يحتضن الجبل الاخضر مدينة درنة الليبية ويمنحها كل مزايا مدن البحر المتوسط وقد تكون درنة اكثر المدن الليبية بعدا عن رعب التصحر والعطش, فغابات الجبل الاخضر وعيون الماء التي يعتبر “شلال درنة” اهمها واكبرها والذي تجري “ساقيته ” عبر واديها الذي عرف سكانه الزراعة منذ ازمان بعيدة واشتهرت مزارعة الصغيرة وحتى ستينات القرن الماضي بانتاج “الموز” وتميزت الشوارع الدرناوية التي يظللها الياسمين بالطابع الاندلسي وحياة الاستقرار والعراقة والتحضر ,كل تلك العوامل جعلت من درنة بالنسبة لليبين حاضرة مختلفة ومتميزه .
شهدت درنة في العصر الحديث نهضة ثقافية لافتة ,فبدأ المسرح بها في ثلاتينات القرن العشرين واشتهر منها الكثير من الشعراء والمثقفين وحققت المرأة فيها مكاسب متميزة فدخلت المدارس ونالت حظا من التعليم منذ بدايات القرن العشرين, بل واقتحمت نساؤها العمل الفني والثقافي مبكرا فكانت منها ممثلات المسرح وراقصات الفنون الشعبية منذ ستينات القرن الماضي .
درنة مدينة “تدلي ساقيها في المتوسط وتتكيء بظهرها على الجبل الأخضر” مع الاعتذار لصادق النيهوم , وتظل مخزنا حضاريا هاما رغم كل الظروف .
شجر العرعار او “العرعر” يشكل الجزء الهام من الغابة التي تظلل درنة من مرتفعات الجبل الاخضر , ويعتبر الفنان “محمد زعطوط” احد فناني ليبيا الهامين الذين استلهموا روح “غابة الأوديسا ” الليبية التي ظلت ومنذ ملحمة “هوميروس ” اليوناني ملهمة للشعراء والفنانين من كل الثقافات .
محمد زعطوط ابن درنة والجبل الأخضر انطلق ومنذ بداياته في فن النحت من تلك البيئة التي ولد وتربى بها, لم يفتش بعيدا عن مواضيع ولا عن مواد ولا تجارب , بل انهمك في التفتيش والبحث في تلك الغابة, غابة الجبل الأخضر, الغابة التي اسرت فيها الحورية الليبية “قورينا ” قلب “ابولو ” وولد بها مذهب “اللذة القورينائي” “hedonism “ والتي تمتلي مدنها القديمة بفنون اليونان والرومان وتواشيح الأندلس ,فشرع في الكشف عن روح تلك الغابة وذلك التاريخ نحتا بخشب شجر العرعار الذي يحتطبه من غابة الأوديسا الدرناوية .
كان زعطوط وهو يبحث عن تلك الروح يعيد سيرة بحث وحياة اسلافه عبر تاريخ طويل , فكان الصياد الباحث عن طريدته وسط تلك الغابة, وكان الحطاب ثم النجار واخيرا الفنان , رحلة يقوم بها وتاريخ يعبره في كل عمل نحتي جديد.
يحمل فأسه ويمضي يفتش عن جذع تختبيء به تلك الروح ,يصطاده ويبدأ كشفه عن مكنونات ذلك الجذع او الغصن , يزيح عنه القشرة والغشاوة ليتجلى عملا نحتيا , يشيء بتلك الروح وتلك الموسيقى .
كائنات تشبه ارواحنا ولا تشبهنا , تعرف موسيقاها اذاننا وتموجاتها عيوننا وارتعاشاتها اصابعنا ولانعرف “ان نسميها “!
ثمة طيور مهاجرة وارحام امهات اسطورية وبيض خلق قديم جديد وبشر يحاولون الفكاك من اسر حبال سرية تشدهم الى الشجرة والغصن ,وفي كل هذا ارواح غابة تحاول الرقص والغناء والطيران .
تهيمن طيور اسطورية تحمل بيضها وتطير او تحاول الطيران عبر فضاء مجهول, هو فضاء مكان العرض للعمل النحتي , الذي لن يكون بالنسبة لتلك الاعمال الامكانا مؤقتا ولن يكون فضاؤه الا محطة مؤقتة بالنسبة لتلك الارواح الطيور ,فهي لاتعرف ومنذ زمن “اوديسا” هوميروس محطة دائمة الا خيال شاعر اوفنان تعبره الى ما ابعد من زعطوط نفسه ,كما فعلت مع هوميروس وابولو الذي سلبت لبه حوريتها “سيرني ” او “قورينا ” .
وفاء للغابة والرحم والولادة تسود الدائرة البيضاوية والعصي المضفورة المتشنجة كل منحوتات زعطوط , لتجعلها فعل خصوبة يناسب روح غابة العرعار ومخيال محمد زعطوط المتدفق ,
تجربة محمد زعطوط الفنية تمثل ذلك الخصب والثراء الكامنين في درنة او “دارنس” كما عرفت قديما وفي الجبل الأخضر وغابات الأوديسا ,تلك الجنان التي كانت تهذي بها “عرافة دلفي الليبية” كما يقول هوميروس في “الأوديسا”, غابات محمد زعطوط .
نشر بجريدة الحياة اللتدنية