السيد عبدالحميد البكوش - رحمه الله
شخصيات

عبدالحميد البكوش.. ومشروع شخصية الوطن (2)

والجسور شاقة والطريق طويلة بالفعل وثمة تداعيات من التاريخ القريب تلقى بقوة ظلالها الباهته والمحاولات كثيرة للاصلاح لكنها احيانا تتعثر بالاخطاء والكبوات. حين كلف عبدالحميد البكوش برئاسة الوزاره فى اكتوبر 1967 كان عمره ثلاث وثلاثين سنه ولعله اصغر الرؤساء من الذين سبقوه سنا وقد فتح بصره مع جيله على مرئيات اثار الحرب فى الوطن ومخلفاتها والفقر والجوع وقلة الحيله.

السيد عبدالحميد البكوش - رحمه الله
السيد عبدالحميد البكوش – رحمه الله

تبلورت فكرة الاهتمام بالشخصية الوطنيه والتحسيس بها منذ عودته الى البلاد عقب تخرجه فى حقوق القاهره. تغير ولم يعد البكوش الطالب هناك. لم يتواصل مع الرفاق القدامى وافتتح مكتبا للمحاماة فى مدينة طرابلس وبداْ ينشر قصائده فى صحفها فيما ترافع عن المتهمين فى قضية حزب البعث عام 1961 وربما لوحظ عليه هنا بداية صلاته ببعض الشخصيات المسؤوله فى الدوله وعن طريقها التقى المرحوم البوصيرى الشلحى ناظر الخاصه الملكيه الذى اخبره باْن الملك ينوى وضع قانونا لتنظيم الزوايا السنوسيه ولم يشاْ اللجوء الى مستشارين قانونيين غير ليبيين.. (انظر مقالته. بالوسط لندن 16 اكتوبر 1995).. هنا بداْ يقابل الملك عدة مرات بحكم هذه المهمه واستمرت صلته به حتى صار وزيرا للعدل فى حكومة السيد محمود المنتصر الثانيه بتاريخ 22 يناير 1964 وظل كذلك لمدة شهرين ثم اعيد الى منصبه فى تشكيل اخر فى الحكومة نفسها فى اكتوبر 1964 وبقى وزيرا للعدل حتى توليه الحكومه . اول ماصادف فى عمله وزيرا للعدل ماتعلق باحداث يناير 1964 وقد عقد مؤتمرا صحفيا نقلته الاذاعة على الهواء وتحدث فيه عن المشكله ووعد بالتحقيقات النزيهه وانجاز العداله.

حادثة اخرى ستمر به وزيرا للعدل ايام حكومة السيد حسين مازق وهى التفجيرات الكبيره التى وقعت فى مايو 1965 فى ابار البترول جنوب البريقه. كان ذلك رهيبا حقا استهدف البلاد واقتصادها . شكل مع مظاهرات يناير السابقه انعكاسا لصدى الخطاب القومى مع وجود التململ والاخطاء فى الاداء فى بعض مرافق الدوله. فتحت الدوله التحقيقات وقبض على الثلاثه الذين ارتكبوا الفعل وانتهى الحكم عليهم بالاعدام وصدق ذلك المفتى لكن الملك خفف الحكم الى المؤبد مؤكدا باْن الخسائر الاقتصاديه ستعوض طالما لم يترتب عن الفعل ازهاق فى الارواح! ومع التحقيقات لاح للدوله ان الفعل تم بتدبير خارجى مجاور وبتعاون محلى لم يعاقب عليه الوسيط فى الداخل الذى استلم ادوات التفجير لضرورة راْتها الحكومه.

وقد علمت الدوله بتصريحات فى احدى الخطب باْن شباب الثوره العربيه بداْوا فى التحرك وضرب مصالح الاستعمار فى المنطقه واستهداف البترول وردت الحكومه فى مجامله وادب باْن الاقتصاد الذى ضرب هو اقتصاد عربى سيؤثر فى شعب عربى . وقد اكد صلاح نصر الرئيس السابق للمخابرات العامه فى مصر فى كتابه (حديث الافك)باْن من اسباب القبض على الصحفى مصطفى امين رئيس تحرير اخبار اليوم واتهامه بالعماله لامريكا فى اواخر 1965 هو ادلائه بمعلومات للسفاره الامريكيه فى القاهره حول الدور الذى لعبته تلك المخابرات والدوله فى موضوع التفجير!! وحادثة اخرى ايضا ستلاقى البكوش وقت حكومة السيد عبدالقادر البدرى. فى عز الالتهاب الذى مر بالمنطقه. كان وزيرا للعدل وثمة شباب ينتمون الى حركة القوميين العرب عرفوا بمجموعة (106) تم اعتقالهم والتحقيق معهم ولتصدر الاحكام بحقهم فى يناير 1968 وقد اضحى رئيسا للوزراء . كل هذه الحوادث والوقائع وان تفاوتت بطريقة مباشره او غير مباشره لاشك انها زادت من ضرورة التوجه الى الداخل ومعرفة مواطن الخلل فى النفوس وكان مع ذلك كله تراكمات اصداء بعيده.. ماهى بالضبط ؟

لابد ان البكوش يدرك تماما حقيقة الفراغ.. الفراغ السياسى الذى تعيشه البلاد منذ الاستقلال وعدم التواصل بالصوره المرجوه بين الشارع والحكومه فى اغلب الوقت . والفراغ تولد من عدم ثقة المواطن فى نفسه وفى وطنه وفى مسؤوليه وتصدى الخارج بطرق كثيره لسد هذا الفراغ . كان البكوش يعرف ايضا باْنه لاوجود لاحزاب حقيقيه تنتمى الى الوطن. انها كذلك عقلها فى الخارج وقدميها فى الداخل ولذلك تلاشت وانطفات حتى تلك المحاولات والاجتهادات التى تظل محل تقدير والتى انطلقت فى مرحلة ماقبل الاستقلال . كانت تمتلىْ حماسا وعاطفة واسهمت فى انجازه عبر فترة المخاض السياسى دون ان يكون لها برامج وكوادر سليمه ومنظمه.

لقد تاْثرت بما يحدث فى الجوار واعتبرت على سبيل المثال ان الاداره البريطانيه مجرد احتلال واستعمار وظلت تلعنه وتسبه ونست باْن تلك الاداره هى فى الاساس صديقة وحليفه قبل اى شى اخر. بمعنى ان تلك الاحزاب والجماعات حاكت النموذج المصرى على سبيل المثال فى فترة الاربعينات الذى كان يدعو الى الجلاء والاستقلال التام. ونحن مازلنا لم نضع خطواتنا بعد على الدرب البعيد. ورغم كل شىْ دربت الاداره البريطانيه الكوادر الوظيفيه ودفعت المرتبات وارسلت البعثات للدراسه واصدرت الصحف التى تمتعت ببراح من حرية الراْى واوفدت الطواقم الطبيه لمعالجة سكان الدواخل وغير ذلك. الادارة البريطانيه لدينا كانت غير مايحدث فى مصر. لكنها المحاكاه.

وكانت هناك تراكمات وردود افعال جراء ذلك. وكان البكوش مثل ابناء جيله يدرك ذلك . وكان ايضا مثل الكثير من مجايليه يتوجسون من دوامة الانقلابات العسكريه التى وصلت المنطقه. عاشوها وسمعوا عنها وادرك باْن هذا الفراغ قد يسده ضابط يصل على ظهر دبابه حاملا غدارته الى باب الاذاعه. ثمة اشارات قد تكون بداية لمخطط قادم . اغتيال ناظر الخاصه الملكيه.

هل كان ذلك اول الخطوات لزعزعة كيان الدوله فى بداية تكونها على الرغم من وصفه بصراع عائلى محض.. وهو امر بعيد الاحتمال لانه ببساطه كان عملا فرديا تحمل مسؤوليته الشريف محى الدين .. الطالب بالصيدله فى بيروت والذى تاْثر لاشك بافكار حركة القوميين العرب واقترب منها فى مطعم فيصل واهتم بقراءة نشرتها (الثاْر) والتى كان يرسل بها الى بعض اصدقائه فى بنغازى.. والذى عاش تداعيات الاغتيال السياسى لرياض الصلح رئيس وزراء لبنان اثناء زيارته للاردن يوم 14 يوليه 1951 ثم اغتيال الملك عبدالله عند مدخل المسجد الاقصى بعده بخمسة ايام فقط.. هل تاثر بذلك.. وطبقه لدينا وحقق حلم البعض.

هل كان الملك نفسه ورئيس حكومته وغيرهما ضمن قائمة الاغتيال؟ فى 9 سبتمبر 1954 تم توقيع الاتفاقيه الامريكيه الليبيه فى مقر رئاسة الحكومه فى بنغازى وبعدها بشهر اغتيل ابراهيم الشلحى ناظر الخاصه الملكيه امام ذلك المقر.. فهل الدافع القومى والحماس الخارجى راْى فى الاتفاقيه خيانه وجريمه. ان الحادث لم يكن عابرا وان كان فرديا. لقد كان مخططا وبتدبير اطراف محلية اخرى خارج نطاق العائله التى لاتتحمل مسؤوليته. وكان اول شرخ كبير فى كيان الوطن قبل ان يكون جرحا على مستوى العائله استدعى من الملك الغضب والسخط عليها وتحملت نتائجه عقب اعدام القاتل فى فبراير 1955.

لابد ان يدرس هذا الحادث جيدا . عام 1957 اعد وزير الدوله البريطانى انتونى ناتنج تقريرا قدمه الى حكومته يحتوى على فكرة ضم طرابلس الى الجزائر . وفى يوليو من العام نفسه فى احتفال شهدته حديقة السفاره الامريكيه فى بغداد بمناسبة العيد القومى لامريكا اختلى السفير برئيس الوزراء العراقى محمد فاضل الجمالى وتحدث معه فى امكانية جعل الامير عبدالاله ملكا على ليبيا بدلا من الملك ادريس الذى لم ينجب وبلغ سن الشيخوخه . وفى اكتوبر 1962 يزور الامير الحسن الرضا ولى العهد الولايات المتحده ويحدثه الرئيس جون كندى فى امكانية الانقلاب على عمه !! وفى يونيو 1967 اشيع باْن قوات جزائريه تحيط بقاعدة الملاحه وذلك لم يكن صحيحا فقد عبرت تلك القوات البلاد الليبيه بالكامل فى طريقها الى مصر للمشاركه فى القتال.

هذه الاشاعه اثارت حفيظة البعض وجعلته يتساءلون.. عما يمنع ذلك من الحدوث وان يستغل الظرف بارتكاب مغامرة تضر بمصالح البلاد . وقيل باْن الرئيس الجزائرى هوارى بومدين زار روسيا فى تلك الايام لشراء اسلحة لمصر وتسربت معلومات الى الدولة الليبيه باجتماع عقده مع كوسيجن واستمزج راْيه فى مدى تاْييد الروس للجزائر فى حالة تدخلها عسكريا فى ليبيا لكنهم تحفظوا ومانعوا لانهم لايريدون مواجهة قاسيه ومعقده بين الاطلسى ووارسو . وعندما تولى البكوش الوزاره كان على علم بتلك المعلومات واراد ان يكشفها فى خطاب علنى وعلم بذلك الملك ونصحه بالتريث وعدم القيام بذلك واشار باْنه على الدوله اتخاذ اجراءاتها بعد ان فهمت الموقف جيدا وانطلاقا من ذلك برزت فكرة اعادة تنظيم الجيش وجعله قوة رادعه والشروع فى صفقة الدفاع الجوى. سؤال كبير.

هل كان الوطن يعيش اجواء مؤامره او لعبه دوليه منذ 1954 دون ان يدرى سكانه.. هل كان ثمة سيل جارف ينقلهم بقوة وهم يزغردون؟ وموقف اخر.. طيار من السلاح الجوى الليبى يشاهد طائرات تدريب امريكيه تنطلق من قاعدة الملاحه وتعود بعلم الدوله الليبيه التى شكلت لجنة رقابه على اعمال القاعده فى تلك الفتره الحرجه اعتقد انها تمضى لضرب مصر . تطوع بنقل المعلومه دون ترو .. الى السفير المصرى مباشرة الذى بدوره نقلها الى حكومته وكانت التهمه فى خطاب علنى ثم عرفت الحقيقه.. والتراجع والاعتذار. امثله كثيره من الاستلاب والتداعيات وفقدان بوصلة الهويه وعجز الدوله التى لم تخش مواطنها ولكنها كانت محرجه من مواقف الجيران وتتحاشاهم .. وتراكمات سابقه من التاريخ لاشك ان البكوش استلها من اعماقه وظلت ماثلة فى خاطره وبداْ خطواته بالدعوه الى مشروعه الخاص باْحياء شخصية الوطن .. الشخصية الليبيه.. تعزيز الهويه وكيان الدوله امام الاخرين. كان خطابه يوم الثلاثاء 21 نوفمبر 1967 عبر الاذاعه .. نقطة الانطلاق.

…… يتبع (3)

_______________

عن ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

فتحي المريمي من الشلال الي المختار

حسين نصيب المالكي

توفيق البرقاوي.. صاحب جريدة الجبل..

محمد العنيزي

صالحة وتلميذاتها

فاطمة غندور

اترك تعليق