أحمد الفيتوري
«إن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا حين يلعب، ولا يلعب إلا حين يكون إنسانًا».
• الفيلسوف الألماني شيلر
1-
كثيرًا ما نخلط بين الكتابة والكاتب، حيث تتماهى عند المتلقي الرسالة بالمرسل، وهذا الخلط غير القويم مأتاه في كثير من الأحيان قصور عند المتلقي أو تغرض!، لكن في قليل منه صادق عندما تكون قاعدته القول الشهير «الأسلوب هو الرجل»، هذا الاستثناء دارت حوله في تاريخ الكتابة مناقشات واختلافات جمة، خلاصتها أنه القول المختلف عليه. لكنه الاختلاف ما وكد في زاوية نظر أن ثمة كتابة عصارة الروح، فيكون الأسلوب مرآة هذه الروح. ثم يقال عادة إن لكل كاتب كتابة كما لكل قاريء قراءة، القصد أن الأسلوب هو الكتابة ما تتماهى وموضوعها، هذا الأمر شائك رغم بساطته الظاهرة، فالمتلقي يفترض ذلك ضمنًا، فيما المتلقي الحصيف يبحث في ذلك، لكن من منطلق بديهة أن لكل كاتب أسلوبًا، ما يجعله ذلك يتخطى المسألة برمتها، خاصة عندما يلبس ثوب الناقد التطبيقي.
كثيرًا ما نقرأ كتبا ونصوصا دون معرفة بسيرة صاحبها، وهذا ما ينتج الفصل بين الكاتب والكتابة، ما تكون محصلته لصالح النص الذي تكون هويته خالصة لمحتواه دون روافد. لكن في أحايين تسبق صورة وسيرة الكاتب كتبه، عندما ينال شهرة ما ناتج مطالعتنا أو حتى بدونها حين يتحول اسمه إلى علامة، ما تكون دافعنا لاقتناء نتاجه. لقد تفكرت كثيرًا في هذه المسألة، خلال عمر عشته كقاريء فكاتب، لم أنشغل ولم أكتب فيها، لكن التفكر فيها له دوافع عدة، منها أن شدني مبدعون بأسلوبهم وطرائقهم في الكتابة، قبل أن يمسكوا بي بنظرتهم النيرة وحفرهم في أطروحاتهم أو سرديتهم.
قليلًا ما لفت النظر التفاني والتكريس فالحفر في مسألة ما، واحدة لا تثنية لها وليست من ثالوث، فمن ناحيتي لست من هذا القليل بل من عموم الكتاب، عسى أن هذا ما استحث النفس إلى النظر في هذا النفيس.
2-
فيصل فخري كاتب ليبي وإعلامي، منذ مقتبل العمر لفتني إليه، بالتفاني والإخلاص لثقافة مجال نظن أن ليس له علائق البتة بالثقافة، فكرس نفسه فعمره لتبيين أن الرياضة رياضة الجسد لابد من التأمل فيها ودراستها ومن ثم توثيقها، كما ثقافة الروح ما أهدر فيها جم ما في المحبرة من حبر. إذًا فيصل فخري، من لم أعرف غير البعض مثيلًا له، أراد وفعل موسوعته في مجال مستبعد كثيرًا من حلبة الثقافة، رغم المقولة الفلسفية أن العقل السليم في الجسد السليم، وهذا الاستبعاد في العصر الحديث، كسره ما تيسر من كتابة أدبية كمثل المبدع إدوارد غاليانو صاحب كتاب «كرة القدم في الشمس والظل»: «لقد رغبت مثل جميع الناس في أوروغواي، أن أصبح لاعبًا لكرة القدم. وقد كنت ألعب جيدًا، كنت رائعًا، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي، أما في النهار فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي». مثل هذا الكاتب ذهب من لعب كرة القدم إلى اللعب بالكلمات، نثر في كتبه شعرية كرة القدم، فيما فيصل فخري في البدء -كما يقدم مخطوطه كشكول الذي بين يدي- أراد أن ينضم لفريق الأدباء، فقد كتب في الصبا الشعر، وفي مقتبل العمر كتب مقالات وخواطر ضمها في مخطوطه «كشكول الحكاية الأولي».
فيصل فخري عرفته قبل كإعلامي عبر الإذاعة والتلفزيون، ثم عرفته الكاتب المؤرخ من لا تفوته نأمة في الرياضة، فقد كرس جهده ووقته وماله للكتابة في الرياضة، وما أبداه من تفانٍ تمثل في أنه أرخ كرة القدم الليبية، حتى إنني أظن لا مثيل له في مجاله، ومن ذا وغيره الكثير نسج موسوعته الرياضية، ما تحتوي على تفاصيل لا يتمكن منها المرء، إلا حين يكرس جهده ويثابر في تسجيل لحظاتها العادية والاستثنائية، فتكون المسألة الرياضية مسألة المسائل وتشكل يومياته، خبزه وماءه وحتى الأكسجين الذي يتنفس. دفاتره التي طبعت في كتب تشي بذلك، حيث منها ما هو تأريخ ومنها ما هو سيرة للاعبين مشاهير في ليبيا ومنها ما هو وثيقة، ما جعلها كما منهج لجامعة مفتوحة قارئها ليس بحاجة لغيرها، فهي مكتبة سيارة في مجالها.
فيصل فخري كتب العديد من الكتب عن الرياضة، ثم أخرجها وطبعها ونشرها ووزعها بنفسه، قبل كتب المقالات الصحفية وشارك في تحرير الصفحات في عدد من الصحف، بالإضافة إلى البرامج الإذاعية والتلفزيونية، لكن ما عرفته مؤخرًا، عبر مخطوطه الذي يعده للنشر، أنه كتب العديد من الكتابات النثرية/ المقالة اهتم فيها بالجانب السيكولوجي، وقد نشرها في عقد الستينيات ومطلع السبعينيات في جريدة «الحقيقة» وغيرها، ولما أعدها في كتاب اعتبرها خواطر، وبتردد المختص لم يعمل على نشرها إلا بعد أكثر من نصف قرن، وفي مقال منها يكتب: «لا أريد أن أجعل من نفسي كاتبًا مسرحيًا أو راويًا بارعًا، ولكني سأكون أمينًا، في أن أعيد راوية كل ما طرق سمعي حول هذه القصة، التي لا أشك لحظة في أنها من صنع الخيال المحض.. بل أجهدت نفسى لكي أستجمع شتات ذهنى، حتى لا أتيح للشك مجالًا …».
فيصل فخري في هذه المقالات يوميء بشخصية متمردة على غير وئام مع محيطها، وتبدو كما شريط وثائقي نفسي لجيله ومرحلة تاريخية، وتبين أن ثمة مشروع كاتب أدب، قصة مثلًا، لكن نزعة كروية أصابت ذاك الكاتب من شخسره الأدب وكسبته الرياضة. لكن في كل حال المقالات بمثابة برهان على أن التفاني وتكريس الروح، جذر أصيل زرع مبكرًا، وكان الحصاد كتابة في الرياضة، هي شغل فرد- مؤسسة، يدعى فيصل فخري، الداعي إلى اللعب، حيث «لا يكون الإنسان إنسانًا إلا حين يلعب…»، والداعي إلى العقل السليم.
بوابة الوسط | 13 فبراير 2024م