كمن يختصر عبق البساتين في قنينة عطر ويلملم كل البهاء المبعثر في متن ويختزل التاريخ في صفحات مشرقة , هذا ما فعله الأديب والناقد والمؤرخ والمترجم الراحل خليفة التليسي بتأليفه لكتاب ” حكاية مدينة – طرابلس لدى الرحالة العرب والأجانب ” الذي جاء في حوالى ثلاثمائة وستون صفحة وصدر عن الدار العربية للكتاب سنة 1997 في طبعته الثالثة والذي تم تأليفه بما يشبه المصادفة ودون وجود نية مُبيتة وبلا سبق إصرار وترصد , حيث بدأ الباحث التليسي بحسب ما ذكر في مقدمة الكتاب بوضع بحث حول مدينة طرابلس للمشاركة به مؤتمر تخصصي دعيَ له حين أخذ هذا البحث في التوسع والتمدد حتى وصل إلى ما نراه عليه في هذا الكتاب , وفيه تعرض بشيء من التوسع والأستفاضة إلى تاريخ مدينة طرابلس منذ تأسيسها على يد الفينيقيين ثم القرطاجيون والرومان وحكم الوندال والبيزنطيين مرورا بالفتح الإسلامي والأحتلال الإسباني وخضوعها لحكم فرسان القديس يوحنا حتى نهاية العهد العثماني الثاني من خلال استعراضه لما كتبه عنها الرحالة والمؤرخون الذين تباينت أراءهم حولها وتأثرت بالسياق التاريخي الذي كُتِبت به الشهادات والتي شكلت في نهاية الأمر سيرة ذاتية لمدينة أظهرت عراقتها وأبرزت دورها الفعال في تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط والعالم الإسلامي , وباستثناء بعض الآراء التي تحدثت عن مدينة هي للجهل مأثم وما للعلم بها من غرس , أقفرت ظاهرا وباطنا , تلمع لقاصدها لمعان البرق الخُلب , كما وصفها الرحالة المغربي العبدري المولود في مراكش سنة 581 , أتفق الرحالة الآخرون على أنها مدينة جليلة وعامرة آهلة بأهلها , كما تحدث عنها اليعقوبي , وابن خردادبة في كتابه ” المسالك والممالك ” وهي خصبة واسعة الكور حصينة جدا كما رآها الكرخي , ووصف ابن حوقل في كتابه ” وصف الأرض ” أسواقها وأسوارها وضياعها وباديتها ومنتوجاتها من الفواكه والمحاصيل ومراكبها ولباس أهلها وحُسن صورتهم ومرؤتهم.
وخصَّها المقدسي في كتابه ” أحسن التقاسيم ” بوصف لا يبتعد كثيرا عما وصفها به ابن حوقل وكذا فعل البكريّ والجغرافي العربي الأشهر ” الإدريسي ” في القرن السادس الهجري في كتابه ” نزهة المشتاق ” , وهذا شأنها مع المؤرخ عبدالواحد المراكشي المولود سنة 581 الذي زارها أبان رحلته التي قادته من بلاد المغرب إلى المشرق العربي وأرض الحجاز قبل أن يتوفى ببغداد , ولا يزال الباحث يستعرض أراء المؤرخين والرحالة حول مدينة طرابلس فذكر ما قاله عنها أبنُ رشيد السبتي والتيجاني الذي رسم لها لوحة فائقة الجمال والأتساع حتى أنها أتت على كل مرافقها ومنشآتها ومزروعاتها وأعلامها وأقواسها , وبعد هذا العرض الواسع لآراء الرحالة والمؤرخين يتطرق التليسي بشيء من التفصيل لتاريخ مدينة طرابلس تحت الحكم الإسلامي قبل أن يحتلها الإسبان سنة 1510 ويستمر حكمهم لها لعشرين سنة وليستلمها بعد ذلك فرسان القديس يوحنا الذين أخضعوها لحكمهم لعشرين سنة أخرى.
وجاء هذا العرض التاريخي معززا بشهادات موثقة كتبها بعض من قاموا بزيارتها أو أقاموا فيها مثل قائد الحملة الإسبانية , وأحد رجال الحملة , قبل الأنتقال إلى الحديث عن مدينة طرابلس تحت حكم فرسان القديس يوحنا وصولا إلى العهد العثماني الأول الذي توفرت عنه شهادات لكل من العياشي 1037 – 1090 التي سجلها عند مروره بطرابلس في طريقه إلى الحج سنة 1059 , وكتب الجراح جيرارد الذي وقع أسيرا ومكث فيها حوالى ثمان سنوات شهادة شاملة أورد منها التليسي صفحات عديدة , ومن خلالها يقف القارئ على الكثير من معالم طرابلس ومظاهر الحياة فيها ويتعرف إلى أهم شخصياتها المؤثرة وهرمية السلطة ويطّلع على جزء واسع من تاريخها الحافل بالأحداث والزاخر بالمتغيرات.
وما زال التليسي يخوض في تاريخ طرابلس بشكل متسلسل ومتواتر حتى أتى عليه كاملا تقريبا حين مزج ما بين تاريخها الذي وضعه المؤرخون وشهادات من زارها من الكتاب والرحالة العرب والأجانب , وفي كل هذا الجهد التجميعي المبوب والمُدقق حاول التليسي كما يوضح في مقدمته المقتضبة أن لا يتدخل كثيرا في مادته التاريخية تاركا أمر العرض والشرح والتقديم للوثائق والمراجع التاريخية التي اعتمدها لتتحدث بلسانها وبلسان من كتبها واكتفى بالتعليقات البسيطة , فبدا السرد لسلاسته ووضوحه وانسيابيته كما لو أن المدينة تتحدث بلسانها وتحكي عن نفسها وتسرد تاريخها الغني بالأحداث وتستعيد شبابها , ولا أتصور عاشقا لطرابلس , اليوم لم يطلع على هذا الكتاب المهم الذي يفصح عن بعض فتنة طرابلس التي لم تكن وليدة اليوم بالتأكيد وإنما اكتسبتها من تاريخها العريق ومما تشكل بها من أحداث وتناوب عليها من أقوام وأوقات شدة ورخاء , الشيء الذي يؤهلها اليوم لأن تنهض من رمادها كما فعلت دائما وتقف وقفة عز كدأبها , فهي مدينة بحسب ما يُظهر تاريخها تستحق كل ما يقال فيها من مديح , ومهما تحدث المرء عن عراقتها يظل يشعر بالتقصير في حقها.
ولعل التليسي يكون قد أسدى خدمة جليلة لطرابلس , رحمه الله بمجهوده هذا , هو المعروف برصانته ودقته ومهنيته وحرفيته في هذه المجالات , وهذا المتن يشهد له بذلك كما تشهد بقية المتون لا سيما قاموسه ” النفيس من كنوز القواميس ” الذي فيه من الدقة ما فيه , إذ يُخضع التليسي نفسه وشغله لضوابط ومعايير أقل ما يمكن أن يُقال عنها انها صارمة ودقيقة , وهذا الكتاب بلا ريب إضافة نوعية للمكتبة الليبية ومرجع مهم لكل من أراد أن يعرف طرابلس من البُحاث والقُراء العاديين , إذ يجد فيه الكل غايته من المعرفة ومتعة السرد والرصانة الأكاديمية والدقة العلمية , والتليسي معروفا عنهُ مثابرته واجتهاده وتقديمه للجديد في كل ما تصدى سواء في الشعر أو في النقد أو في التاريخ أو في الترجمة , فهو الكاتب الموسوعي الذي أضاف إضافة قيمة في كل من المجالات المذكورة , ذلك أن التليسي لم يستقر على مجال وظل ينوس بين كل هاته المجالات الفكرية والأدبية , وهذا من حُسن حظ الثقافة في ليبيا , فنادرا ما نعثر على شخصية بمثل هذا العطاء المتعدد الجوانب ليس محليا فحسب بل عربيا وعالميا في عالم بات اليوم وأكثر من أي وقت مضى يؤمن بالتخصصات والتخصصات الدقيقة حتى.
وكان لإرفاق التليسي بمادة كتابه المقروءة مجموعة من الرسومات اليدوية والخرائط التي وضعها الرحالة الأجانب ورسم بعضها الرسام الليبي محمد علي لاغا , كبير الأثر في توضيح الصورة ومُقاربة تاريخ طرابلس الفيحاء , إذ نرى رسومات لأشهر معالمها من بناءات وأبراج وأسواق ومساجد وأقواس ونقوش وزوايا وأزقة وأبواب وحنفيات أو صنابير مياه عمومية ومراسي وسفن في ازمان مختلفة , وخرائط تُظهِر حدودها وترصد عملية توسعها في عصور مختلفة والتغييرات التي طرأت عليها , والرسومات رسمها فنانون محترفون وليس أي فنانون وهذا أيضا من حسن حظ طرابلس.
ويُشار إلى انه صدر في الآونة الأخيرة كتاباً بعنوان ” التليسي مؤرخاً ” للباحث الأستاذ عمار جحيدر رصد فيه بحسه النقدي آليات الكتابة التاريخية عند التليسي واستعرض فيه منهجه في ذلك , وهو كتاب قيم أوفى التليسي حقه كاملا ولم يبخسه شيئا لناحية انه باحث كبير ومؤرخ يشهد له القاصي والداني بخبرته ودقته , وكان الباحث عمار جحيدر قد ألقى محاضرة قيمة لخص فيها كتابه المذكور قبل أن يتم نشره ويصدر عن دار المكتبة العلمية العالمية بطرابلس وكان لنا شرف الأستماع لهذه المحاضرة وكتابة تغطية صحفية عنها في حينها.
وقد شارفت هذه المداخلة على الأنتهاء نجد أنه من المهم التذكير بتاريخ ميلاد التليسي الذي يوافق التاسع من مايو , ولعل هذه المداخلة تكون بمثابة تحية بسيطة للتليسي وتذكير بمآثره وتأتي هذه الألتفاتة المتواضعة لتسلط الضوء على جانب مميز من جوانب هذه الشخصية الموسوعية التي أعطت بلا حدود ولا زال إشعاع ما قدمته يمارس دوره التنويري في المجتمع إلى اليوم وحتى بعد وفاة صاحبها رحمه الله.