القراءة الركحية تضمنت مشاهد أشبه بنقلات قصيرة لا بأسدال الستارة، وانما بأوضاع الفنجان الذي تتأمله فاطمة، بموسيقى هندية تحاكي تأويله المفترض لآثار الحض، فهو العنصر الخامس في فلك المجموعة، معلنا في وضعياته ان الرؤيا حبلى بالطلاسم، وافق المستقبل متصل للأسف بلعنة القراءات الخاطئة، الزاهي :(كل قراءة هي قراءة سيئة وتأويلات لا متناهية) ص46.
الفنجان في فضاء بيت الكدوة، يختزن عصارة الكهانة عبر تاريخها السحيق، وبدا متماهيا مع التأويلات اللامتناهية الخالصة من وحي التذكر، كما لم يكن عاملا مساعدا، فقط بل مركز الابصار المستتر، وهو يحاول التقدم خلف علامات الاستفهام المعلقة بين الشخوص.
انعطافة اخرى، تدخل خلالها المجموعة فيما يشبه (يوجا) جماعية للاستذكار مهدت لها اوراق رضا الممزقة المتناثرة في زوايا البيت، تحوي في ثناياها اسطورة خطيئة ابن السلطان غادية، وبالرغم ان كل المسالك ترجعنا الى سلم الخطايا، لكن البصيرة تحاول اقامة نموذجها المبعثر في اودية العصر المطير، حيث تقرا فاطمة احدى لوحاته على ورقة التوت، ما دون على جدار الاسلاف، لعشرة الاف عام من الحضارة الليبية في جبال أكاكوس، وكيف تصدعت جدرانها بغياب البصيرة، عندما سيطرت شهوة السلطة على مخيلة ابن السلطان، ودفعته الى محاولة تملك غزالة البحر بالقوة، لتكون احدى نساء قصره، لكنها تبخرت منسحبة للماء وسحبت وراءها خط المطر، لتلحق بالبلاد لعنة الخطيئة، ويجتاحها الجفاف، غابت البصيرة عندما ارتفع صوت الانا متوشحة بالتوحش، ستتجاور هذه الثنائية مع نسخها المكررة، ادم والشجرة الملعونة، قابيل وهابيل، زليخة ويوسف، الخ ….
في نقلة ثالثة يمارس الزاهي فن التخلي، او التحرر الكامل من سجن الجسد، محاولا في كل مرة العودة الى طقوسه العرفانية كنقطة مرجعية ثابتة، يربط حزام مقعده المتخيل (الى دبلن ايها السفر النجمي) ص56، ولكن لماذا دبلن؟ هل هي حالة خاصة يتحالف فيها الكاتب مع ابطال مسرحيته؟ غير أن الهدف ليس المكان، بل مضمون الفعل السفري، خلاصة احبار ورقة التوت في البحث عن التطهر الروحي، اذ لا غرابة في قوله (انا الان على ظهر سفينة الحقيقة، أبحر الى نهاية الظلام).
وفق هذه المعادلة، لن تنتهي محطات السفر النجمي عند هذه النقطة، فهو ينعطف الى ممر زمني اخرى، ونرى ثنائية ابن غادية وحورية البحر تتواصل مع ثنائية اخرى في (خود)، وهي عنوان مسرحية تتجاور مع حمودة الزاهي في ذات الاصدار (نصوص درامية من التاريخ الليبي)،لكنها في ظني جزء أصيل من منحوتة الخطيئة ، تحاكي خود ابنة شاورما حورية البحر، تنسحب الاولى للشاطئ بروحها الملائكية، بينما الثانية سحبتها غيرة بشرية قاتلة، دمرت عرش زوجها المنتصر الفاسي الذي يتقاطع مصيره مع ابن السلطان في بؤس نهاياتهم ،تترك الحورية خلفها لعنة التصحر، بينما تتقوى خود بالأتراك وتمكنهم من قلعتها، و ينتهي بها المشهد مشدودة على عمود المحرقة، تبدو هذه المقارنة مربكة في مقاربتها لكنها تستند الى تيمة أزلية، الخطيئة والعقاب.
يرافق المنتصر الصوفي الذي اتخيله الزاهي وقد تحرر من اسمه، يصفه الفاسي بقوله (ساح عشرين سنة باحثا عن بساتين المعرفة، ثم صار مريدا للشيخ عبد السلام) ص76، ولا تتوقف سلسلة الاحالات الماضوية في المسرحية على عصر بعينه، بل تنبسط وصفتها لرسم ملامح كل الشواهد السابقة، مرموزة في جداريات تين العاشق والزرافات الثلاث، تنفذ اليها بصيرة الصوفي ويغفل عنها كنه المنتصر، اذ لازال تحت سلطان الغواية، لذلك همس اليه الصوفي (كن حكيما يا منتصر) ص86.
تمضي الرحلة ممهورة بختم النهايات الاولى، كما في سفر الخطايا، يموت المنتصر كمدا بعد حصاره لجنود خود في القصر الاحمر بسبها، كما تموت خود ضحية مؤامرتها، ثم ينتقل المشهد الى الثبت التعريفي لدولة اولاد محمد المنقوش على الحجر الصخري، كخاتمة لسفر البصيرة والخطايا مقروءا بصوت الراوي وهو الزاهي، فابن السلطان، والفاسي، وخود، كانوا ممن (قتل نفسه بيده كما يقول الحلاج)، والسؤال المصيري في حكايتنا الابدية، هل علينا السير دائما بين النيران كما يقول دانتي لنطهر أنفسنا؟