مملكة الحيوان بأقلام عربية وليبية (4)
الأديب والناقد السعودي | محمد البشير
هرب كثير من الكتاب إلى عالم الغاب.. ليلقوا بأحمال في صدورهم حبراً على أوراق.. تتجسد حيوانات لتحكي ما يختلج في صدورهم .. ولم يستطيعوا بوحه.. تارة كان الهروب لجوء إلى شخوص حيوانية.. تقرب فكرة يتقبلها المتلقي بكثير من الاستحسان مقارنة بالتصريح.. كل هـذا السعي الحثيث وراء الدلالة، ووصول الرسالة بباطن يختبـئ خلـف النص.. وربمـا كان للنظر في عالم الحيـوان سوانح تبرق في عين الرائي.. فيسطرهـا شخوصاً تلعب دور البطولة.. ولها من التطابق ما لو ألقيته في عالم الإنسان للبسه ثوباً دون حاجة إلى حائك.. والناظر في التاريخ يجد أنه زاخر بتمويه الدلالة.. وأدلها كتاب الحيوان هذا السفر الزاخر بدلالات عدة.. لا سيما وأن الجاحظ معتزلي، ولا يخفى منهج المعتزلة في تقديم العقل على النقل.
يقول الدكتور سامي سويدان في كتابه (في دلالية القصص وشعرية السرد) ص: (35) في سياق كلامه عن الجاحظ وكتابه الحيوان: “التمييز بين الظاهر والباطن هو العنصر الأساسي الذي يحكم منهجية الجاحظ العامة في التعامل مع النصوص أياً كانت.. بناء عليه يمكن القول إن هذا التمييز يقيم فصلاً حاداً بين التعبير والمضمون.. أو بين الدال والمدلول بشكل التحامهما ، أو العلاقة بينهما”.. ولابن المقفع وكليلة ودمنة حكاية محفورة في ذهن المتلقي.. يقول فيها:
(أول ما ينبغي لمن طلب هذا الكتاب أن يبتدئ فيه بجودة قراءته والتثبت فيه.. ولا تكون غايته منه بلوغ آخره قبل الإحكام له… فليس ينبغي أن يجاوز شيئا إلى غيره حتى يحكمه ويتثبت فيه وفي قراءته وإحكامه.. فعليه بالفهم لما يقرأ والمعرفة حتى يضع كل شئ موضعه وينسبه إلى معناه.. ولا يعرض في نفسه، أنه إذا أحكم القراءة له وعرف ظاهر القـول.. فقد فرغ مما ينبغي له أن يعرف منه.. كما أن رجلا لو أتي بجوز صحاح في قشوره لم ينتقع به حتى يكسره ويستخرج ما فيه.. فعليه أن يعلم أن يعلم أن له خبيئا وأن يلتمس علم ذلك).
ومـن خلال هذا الجوز الذي.. يجب كسره لتنتفع بما في باطنه يقول ناظم عودة في كتابــه: “نـقص الصورة تأويل بلاغـة السرد” في سياق دعوتـه لقـراءة نقدية لتكسر الجـوز: “تسعى إلى تحرير المقاصد التي يهدف العمل الأدبي إلى تكريسها في ذهن من يتوجه إلى مخاطبته.. فمن لم يستمتع بقراءة هذا الكتاب – على شتى المستويات العمرية بشتى مقاييس التلقي – فحاله كحال صاحب الصحيفة الصفراء.. فالرمزية أفق رحب يخبئ خلفه آلاف التهم التي من شأنها إلقاء صاحبها في الجحيم في غياب حرية الكلمة”.
وابن المقفع أحد المتهمين بذلك.. وفي هـذا يقول ناظم عـودة فـي المرجع السابـق ص: (14) “وقد فُسِّرت حكايات كليلة ودمنة ذات البناء الرمزي العالي، تفسيراً لا يخلو من الارتباط بالتاريخ ومن المضامين السياسية والأخلاقية التي أودعها فيها ابن المقفع”.
ولقد توجهت بالسؤال لأحد نقادنا حول الرمز وعرقلة وصوله لذهن المتلقي ، وتأثير ذلك في انتشار النص، فأجاب: أي رسالة توجهت للرمزية خشية الرقيب مصيرها الموت وعدم الوصول.. وهذا ما لا يتفق من وصول رسالة ابن المقفع وانتشار فكره..!!!
فالرمز يصل ولو بعد حين، وابن المقفع حفز قراء قصصه بسبر أغوارها والوقوف على دلالاتها في أكثر من موطن (ارجع لكليلة ودمنة أو المرجع السابق لناظم عودة).
ومـن هنـا رأيت أن أتطرق ولو لمحاً.. لقاص من هذا الموقع ــ موقع القصة العربية السعودي ــ تميزت نصوصه بالسير على هذه الجادة من خلال (17) نصاً.. كان موقع القص بشخوص حيوانية (14) منها.. أي ما يمثـل (%82) وهذه النسبة تحكي هذا الأمر.. بـل أكبر دلالة أن يحتل الحمار منها تصريحاً نصيب الأسد فقد ورد ذكره (72 ) مرة، وحمير (8) مرات، بينما أتى الأسد بصورتين الأسد و الملك.. أسـد (25 ) مرة والملك (63) والذئب رمز الجور (63)مـرة، وهكذا تتوالى الحيوانات تباعاً في قصص سعيد العريبي والتي لاقت استحساناً في الغالب.
التقليديـة:
سلك العريبي أسلوباً تقليدياً ينبي عن تأثره أو تعمده لهذا الطرق القصصي بأسلوب الحكايات في استهلاله أو في سرده مثل قوله: (قال الراوي/ في يوم من أيام الربيع/ يقال والذمة على الراوي/ قال محدثي/ بعيداً عن مضارب القوم).
التـراث:
والعريبي له نفس ديني يتجلى، من تأثره بأحداث الأمة فأهدى (المؤذن) لشهداء الأقصى وكتبها في ذكرى احتراق المسجد الأقصى.. (وكلاب بني عبس) التي نقم فيها على أبي مبارك وصب جام غضبه دعوات.. بعدم مباركة كلب بني عبس وأمثاله بقصة سطرها وفاء للرنتيسـي رحمه الله.
وربما المتابع لتعليقات العريبي يرى هذا الحس الجلـي.. ولهذا الحس الديني سبب في نزعة العريبي للتراث وتأثره بكتبه.. أكثر منـه تأثراً بتحديث النصوص.. والنزوع إلى ما جد من أساليب جديدة أو مجددة في القـص، وربما يكون لمستقبل العريبي تغيير كما سنذكر لاحقاً.
المشاركة الاجتماعية:
الحس الاجتماعي ألقى بظله على العريبي فسطر ثلاث قصص سابقة الذكر، وربما سربله الظـل ليبعـد عن السرد القصصي ومهارات القص لتسطير الواقع، وكثيرا ما أخفق القاص في هذا المنحى لتكلفه وإحساسه بمسئولية المشاركة الاجتماعية في دولاب الحياة، ووضع بصمة في الطريق ليقال من هنا مر فلان، وغالباً ما يزدري المتذوقون هذا التكلف لخلوه من مقومات الإبداع.
وللأمانة هذا النوع من القص يستهوي عامة الناس ويجد مكاناً في نفوسهم، ويحل محل الترحاب، وهذا ما لا يجده الإبداع النخبوي في نفوس العامة، ولربما وجد العريبي أسبقية بقصصه الثلاث عند عامة المتلقين أكثر من بقية قصصه.
البنـاء:
أسلوب العريبي يتميز بالسهولة المفرطة، فلا استخدام لمنمق الكلام، ولا وجود للبديع اللفظي، وهذا ما يعاب على سالك الأدب، فالاعتناء بالبناء اللغوي له مكانته في استحسان القول.. وربما حاد العريبي وأركبه هذا الطريق بحثه عن الطريق اليسير لوصول رسالته.. ونهج الحكواتي في قصصه بعيداً عن مسلك القاص الكتابي.
ويعلم كثير من المتلقين والنقاد أن الأسلوب القصصي البديع يٌقرأ ولا يسمع.. بينما الحكايات هي ما تسمع وتقرأ.. وبهذا ضمن وصول قصصه.. ولو لاقى بعض الهجوم من عدم استحسان البناء اللفظي.. والخروج بنص أدبي بديع يعتمـد على انتقـاء الصـور الحديثة.. والسبق التركيبي لحديث اللفظ والصـورة.
الفكـرة:
أفكار العريبي في بناء قصصه بديعة، فالمضمون متماسك، والفكرة تلاقي الاستحسان غالباً بعيداً عن الإبداع من عدمه.. والعريبي يجذبك للوصول لخاتمة والخروج بخلاصة تؤولها كيفما شئت.
الحجـم:
تفـاوت الحجـم القصصي في حكايات العريبي فنجد قصة غرور، (8) أسطر و كلاب بني عبس، (11) سطرا،ً والمؤذن ، (17) سطراً.. بينما حكاية الجـدي الذي لم يهادن، تفوق المائة سطر.. ولهذا العدد من السطور أثراً في العنوان.. وربما يعود طول النص لقدمه وقصره لحداثته.. فطول النص السمة السائدة في بداية التجريب، والقصر سمة سائدة للتحديث.
ولربما فاجأتنا الأيام بنص قصصي من فئة ( ق ق ج ) للعريبي كنوع من التجريب المحمود.. إذا ما التزم بأركان القصة القصيرة جدا.
الطرفـة:
لا تخلو قصص العريبي من الطرافة حتى الإغراق في القهقهة، فطرف العريبي ملقاة بعدد الجوز، وهذه الطرف أقرب ما تكون من المضحك المبكي، خاصة إذا ما ربطنا هذا بواقع الحال، كقصة الثعلب الذي ألقى يمين الولاء للحمار بعد تغلبه على الأسد في قصة رحلة صيد.. والأطرف الحمار واستياءه لعدم مواصلة دراسته، وتسبب ذلك في حالة الذل الذي يعيشه في قصة غرور.
الاستعارة:
الاستعـارة في قصص العريبي وإن احتلت مكانة قليلـة.. وأعني بالاستعارة هنا استعـارة الشخوص كجحـا ليلعب دور المقدمة.. ومظفر النواب ليلعب دور الخاتمة في حكمة حمار، واستعـارة الطبقة العاملة للعب دور البطولة في غرور.. واستعارة قصة أبي الحصين من كليلة ودمنة.. لتمثل محوراً يحرك أحداث القصة في مقالب أبي لحصين.
ولهذه الاستعارة جمال إذا ما علقت في ذهـن المتلقي، وهي وسيلة قريبة جداً لتخليد القصة.. وارتباطها بالشخوص كلما ذكروا.
المكـان:
ينقسم المكان بانقسام النوع القصصي.. فالقصص التي ارتكز دورها على بطولة الحيـوان.. اتخذت من الغابة الوادي والبحر والحظيرة والمضارب مكاناً لها.. أما القصص الاجتماعيـة فارتكـزت على تأثير المكان في قصص العريبي حيث وردت (بنغازي) في القصتين (حكاية الرجل الطيب / الابن الوحيد) و (رأس لانوف) فـي أمهات في مهب الريح وكان النصيب الأكبر لـ ( بنغازي ) حيث وردت (4) مرات خامسها في التوقيع.
الجـوز:
أما جوز العريبي فمنثور في قصصه.. التي اعتمدت بطولة الحيوان عنصراً رئيساً فيها.. فصوت الحق عند استيقاظه واصطدامه بالتكذيب.. لا يملك المكذب أياً كان إلا التواري.. وأما هذا الصوت فيبقى منادياً سمعه ووعاه من وعاه.. وتغافل عنه مـن تغافـل: (استيقظـوا.. استيقظـوا.. استيقظـوا.. أيهـا الناس قوموا مـن القبر.. أو أيها الناس موتـوا صحيحـا).
ليقفل بها الخطاب في (حكمة الحمار) وهجا العريبي الوصولي في سذاجة الملك بنص الرهينة بأسلوب لم يخلُ من الطرافة والإبداع التركيبي لمجريات القص.. أما (الذئب) فللعريبي ثأر معه لأنه يمثل رمز الخيانة والغدر.
وفي نص الذئب أرى أن الخاتمة غير موفقة، وتسخيره لصورة الذئب.. ومكان عدم التوفيق فين ظري.. قيام الضمير بعد رقاده ليحرض على نقيضه..!!!
والتحريض في قصة نهاية ملك.. كسر به (حمرنة) الحمار ليعيش مرفوعلرأس والذيل معاً.. ولا يكون ذلك إلا في حالة واحدة.. عندما يكون الملك معلقاً مستنجداً.. شريطة أن يملك الحمار من الجسارة ما يدعوه لرفسه.
والتمرد الذي قاده النورس بمفرده وانفرد في نص (النورس المتمرد) ليخلد اسمه ، ولكن دون أن ينقذ الجميع .. فالمتمرد بجهد فردي يحـبر الصفحة بدمه .. لكنـه لا يمنع حلكة الليل .
أما الطرفة الملقاة في (المطاردة) فلا تستحـق من تقشير سوى القهقهة في وجـه هـذا الحمار، وشطوحه بعدم معرفة الذات وجهل الآخر.
الـولاء دائماً للأقوى ولو كان حماراً ، وما الجوزة المرة فـي (رحلة صيد) إلا أحـد المرارات المضحكة بين أكوام الجوز العريبي.
وبمطولة الهدنة العريبية في (حكاية الجدي الذي لم يهادن) يفصل الأحداث بدهاء الذئب وصمود الجدي ونوم الكلب، ولربما تكون الخاتمة نصراً سطره العريبي ونرتقبه.
والسعـي وراء الـذات والمصلحة الفردية.. لا يخـولك أن تفصح عن خصوصيات كما في مقالب أبي الحصين.. عبـرة لمن تجرأ في الحديث.. فبعضه يعـد إفشاءً للأسرار الملكية، فمـا بالك إذا امتـد إلى الخيانة العظمى.. باستغفال الملك وسرقة حصتـه.. وفي هذا النص ما بين ابن المقفع و العريبي.. تجد جوزاً أعان الله فكك عليه.
والهروب هو خير وسيلة في تنكر الصديق وقيادة القرد وجميل الحمار.. فلا أرض تقلك ولا سماء تظلك.. إلا الهرب بماء الوجه (مجرد حلم).
و(الزعيم) لا يسكته إلا ما يملأ الفم، والباقي يتبعه.. والصمـت في زمن السماع دون إجابة.. خير مـن تقطيع أوتارك الصوتية دون طائـل (المؤذن).
ولم يرحم العريبي من هجاه في (كلاب بني عبس) وأوفى بحق الرنتيسي.. وهذا النص وليد موقف سطره العريبي.. فالجوز سهل التقشير لكنه خطر على الأصابع من حدة ما برز من قشوره.. وفي (غرور) فرَّج وأغم الطبقة العاملة بجلد الذات دون أي حركة فعلية ولو كانت عسكرية.
المقشِّر:
يختلف المقشر من شخص لآخـر.. وكلي أكل الجوز كيفمـا شـاء، وربما ما تلتهمـه لا تعرف وصفه.. سوى لـوك لسانك وتتبعما استلـذ من طعام.. وهذا ما يشبه التذوق والتمطـق.
وفي الختام:
أفتح للجميع باب التقشير كيفما أرادوا.. وهي خطوة نحو تتبع نتاج المشاركين في الموقع من شأنها غربلة النصوص.. وتتبع جيدها.. ورسم صورة كاملة عبر نتاج كامل.. دون اجتزاء نص وصب وابل التجريح.. مـن هنـا أبـدأ والبقيـة لكـم.
في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى.. نطالع رد الأديبة السورية لبابة أبو صالح على الأستــاذ محمـد البشير.. بمقالـة تحت عنــوان: (مرحبًا بهذا التقشير الممتع).