عبدالحكيم المالكي
رواية عرس هي الرواية الأولى للأستاذة خديجة رفيدة، وقد سبق أن صدر لها مجموعة قصصية بعنوان بداية، ويمكننا أن نلحظ من خلال المجموعة القصصية والرواية اهتمام الأستاذة خديجة بتوثيق التاريخ المحلي، الذي أتصوره حديثا قد صار منهلا مهما للعديد من الكتاب عربيا وعالميا.
رواية عرس صدرت هذه السنة 2024.م، عن دار الوليد، بلوحة وغلاف للفنان عبد الحكيم الطليس.
مقدمة:
رواية عرس رواية مختلفة من عدة جوانب، فهي مختلفة من حيث تقنية سردها، ومختلفة من حيث موضوعها، ومختلفة من حيث تشعب حكاياتها نتاج اشعار (شتاو) الأعراس فيها، ومختلفة من حيث كونها تتم في زمن محدود بعض ساعات من يوم فرح، وعلى الرغم من أن موضوعها الظاهر اجتماعي من خلال اهتمامها بسرد تفاصيل الحياة الاجتماعية للنساء في مجتمعاتنا، إلا أن الكاتبة استطاعت، بحكم توظيف التأمل وبعض الالاعيب السردية، من جعل الرواية مميزة.
من زاوية أخرى فإن الرواية مميزة لكونها توثق لحظة تاريخية خاصة في حياة مجموعة بشرية تعيش تحولها السريع من حياة القرية أو الحارة في المدينة إلا ظلام المجتمعات المادية التي تقطعت بينها أواصر العلاقات.
تقدم الكاتبة روايتها بمقدمة فيها تعريف مميز لمكونات وطبيعة العرس في ليبيا عموما ومدينة مصراتة خصوصا، وتخرج من ذلك لتسرد جزئية من جزئيات عرس عادي، فتجعلها متن الرواية كاملة، وهذه الجزئية هي التي تخص المدة السابقة لخروج سيارات (الرمي) في العرس الليبي وفترة عودتها، حيث تنهمك الروائية في اقتطاع جزئية من التفاعل العادي في المجتمع في جلسة رقص وتصفيق شعبية نسائية معتادة، وتستخدم ضمن ذلك الشعر الشعبي (بالشتاو) الذي يخص النسوة الراقصات لتحرك به السرد وترسم حياة تلكم النسوة.
على الرغم من كون الراوي عليما في كثير من لحظات هذه الرواية، إلا أن معادلة النجاح كانت في تلك المسافة التي كان يصنعها بينه وبين الشخصيات التي يروي حكايتها، وكذلك في تلك التقنيات السردية التي وظفها لتكون أشبه بالوصفات الحجاجية التي تحقق له عدم الوقوع في المباشرة، كذلك توظيفه للتقنيات السردية المختلفة التي كانت في كثير من الأوقات مناسبة للحظة السرد، وفاعلة في جعل مادته، غير شعبية، وغير بسيطة.
حكاية الرواية:
تحكي الرواية قصة مجموعة من النساء اللاتي يرقصن في حلقة الرقص في يوم عرس، من خلال مجموعة من اللوحات تشكل فصول الرواية، تم (تقريبا) تخصيص كل لوحة/ فصل لواحدة من النساء.
بدأت الحكاية بقصة فاطمة التي حرمت الذرية؛ حيث سرد لنا الراوي ما يعتمل في صدرها وصدر النسوة حولها من تفاعل إيجابي وسلبي، ثم تابعنا قصة سلوى التي لم تتمكن من الزواج من ابن العم الذي تريده بسبب تدخل الأهل، وقصة ريما التي حرمت من دراسة الطب، وهموم أختها مرام التي تمّ تزويجها لرجل عمره ضعف عمرها، كما نتابع هموم غيرها من النساء اللاتي يعشن حيوات مختلفة، إلى آمنة، الجارة الحديدة، التي نبذها زوجها وتركها وأولادها بعد أصابتها بالورم، بالإضافة للنسوة المضطهدات، نتابع شخصية نسائية مقاومة وأخرى تعيش حياة مميزة، منهم سليمة زوجة الخال التي لم تلد الولد ولديها خمس بنات، منها الخالة خيرية الأرملة، وبالطبع شخصية الجدة المركزية في كل ما سبق.
ليست الرواية مجرد سرد مشاكل نسوة اجتماعية، لكنها كانت تنقيبا في أعماقهن وسرد لهواجسهن وهواجس عائلتهن، وهي، بالإضافة لكل ما سبق، توثيق لتاريخ شبه سري، أيل للانقراض مع تحولات المجتمع الجديدة.
حيل سردية مميزة:
أولا: بناء المشهد الكامل من خلال السرد المميز:
نتابع في المقطع التالي من الرواية كيف يتم توظيف أساليب مختلفة لوضعنا في إطار حدث محدد؛ حيث نتابع سرد التذكر في البداية على لسان الشخصية في (أ)، ثم قيامها بالتغني لأول مرة في (ب)، ثم أثر ما قالته عن بنت الخالة وأمها والجدة في (ت)، ثم تابعنا استكمال المشهد الذي يعكس طبيعة تلك العائلة المقصودة في (ث) من خلال سرد ما هو موثوق منه ومؤكد عن الخال، وهو سرد موثوق منه باعتباره معروفا عند الشخصية الساردة، وبعد أن بنت الشخصية الجسور مع المروي له فإنها تمضي في تفاصيل أكثر حول شخصية مريم في (جـ)، لنتابع ذلك:
” (أ) تذكرت حب مريم للعلم وطموحها أن تتخرج وتأخذ شهادات عليا، (ب) فقلت من مكاني – ولأول مرة أنطق – “ان شالله مرومة الغالية .. تجيب شهادة عالية” (ت) ابتسمت مريم، ورقرقت عيني سليمة، وصفقت جدتي، (ث) وأعرف تماما أن خالي إن سمع هذه الدعوات فسيردد آمين، (ج) مريم تطمح أن يكون لها اسم في الهندسة المعمارية، ذكاؤها المتقد ساحر، والهندسة فن، ومريم ذائقتها الفنية عالية جدا، وحين شرع خالي في بناء بيته الذي يسكنه الآن كان عمر مريم آنذاك أربعة عشر سنة إلا بضعة أشهر؛ إلا أنها ساهمت في تصميمه بشكل باهر، ومن تلك اللحظة لاحظ خالي أنها ستبدع، فتح أمامها هذا العالم دون أن يجبرها عليه، وأثبتت براعتها”.
ثانيا. الترهين في بدايات المقطع والتأطير لتحفيز تلقي المروي له:
نتابع هنا نموذجا من الترهين الذي يعني ربط المتكلم أو الراوي لحدث مسرود بحدث أخر:
حين ذهبتُ لزيارة سلوى بعد ولادتها لطفلتها الأخيرة قبل أقل من عام، تنقلنا في حديثنا من موضوع لآخر…”
وهنا أيضا نموذجا سرد فيه ترهين:
“عندما خارت قوى جدتي واستعدت للخروج من الحلقة جذبت بدلا منها العمة نوارة…”
كما تم توظيف التأطير من خلال تحديد طبيعة الجلسة في حلقة الرقص للنسوة وعلاقة ذلك بالقرابة من العائلة.
ثالثا. تقنيات سرد أخرى:
وظفت الكاتبة عددا من التقنيات السردية الأخرى منها استخدام صيغة الخطاب المنقول في بعض الأحيان للخروج من مسئولية سرد حكاية ما، كما وظفت (أحيانا) السرد المشكوك فيه، لتخرج من الراوي العليم بعدة أساليب ومنها ما يلي:
1. أسلوب التمعن في وجه شخصية ما تمهيدا للدخول لموضوعاتها:
“جمود وجه ريما ينقلني لقصص أعرفها، فمنذ أن كنا صغارا حين نلعب “حويشات” كانت ريما…”
وهنا أيضا بالطريقة نفسها:
“تابعتُ وجه مرام الذي يشبه القناع؛ لا تبتسم؛ لا تضحك؛ لا تفعل شيئا سوى الرقص، تذكرت مرة حديثا جمعني بها، حين سألتُها …”
2. أسلوب كسر الراوي العليم بسرد عدم التأكد:
“ولربما تذكرت زوجها وطيبته؛ صبره عليها؛ احترامه لها الذي ما وجدته في أخيها”
3. سرد فعل بدون مسئولية الفاعل، حيث يتم سرد أفعال بدون مسئولية الراوي لنتابع المقطع التالي:
“وجدت نفسي أردد بصوت خجول بعد كل هذه الذكريات والتفاصيل التي مرت ببالي…”
4. هنا الشخصية تقدم نفسها عاشقة للقصص وسماعها محبة للتفاصيل وهو ما يشكل شخصية الروائية أمامنا، لنتابع المقطع التالي الذي يبدأ بسرد الاعتراف:
“أعترف أنني فضولية جدا وأحب سماع قصص الناس وأخبارهم بالحد الذي لا يؤذيهم، إنني أقتات على القصص، المتعة التي أشعر بها وأنا أسمع القصة من صاحبها أو من شاهد عيان تعادل المتعة التي أشعر بها وأنا أقرأ قصص تشيخوف العظيم…”
أخيرا:
رواية عرس رواية طيبة وبداية مميزة لكاتبتها، وعلى الرغم من صعوبة تقديم شيء مميز في تصوير عرس، إلا ان الكاتبة نجحت في تقديم نص مميز مشوق فيه مخزون كبير من الشعر الشعبي (الشتاو)، وفيه توثيق لدهاليز حياة المرأة الليبية في لحظة العرس، وهي لحظة خاصة في حياتنا، ساهم (في تصوري) في تميز الرواية تلك التقنيات السردية التي تم توظيفها، كذلك دقة اختيار العنوان للوحات الرواية المختلفة، فكان عنوان كل فصل رسالة تلخص بعضا من دلالته وتقدمه لنا بشكل مميز.