بعد رحلة شاقة في طريقه نحو معسكر المجاهدين، شاهد من سطح الحافلة المكتظة ببشر متنوعي الأعمار سهلاً رحيباً بحقول شاسعة من الورود والأزهار الملونة، وصفها وكأنها لوحة من لوحات فان جوخ، فقال لزميله العربي:
«مذهلة حقول الورد هذه!» سمعه أحد مرافقيه من الركاب الأفغان، كان يجيد اللغة العربية، حاول إخفاء ضحكته، ومال نحو زميله وهمس إليه، فانفجرا ضاحكين، انتبها إلى انزعاج صاحبنا (أبوالحسام)، فقال له أحدهما:
«إن ما ظننته ورداً، هو في الواقع زهور نبتة الخشخاش، مصدر الأفيون!»، أرضنا تمتد حتى تخوم الصين، والخشخاش لا يحتاج سوى المياه المتوافرة من نهر(الجيجون)!
عند معسكرهم تتراص حقول الحمضيات مروية بجداول منحدرة من الجبال المجاورة، جنة تمرح فيها الطيور، تتشابك فيها الأغصان، تتراقص على زقزقة العصافير، وانسياب المياه. «… شاهد نسوة قادمات يسقن قطيعاً من الماعز، وما إن شاهدهن، حتى سحبن (التشادوري) وأعطين وجوههن وغطين أنفسهن بالكامل.. وينتهي المشهد وهن يركضن ضاحكات خلف القطيع».
وماتت، في خيال (أبوالحسام) ضحكات الفتيات الأفغانيات البريئة في مخيلته، كما لو أنه تذكر ما يؤلمه، إلى أن نجده يصرخ في فقرة أخرى قائلاً: «يا إلهي، لقد شاهدت قبل فترة وجيزة صوراً لرجم فتاة فقيرة، اليوم سأعتبره يمثل حد الطغيان عندما تقام الحدود بسادية على الفقراء ويفلت الأغنياء منها، عندما تنهش الحجارة جسد من اضطرها ظلم الحاكم وفساد حاشيته إلى الأكل بثدييها ويفلت من بني امبراطوريته تجار السموم، فحين تموت تحت أكوام الحجارة ضحية خلع الفقر قلبها ليعيش غول زوّر فقهاً ذكورياً قبلياً يعفيه من الملاحقة، فحتماً عليَّ أن أفكر ألف مرة في حديثهم عن الشريعة».
وبتواصل الرواية يستمر تدبر الراوي وتفكيره في متناقضات مؤلمة، وتتضح له اللعبة، وينتبه إلى أن حرب الأفيون قديمة جداً ولم تتوقف يوماً ما، ولها صولات أكثر عنفاً مما تشاهده في جبهات (جلال آباد) و(خوست). إنها سوق عالمية تدير تجارة بمليارات الدولارات، سوق تحركها أيد خفية يخشى الجميع من الإشارة إليها، جماعات ودول ومؤسسات لكل منها غرضه، أما الجهاد فهو وسيلة لتبرير رواج هذه التجارة.
ويهز رفيقه رأسه وهو يقول: «من أجل ماذا يحاصرون (كابل) إن كانوا يجاملون القبائل، ولا يحاربون عادات هي أقرب إلى عادات الجاهلية، ويغضون الطرف عن زراعة الأفيون.. وبالطبع عن أشياء أخرى بعيدة عن الإسلام وتعاليمه!». وسريعاً ما يقرر مغادرة أفغانستان، فحروبها ليست جهاداً في سبيل الإسلام، ولكنها في سبيل مصالح بعيدة، البعد كله، عن الإسلام.
هذه فقرات وظفتها بتصرف مما ورد في رواية (المطر الأحمر) للكاتب الصحفي عيسى عبدالقيوم، الذي تعرفت عليه منذ حوالي ربع قرن مضى عندما التقيته للمرة الأولى، ذات يوم، في معرض القاهرة للكتاب، حينها كان معارضاً للنظام الليبي، ومقيماً خارج البلاد. بعد عودتي إلى ليبيا فوجئت به ينشر مقالاً في موقع ليبيا المستقبل، تناول فيه بمهنية صحفي متمرس، تغطية شاملة لما حدث في المعرض مبرزاً لقاءاته مع الكتاب الليبيين، ومنها ظللنا على تواصل، وأذكر أننا تناولنا موضوعاً مشتركاً خلاصته بنغازي لن تموت، وقلت له حينها: «تأكد أننا سنلتقي ذات يوم في بنغازي».
وبالفعل التقينا من بعد ثورة 17 فبراير، وكان عيسى عبدالقيوم في أول من وصل عبر القاهرة ممن كانوا معارضين للنظام، ومنها تواصلت لقاءاتنا.
روايته (المطر الأحمر) من أروع ما قرأت من روايات وحكايات عن الجهاد والمجاهدين في أفغانستان، لقد سرد تجربته بأسلوب لم تغب عنه: لا الرومانسية، ولا الوطنية، ولا الإيمان المطلق بالمعتقد، ولا الحقائق. كل ذلك حققه بسرد خيالي بديع وحقيقي يعرفه من عاش الزمن ومكان الرواية، التي في تقديري ستكون رواية الموسم، التي أرى أنها جديرة بترجمتها إلى لغات أخرى لأن أحداثها وحقائقها لا تمس الليبيين فقط ولكن تمس الإنسانية كافة، وبالطبع في مقدمتهم المسلمون على الأقل من أجل تفسير وتوضيح الجهاد وأسبابه ودوافعه.
إن (ربيع) المكنى بـ(أبوالحسام) هما اسمان سوف يخلدان، مثلما تخلد (بيير بيزوكوف) بطل رواية الحرب والسلام، و(روبرت جوردون) بطل رواية لمن تقرع الأجراس، فالعمل المتقن يولد ويترعرع ويحيا، ولكنه لا يموت. رواية المطر الأحمر ولدت لتعيش طويلا.
بوابة الوسط | الإثنين 26 فبراير 2024م