قصـة اللواء فؤاد زهران مع الملك إدريس السنوسي
شكري السنكي
أقام الملك إدريس السنوسي، بعد انقلاب الملازم معمّر القذّافى في الأول من سبتمبر 1969م، لاجئاً سياسياً في مصر وظل مقيماً بها إِلى أن وافته المنية في القاهرة في 25 مايو 1983م لينقل جثمانه الطاهر بعدئذ بطائرة خاصة ويدفن بـ«البقيع» حسب وصيته، في تلك البقعة الطاهرة إِلى جوار جده المصطفي صلى الله عليه وسلم وبجانب قبر ابن عمه الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف رحمة الله عليهم جميعاً. وهذا ما كان قد تمناه الملك إدريس ودعا مولاه عز وجل أن يحقق له، وعبر عن ذلك في القصيدة التي نسج أبياتها في يوليو 1947م، وقال في ختامها داعياً الله سبحانه وتعالى أن يكون حسن الختام «بيثرب» المدينة المنورة إلى جوار جده المُصْطفى محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام:
وحسنُ ختامِ آخرِ العمرِ نعمة * * * بيثرب حيث النبي المبشرُ
استقر الملك إدريس بعد وصوله إِلى مصر في خريف العام 1969م في القاهرة بـ«قصر محمّد السلطان» الذي خصصته الحكومة المصرية له، الكائن بشارع بولس حنا الثاني بمنطقة الدقي، ولم يغادر مصر من تاريخ وصوله إليها إِلى تاريخ وفاته في 25 مايو 1983م، إلا مرتين ذهب فيهما إلى مكة للحج، وقد تُوفي الملك عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عاماً.
عينت السلطات المصرية بعد وصول الملك إدريس إِلى القاهرة، العقيد محمّد عبدالقادر مسؤولاً على أمن الملك ومكلفاً بتلبية حاجياته وجميـع طلباته، وبعد عدة سنوات تمّ تعيين شخص آخر مكانه ولكنه لم يدم طويلاً، ليعيّن في منتصف السبعينات اللواء فؤاد زهران مكانه.
لاحظ زهران على الملك إدريس السنوسي التقوى والزهد والورع، ورأي في وجهه نور الطاعة والعبادة، والله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم}، وبعض السلف قال: «إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب النَّاس». رآه صاحب لسان ذاكر، ومؤمناً زاهداً مترفعاً عن ماديات الحياة، قلما يطلب طلباً أو تكون له طلبات، علاوة على أنه كان يحنو على مَنْ حوله كحنو الأب على أولاده. رآه ملكاً من عصر آخر، وليس كباقي الملوك، فاقترب منه وأحبـه وأثّر فيه وتأثر به.
عرف زهران، الملك إدريس عن قرب، فأحبه وأخلص له وتفانى في خدمته، والملك عامله بحب وأكرمه وجعله في مقام الابن تماماً. وفي إحدى زيارات الرئيس أنور السادات للملك إدريس في مقر سكنه بقصر السلطان في الدقي، قال الملك للرئيس السادات: “هل تعلم يا فخامة الرئيس، لو كان ليّ ولد ما كان له أن يكون باراً بيّ كبر فؤاد زهران “.
كان فؤاد زهران يسعد بخدمة الملك ويسعد بمجالسته ويعتبر أجمل أوقاته وأروعها هي التي يقضيها بجانبـه. وكان يأكل مع الملك على طاولة واحدة يومياً، ويقضي بعض الوقت معه وكأنه أحد أفراد أسرته. وقد رافق الملك في المرتين اللتين سافر فيهما إِلى مكة للحج. كما كان دائماً يذكره بالخير في ظهره ويُثني عليه ثناءً كبيراً وعطراً، ويقول: “أن الله فتح له كل أبواب الخير منذ أن باشر مهام عمله في خدمـة الملك”.
حمد زهران المولى عز وجل على أن السلطات المصرية اختارته من بين زملائه ليكون في خدمة الملك إدريس، واعتبر ذلك كرماً من الله وفضلاً كبيراً، فدعا المولى عز وجل أن يُبقيه إِلى جانب هذا الرجل الطيب الذي رأى فيه صلاحاً لم يره في غيره، وألا تنقله السلطات إِلى جهة أخرى وتأتي بغيره في مكانـه.
علّم الرئيس أنور السادات بمحبة الملك لفؤاد زهران ومدى تعلق الأخير بالملك وكأنه صار أحد مريديه، فأبقاه في الخدمة حتى فارق الملك الحياة. وبعد وفاة الملك، رافق زهران الجثمان من القاهرة إلى المدينة المنورة، وكان من بين المشيعين له ﺇلى مثواه الأخير.
قام بتغسيل الملك في القاهرة –وحسب وصيته– الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الشريف، واللواء فؤاد زهران، والدكتور هشام رضوان زوج سُليمه ابنة الملك بالتبني. ونقل جثمانه الطاهر من القاهرة إلى المدينة المنورة في طائرة مصرية خاصّة، ترافقه الملكة فاطمة الشفاء والسيد نافع العربي السنوسي والسيد عمر إبراهيم الشلحي، مع وفد مصري رسمي برئاسة ياور رئيس الجمهورية «محمّد حسني مبارك» وصحبة اللواء فؤاد زهران وزوجته، وكان في استقبال الجثمان وكيل عن أمير المدينة المنورة «الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود» الذي كان غائباً في رحلة علاج من مرضه الذي توفى فيه رحمه الله.
انتهى تكليفه بوفاة الملك، وقامت السلطات المصرية بعد الوفاة بتعيين فؤاد زهران مديراً لأمن مدينة بورسعيد. وتوفي زهران فيما بين عامي 2008م / 2009م وهو يصلي في مسجد رسول الله بالمدينة المنورة ودفن في مقبرة البقيع بجوار مَنْ أحب.
رحم الله اللواء فؤاد زهران الرجل الوفي الذي كان يعرف قدر الرِّجال ويجِلّ العلماء والصالحين وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغفر له وجعل الجنة داره ومأواه.. ورحم المولى عز وجل الملك إدريس السنوسي أبانا المؤسس الذي لنا فِي تاريخه وسيرته العطرة وشخصيته الفذة وعطائه العظيم المثل والقدوة والنبراس، والذي نستمد من تجربته الطويلة المليئة بالعبر والدروس، العزيمة والإصرار في استكمال مشوارنا الوطني الذي بدأه هو والآباء والأجداد العظام، وغفر له وجعله في عليين بجوار الأنبياء والمرسلين.
الجمعة الموافق 16 فبراير 2024م
• الصورة الأولى: الملك إدريس السنوسي في غرفة الجلوس العائلية في بيته بشارع بولس حنا الثاني بمنطقة الدقي في مصر، ويجلس بجانبه اللواء فؤاد زهران ويظهر معه الطفل شريف هشام رضوان ابن السيدة سُليمه.
• الصورة الثانية: الملك إدريس السنوسي في بيته بشارع بولس حنا الثاني بمنطقة الدقي في مصر، ويرجع تاريخ الصورة إِلى يوم 12 مارس 1981م، اليوم الذي كان يصادف ذكرى ميلاده، ويظهر بجانبه السنوسي عبدالقادر كويدير، وخلف السنوسي يظهر فوزي كامل السنوسي، والشخص الآخر الذي يظهر مِن اليسار، في طرف الصورة اللواء فؤاد زهران، والشخص الذي خلفه، والظاهر نصف وجهه فقط، هو الدكتور توفيق الهنتاتي.