المقالة

محاولة للتفكير في مسألة الهوية

من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)
من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)

(إن الحديث عن الهوية، حديث شائك وإشكالي، ويدخل ضمن سياق رهان استراتيجي،
لذلك من الصعب حصرها في تعريف واحد ونهائي) محمد نور الدين آفاية (المتخيل والمتواصل)

(ما من مفهوم مربك ومضن مثل مفهوم الهوية)
فالح عبد الجبار (أن تکون بهویة أو لا تکون)

على هذا النحو عَبَّر عدد من مثقفي العرب عن انزعاجهم من عدم تحديد مفهوم الهوية، وعلى الاعتراف بأن هذا المفهوم (الهوية) – الذى ابتكره أرسطو في منطقه الشكلي وسماه (الماهية)، والذى ارتبط فيما بعد بهوية الكائن الإنساني ذكرًا أو أنثى، طفلا أو رجلاً، أبيض أو أسود، غنيًا أو فقيرًا، عربيًا أو أعجميًا، مسلمًا أو غير مسلم، إلى آخر التقابلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية – شمل كل العلاقات للإنسان مع ما حوله، وهذا ما يجد حضوره عند الفيلسوف الألماني (مارتن هدجر) الذى يعتبر (أن مبدأ الهوية، يعبر عن كينونة الكائن) وهى الكينونة التي تتحقق بمجرد نشوء رابط مهما كان بسيطا بين ذات وأخرى، أو مع أي كائن كان، ومجرد تحقق هذا الاتصال كما يرى (هدجر) أننا نجد (أنفسنا رهن نداء الهوية) وبدون هذا النداء -أي التواصل مع الآخر- لا يمكن للكائن أن يحقق كينونته.

وبقدر ما يتحلى به تفسير (هدجر) للهوية من منظور فلسفي من مصداقية، فإن هناك وجهًا آخر لمفهوم الهوية التي ينظر إليها من ناحية تاريخية باعتبارها من مشمولات وعى الإنسان، والهوية بقدر ما هي مفهوم فلسفي مجرد، فإن تجليها وتعينها لا يحدث إلا ضمن الرؤية الأيدولوجية التي رسم بها الإنسان ملامح علاقاته المختلفة وهى العلاقات التي حددت لكل جماعة من الناس ملامح هويتها التي تؤسس فكرها وفقا لها.. (فكر، دين، فن، علاقات.. إلخ) وهى علاقات ليست ثابتة أو أزلية، لكنها متغيرة بحسب ظروف الزمان والمكان الذى يعيشه الفرد أو الجماعة، في علاقتهم مع الآخر، الذى لا تظهر الهوية إلا في مواجهته.

كما أشار (هدجر) أن تحقق كينونة الذات – الأنا – الفردية أو الجماعية لا تتضح معالمها إلا في وجود مقابل مغاير لها، فالآخر يجسد باختلافه عنا صورتنا أيّا كانت طبيعة علاقته بنا وأيّا كان مستوى تعقيد أو بساطة هذه العلاقة.

يقودنا هذا إلى القول بأن هوية الإنسان تتغير بتغير الظروف والأحداث، ولذا فإننا نلاحظ عند الحديث عن الهوية إن كل تقدم صورة انتقائية للعناصر الثقافية والروحية والسياسية، التي تتلائم والمعتقدات والقيم التي استخلصوها من تجربتهم العملية في الحياة، وهذا ما يؤدى إلى الاختلاف والتعدد في النظر إلى مفهوم الهوية بين الأفراد والجماعات.. ومن هنا كل جماعة أو فئة تختار ما يعبر عن رؤيتها للوجود وللواقع بشكل عام ومن السلطة القائمة بمختلف تجلياتها. هذه الاختبارات ينتج عنها التباين الذى يؤدى إلى الصراع بين الأداء والتيارات كل بحسب مفهومة للهوية.

هذا التعدد بقدر ما يغنى هوية الذات والجماعة ويثرى رؤيتها، يخلق أحيانا صور وهمية عن الذات التي لا تعيش الواقع في تغيره وتطوره، الذى يجرى على مستوى الفرد والجماعة كل يوم من خلال تفاصيل العلاقات المتشابكة.

إن بعض الأوهام عن الذات ومعنى وجودها في الحياة تقدم صورًا خادعة عن هوية الجماعة، ولعل أبرز الأوهام في ثقافتنا العربية هي حصر لكل مشاكلنا مع الآخر الذى تم تعيينه في الغرب المتقدم والمتطور وفى مقابله نحن المتخلفون الذى ينبغي علينا اللحاق به باتباع نفس الخطى التي تقدم بها علينا، وكأنه ليس من طريق آخر للتقدم سوى تلك التي ابتدعها لنا الغرب.. وتتبع رؤيتنا القاصرة في علاقتنا بالآخر (الغرب) من الواقع السياسي والاجتماعي اللذان نعيشهما في ظل الإحساس بالهزيمة والدونية، وهذه النظرة تبين أن الهوية والأخر في هذا السياق هي من أوهام تصوراتنا عن أنفسنا، وعن العالم المحيط بنا.

وثمة وهم آخر يستشرى في جسد ثقافتنا وحياتنا العربية ، وهو الوهم الذى يرتبط بين الهوية والدين، وأصحاب هذه النظرة يبحثون عن عناصر الاستقرار والثبات في عناصر الهوية العربية ، وهم يغفلون عناصر التغير والتطور في الإنسان وهويته التي يصنعها تفاعله مع المحيط الذى يعيش فيه.

هذه إشارات سريعة وعابرة عن بعض أوجه الهوية وأوهامها المطروحة في ثقافتنا العربية، التي تتجاهل التعدد والتغير والإيمان بقدرة الإنسان في صنع هويته ومستقبله في ظل المشاركة في صنع مستقبله ومصيره.

الخلاصة تقودنا للاعتراف بأن الهوية ليست شيئًا مطلقًا مُنَزَّلا من السماء ولا يرتبط بهموم البشر ومشاكلهم وقضاياهم، بل مخاض للواقع والتاريخ يسمح بتفسيره وتأويله من خلال التعايش مع تفاصيل الحياة اليومية بمنأى عن الأوهام والتضليل.


عراجين | رقم العدد: 1، 1 يناير 2004م.

مقالات ذات علاقة

بعد وضع الشاهدة

أمين مازن

هرطقات ليبي معزول (8): في يوم الوثيقة العربية 17 أكتوبر 2018

مصطفى بديوي

دولة النائب تحية برلمانية !!؟؟

الحبيب الأمين

اترك تعليق