهكذا وجدت القاعدة العريضة نفسها وجهاً لوجهة مع حقائق صادمة، فالشعوب عرفت حقها في الممارسة السياسية وتبادل المعلومة وتمارسه، لكنه يفتقر للخبرة ولا يصب في مصب الصالح العام. ساهمت الشعوب في تدمير ما لديها من معطيات بسيطة، كان من الممكن البداية بها. لتدخل في دوامة البحث عن ماذا تريد وكيف؟
نقطة البداية الحقيقية هي تقوية النسيج المجتمعي، بآلياته وادواته الموجودة،وهو واجب الجميع إن أردنا وطناً. آمل أن لا يأخذ ذلك وقتاً طويلاً خاصة مع بروز متغيرات ربما لن تكون مجتمعاتنا بعدها كما هي قبلها. وفي تسارع نكاد نلمسه في تقلب ومراجعة الكثير مما كان يظن انه راسخ كالجبال ،خاصة مع تواصل الكثيرون من اصحاب الراي مع المتلقي مباشرة والذين كانوا حتى أمد قريب تحجبهم عنه الأجهزة الرقابية الرسمية المتعددة.