هيفاء نورالدين
حاولت أن تنام في تلك الليلة. كان الوقت قد تأخر، لكنها لا تزال تسمع صوته في الهاتف يطلب منها أن تحضر. أعدت فنجان قهوة وجلست تحدق في الرصيف الذي بلله رذاذ المطر. الشارع بدا معتمًا إلا من أضواء السيارات المارة. صوت الرياح أخافها.
في الطرف الآخر، كان هو ممددًا فوق سريره في المشفى. حاصرته رائحة الأدوية والجدران الباردة التي كانت تقتله قبل الأوان. أحاطوا به من كل جانب، يثرثرون بأصواتهم وكأنهم يستعجلون موته. كان عاجزًا عن الحركة، أراد أن يبكي أو يصرخ، لكنه تذكر أن “الرجال لا يبكون”، بل يتألمون في صمت. أغمض عينيه؛ هذا كل ما استطاع أن يفعله.
وقفت تتأمل السلالم وصعدتها بروية. أمام حجرة ابنها، كان الباب غير موصد. فتحته بابتسامة، فوجدته جالسًا فوق طاولته يتصفح بعض الملفات المتراكمة. جلست تداعب شعره كطفل صغير، ثم أمسكت يده. كانت الأفكار تتدافع في رأسها، ولم تملك الجرأة لتخبره بما يختلجها، لكن الكلمات خرجت منها دون توقف. أسكتها بغضب.
لم تكمل، بل أكمل هو، وذكرها بتلك الليلة، بتوسلاتها، وهي راكعة ترجوه ألا يتركهما. عشرون عامًا من الألم والحزن، كيف لها أن تنسى؟ لكنها أرادت أن تودعه للمرة الأخيرة. خرجت دون كلمة، وجلست على الكرسي صامتة. انتظرته. كانت تعلم أنه لن يتركها. تنفست بقلق، حتى أمسك ذراعها واعتذر. قبل جبينها بخشوع، وخرجا معًا نحو الشارع المظلم.
توقفت الأمطار فجأة، لكن الجو كان باردًا. ارتعشت للحظة وهي تصعد السيارة. أرادت أن تسابق الوقت لتكون بجانبه، لترى وجهه ولو للحظة، وتسمع صوته. مرت سنوات دون أن تقابله. كيف يبدو اليوم؟ نظرت إلى وجه ابنها. هل يشبهه؟ أسندت رأسها إلى الخلف حتى وصلت.
من هي الأخرى التي تركها من أجلها؟ وقفت مع ابنها أمام الغرفة، حيث كان الجميع منهمكين. حدقوا بها وهي تقترب من الباب. ترددت قبل أن تدفعه.
هناك كان ممددًا على سريره، موصولًا بأجهزة التنفس. وفي الزاوية، كانت تقف امرأة أخرى. أحست بوخز في صدرها. التفتت، وكانت هي! لم تتمالك نفسها وتراجعت للخلف. لكن ابنها دفعها بلطف قائلاً:
“أنتِ من أراد المجيء.”
كانت المرأة مختلفة. تبدو أكبر سنًا وترتدي ثوبًا رماديًا. إنها صديقتها علياء، المرأة نفسها التي تركها من أجلها.
هو هناك، كان هادئًا. تقدمت بصعوبة، تحاول أن تقاوم دموعها. أمسكت ذراعه، لكنه لم يشعر بها. ظلت الأخرى تحدق بهما. علمت أنه لم يعد لها مكان بينهما. كانت مشاعرها تتخبط بين الغضب، والكره، والحب.
وضعت رأسها على ذراعه، كان باردًا. أحست بأنفاسه ضعيفة. لم يقوَ على الوداع. حدقت في وجهه. ربما مرت عشرون عامًا، لكنها تذكرت تلك الليلة بكل تفاصيلها. هل تسامحه؟
نعم.
وضعت قبلة على جبينه في وداع أخير.