محمد دربي
“أعتقد أنّه من الحق أن يقال، بأنّ ارتقاء الأنسان
من رتبة خفيضة إلى رتبة عالية لا يقع إلا نادرا” ميكافيللي
الحظ والقدر:
القذافي من ملازم بسيط إلى حاكم مطلق لكل البلاد ، ومن مغامر مغمور إلى ” ملك ملوك أفريقيا” متوجاً بتاج الوهم والتّعظيم ” البطولي” . أهو الحظ مرسوم من القدر ام هي المغامرة التي تستدعي الشجاعة، كيف استطاع انْ ينال هذا المجد وكيف استطاع يبني ” جماهيرية ” على حطام حقبة سياسية انهيارها كان أمراً وشيكاً ؟ أجل ، كيف أنّ القدر ساق له على نحو اسهل من كل شيء سهل لِما أراده فأصاب مراده ؟ أكان الرجل صاحب جدارة وقدرة رهيبة على احتمال المخاطر من أجل بلوغ المراتب العليا في السلطة؟
رتبة الحظ:
في عبارة عن فكرة الحظ ورتبته العليا في الحياة يقول ميكافيللى في المطارحات: ” إنّ الناس يستطيعون تأييد ما اقره الحظ ، ولكنهم لا يستطيعون معارضته بل يعملون وفقاً لمشيته”. أي الحظ عند ميكافيللي ما هو إلا وصف يحوم نحو القدرة على تحقيق النجاح إذا ما صادف القدر ظهور الحظ وتجسده عملياً وتحقيقه بالفعل ومن دون عناء أو نصب أو تعب أو مُقاومة تذكر على الإطلاق مع تلاشي الحدود الفاصلة بين الرذيلة والفضيلة بالاستيلاء على السلطة بغير الحق وفي المحافظة عليها، وليس على المرء في حالات كثيرة إلا التعرض لأسباب الشك وربما الأنكار وعدم التروي إذ الحظ يحمل طابع معياري قد يصعب التحقق من إثباته بالفعل. فهل القذافي أتى بفعلٍ متهور وغير مدروس أم فيه شيء من التروي للانتقال من أدنى المراتب إلى ارفعها؟ أكان القذافي على معرفةٍ بمقولة ميكافيللي : ” لذا على أمرائنا أن لا يلموا الحظ بأنهم اضاعوا ممتلكاتهم بل عليهم أنْ يلوموا تواكلهم. لأنهم لم يفكروا في أيام الرخاء بأن الأمور قد تتبدل “
الضوء الباهر:
غير أنّه قد تحقق للقذافي ضَربٌ من الحظ الوسيع ساعة اعلانه البيان العسكري في صباح اليوم الأول من سبتمبر وادرك حينها أنّ دقة صنع القدر المواتي له ساعده في الوصول إلى السلطة ومن ثمّة الاحتفاظ بها بأتباع اساليب الحيلة والخداع ، ومن ثمّة تيقن القذافي أنْ السلطة تعني تحقيق النجاح بأية وسيلة كي يصبح محل اهتمام العامة وهو كان شاباً لم يبلغ الثامنة والعشرون من عمره. لا شكّ أنّه أدرك أنّ الحظ كالضوء الباهر الذي يومض على غرة. كأنما القذافي يتبع نهج ميكافيللي: ” إذ عندما لا يكون ثمة إلا القليل من الفضيلة ، يعرض الحظ عضلاته ويبرز سلطانه إبرازاً كبيراً… “
حدس القذافي المرادف لحدس الناس:
الوسيلة التي حقق القذافي بها بضربة حظ الوصول إلى السلطة كانت انقلاباً عسكريا عُرف بعد قليل بـ ” الفاتح من سبتمبر” وهو انقلاب عسكري قد لا تسلم عواقبه من غير النظر في الأمور ودراستها من كلّ جوانبها ووضع شتى الاحتمالات التي يمكن أن تؤدي هذه المغامرة إلى الفشل. أما عن الناس في ليبيا فقد فُوجئت بالبيان العسكري الأول كمنحة فياضة وبركة جليلة فقبلوا بما ما أقره الحظ والقدر ورضوا به عملاً بمشيته فظهروا افواجاً هادرة في مظاهرات تأييد لم تشهد ليبيا مثيلاً من قبل. ما السر وراء قوته الدافعة حينها ؟ وما السّر في القضاء على اصحاب السلطة الماضية المهترئة أصلاً وبهذه السهولة محيلاً إياهم إلى متحف السياسيين العاطلين عن العمل والمؤرخين لهم حسرةً وكمداً؟
المغامرة من جنس النظام:
غير أنْ القذافي كان يدرك أن الأمر ليس سهلاً ومن الممكن ألا يستجيب القدر وربما للقيد ألا ينكسر ومع ذلك مضى في مسعاه لأنه كان قد قرأ قد الوضع العام في ليبيا جيدا وأدرك أنّ النظام السياسي حينها كان مستهترا ومفككاً هزيلاً للغاية تنعدم فيه الإجراءات الأمنية وقد اصابه الوهن والعجز مبكراً ولن يحرك ساكناً ولن يقاوم بجدية لكبح جماح البيان الأول. إضافة لنقص في ادارة شؤون الشعب وأجهزة الحكم لرعاية البلد والصالح العام ، هذا رئيس وزراء سابق عبر عن هذه الحالة في مناسبتين مختلفتين في قناة الجزيرة قائلاً: لقد كان النظام على علم بالانقلاب العسكري غير أن السلطات اعتبرت الأمر حادثة عابرة أي نزوة شبابية لا تُعقل ، وأنّ السطات الليبية كانت عندها علم تام بالانقلاب العسكري وبمن سيقوم به ولكنها اعتبرت الحركة ليس جادة او خطيرة استهتارا بمستقبل البلد. إذن كان للحظّ دور كبير وكان مدعوماً باستهتار واضح لا يعرف حجم النتائج من أثاره السيئة وكان القذافي خبيراً بذلك فما شاء القذافي إنّما الحظ شاء.
مسؤولون وفيض من القبول بالقدر والحظ ” الثوري”:
بعد أنْ استجاب القدر فما ينطبق على الناس يطبق على بعض المسؤولين الذين على نحو ما أدركوا أنهم أبناء الأمس واليوم والغد معا وتحت وطأة القدر فهم مما لديهم خزان المعرفة بشؤون الحقبة المنهارة:
وزير سابق يطلب من الناس أنْ تساند ” الثورة”:
” هذه ثورة مباركة وثورة مجيدة.. وبفضل الله ثورة بيضاء تهدف لخدمة الوطن العزيز والشعب الكريم ” ثمّ طالب بـ ” توفير الجو المناسب للثورة من أجل الوطن…… الوقوف بجانب الثورة وتأييد ها ومساندتها “
مسؤول عسكري:
” ثورة غرّة ومباركة “
عسكري آخر له شأن كبير يتمنى ” للثورة ” مزيداً من التقدم :
” أبرك التهاني وأطيب التمنيات لرجال الثورة البيضاء…. أتمنى للثورة مزيداً من التقدم البلاد”
ووزير آخر يقول مُتجهماً من أثر التحول الفجائي : ” أنا وأسرتي وعشيرتي وقبيلتي في خدمة الثورة”
وزير آخر من العيار الثقيل بعد أثنى على هؤلاء الشباب ونعتهم بأنبل الصفات قال: “…. لكي يحققوا ما لم نستطع تحقيقه “
حظ يشبه المعجزة والسم الزعاف:
وإذا ما كان الحظ حليف انسان مغمور مجهول الهوية لا يخلو من دهاء فالسلطة المشتهاة لديه ادرجها الحظ بين يديه فالناس: ” لا يقدرون على المساس بأوامره أو تحديها”. هكذا سيق البلد بأسره بضربة حظ تشبه المعجزة على يد ملازم بسيط بصحبة اقران سنعرف فيما بعد انهم يشكلون تنظيما سياسيا صفته الأولى أنّه ” مجلس قيادة الثورة” و صفته الثانية أنّه على الجميع عدم المساس بأمره أو تحديه بل وعليه بالتصفيق له من قبل الشعب ذاته ، فما اتاحه القدر العنيد على هذا النحو لم يكن صدفة ، أنّه فيض البشائر” المباركة” في فاتحة الشهر كما قالت الأغنية: ” بشائر يا ليبي بشائر و الشعب وراء الثورة سائر” ، وهذا ما يؤكد قول ميكافيللي: ” الناس المفتقرين إلى حسن البصيرة و الحكمة كثيراً ما يقبلون على ابتكارات يستسيغون مذاقها في البداية و لا يلاحظون ما فيها من سمٍ زعاف في النهاية” .
طبيعة النظام وخيوط الحظ:
السلطة كما فاز بها القذافي و ” مجلس قيادة الثورة” كانت سهلة المنال ، كانت خروجاً عن الأعراف الدستورية وعن شؤون البلاد العادية ، كانت ضربة حظّ ساعدته الظروف. ولكن هل الأمر كان سهلا للغاية؟ فما الظروف التي أدت بالقذافي أنْ يستخدم القدر والحظ الاستخدام الأمثل. لا يمكن أنْ نفهم جاذبية الحظ بمعزل عن النظام القائم حينها والميل الغير مبالي لديه إلى ما يشبه الاستهتار واللامبالاة ، والميل إلى تحويل الحقائق إلى تخييل ما يشبه الريب. من الواضح أنّ النظام لم يكن يسترشد بالمعايير لسلامة العقل السياسي ذلك الذي له القدرة على التحسب لجميع المشاكل وتجنب الشرور والتي عبر عنها ميكافيللي: ” أنفع العقل ( في السياسة) المعرفة بما يكون وما لا يكون”.
النتائج المحتملة للحظ:
لقد درجنا إلى أنْ ننظر إلى نجاح القذافي بمعزل عن واقع الحال حينها كأنّ لم يكن هناك نظاماً سياسياً قد بدأ يدب فيه العجز ويسيطر عليه الاستهتار والوهن مما ساعد على تحقيق قيام شروط الحظ حينها. الحظ كان حليف القذافي غير أنّه كان على دراية كافية بوهن وضعف النظام. السياسي حينها ، فستطاع استخدام الحظ بكل نجاح في تحقيق اماله في الوصول للسلطة والحفاظ عليها ، وذلك على ضوء معرفته بما ستؤول إليه مسبقاً من تحديد خياره المصيري أما بالتقدم أو بالإحجام عنه. فما كان ألا القدرة على تنفيذه طالما الظروف السياسية السيئة حينها متوفرة للقيام بمشيئة الحظ. من الواضح أنْ القذافي أدرك بوعيه لتلك الفترة أنّ النظام كان دوماً يسعى إلى تفضيل مصلحته الشخصية على مصلحة ” الدولة”. فكان الانهيار وكانت هزيمة النظام.
الانقلاب والقدر والنظام:
عجز نظام النظام من مواجهة الأزمات المستحدثة والمتوالية ولم يستطع ادارتها سياسياً بفاعلية وفطنة وحزم ، فالنظام بدا للقذافي ضعيفاً مهترئاً معرضاً للسقوط الأمر الذي سلب من ” الدولة” هيبتها وإرادتها السياسية مما سهّل من تكالب الضغط الخارجي عليها والتدخل في شأنها الداخلي ، فضلاً عن انفلات التكالب على الإثراء السريع بطرق غير مشروعة من قبل بعض الفئات الليبية والمسؤولين في الوزارات وتفشي الفساد والمحسوبية بشكل ملحوظ وازدياد الاحتقان الاجتماعي وتواجد القواعد العسكرية الأجنبية والتي كانت تمثل لدى الناس شكلاً آخراً من اشكال الاستعمار وسوء استخدام ثروة النفط وعدم تخصصيها اقتصادياً من أجل ازدهار البلاد وعدم توزيعها اجتماعياً التوزيع الأمثل ، بالضافة إلى عدم وجود تنمية اقتصادية مُستدمية متكافئة وفقدان الثقة بالنظام اجتماعياً و فقدانه الشرعية السياسية بينما كل فريق كان له اسبابه الخاصة ، مما اتاح الحظ والقدر من أن ينقض القذافي على السلطة حينها حيث لم يكن النظام قادراً على حماية إدارة البلاد خارجياً وداخلياً وقد لاقى ذلك التغيير الدعم الشامل من أغلبية الليبيين الذين ترنموا ” بشرقة شمس الثورة علينا.. وثورة على الطغيان والرجعية….. وعلى شطّ الحرية رست مركب ثورتنا ” بدءً ببشائر” يا ليبي بشائر والشعب وراء الثورة ساير “.
واقع الأمر:
وواقع الأمر كان يقول بأنّ الانقلاب العسكري لم يكن مجرد تحرك بعض الدبابات والاستيلاء على مبنى الإذاعة وإعلان البيانات الحماسية وإنّما كان يعني فعلياً عدم قدرة السلطات السياسية الليبية بكل فروعها بالإضافة إلى اجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية واجهزة الاستخبارات العسكرية على حماية البلاد والوطن ولم يكن الانقلاب العسكري بقيادة القذافي قد غنم بكل البلاد وما فيها بمؤسساتها ونفطها فقدمت له هذه السلطات الثلاث كل ليبيا وما فيها وما حملت على طبقٍ من ذهب بسبب استهتار هذا السلطات بأهمية ” الدولة” واستهتار الأمن الداخلي والعسكري بحماية البلاد وخاصة أنّ بعض هذه الأجهزة كانت تمتلك في حوزتها تسجيلات لمدبري الانقلاب غير أنّها استهزأت بهم وبشأنهم ونظرت اليهم على أنّهم ضباط صغار ليس في مقدورهم تغيير النظام ، كما تجاهلوا و لم ينصتوا إلى التحذيرات التي كانت تصلهم من بعض الدول الغربية ، والعربية المجاورة بأنّ ثمة من تحرك عسكري على وشك أن يأخذ خطوته الأولى للاستيلاء على السلطة.
الحظ حليف القدر:
الحظ لعب دوراً كبيراً في نجاح القذافي فلم تكن هناك دولة بل نظاماً هشاً مهزوزا هزيلاً وكان يعرف ذلك جيداً ، فالحظ والمجازفة المدروسة كانتا الخطوة الأولى لتحقيق ذلك ، فقد أعد البيان الأول بمهارة عالية تصل إلى الناس مباشرة ، فقد خاطب الشعب بما يريد أنْ يسمعه الشعب ويتماهى معه. ” وهذه هي الحالة مع القدر الذي يبسط قوته عندما تنعدم الإجراءات لمقاومته فيوجه ثورته إلى حيث لا توجد حواجز ولا سدود اقيمت في طريقه لكبح جماحه”
غياب العنف:
ومن ذكائه انه لم يستخدم العنف ولم تسقط قطرة دم واحدة. كيف استطاع أن يحافظ على النظام لمدة طويلة. وكيف استطاع الشعب الليبي وأن يمتلك القدرة على الحفاظ على ذلك الوضع الذي خلقه القذافي كقائد عسكري وبعد ذلك كقائد سياسي؟ القذافي لم يكن محظوظا وحسب ، بل ذكياً ايضاً ، سياسي يطمح للسيطرة والمجد ، وذلك يمكن ان يكون بوسائل اخرى غير عادلة لبعض الناس بينما يرى فيها اخرون انها العدل ذاته: ” عليه أن يجعل الناس يرون فيه ويسمعون منه الرحمة مجسدة والوفاء للعهود والنبل والإنسانية والتدين ” (الأمير ص 194) ، فخدم القذافي نفسه أنْ جعل عقول الناس تتحول في اتجاه الإقناع والتخييل.
- كل العناصر التي ينبغي ان يتحلى بها القائد السياسي استطاع القذافي التعبير عنها بالإضافة إلى المعاني القومية واعتماده على الدين. استطاع أن يتكئ على الدين منذ البداية ، فما الصواب والخطأ والاحلال والحرام ، مع عدم تجاهل هدفه الرئيس للاستمرار في السلطة.
- احتفظ القذافي بكلمته السياسية للحفاظ على النظام ، وكان يعرف جيداً إنّ الحفاظ على الوعد والعهد الى حد نقطة معينة يمكن الاستمرار في ذلك حتى يصل إلى نقطة أخرى للتحرك نحو خطوة اخرى اكثر تغيراً.
- لقد امتلك قدرة رهيبة مكنته من السيطرة على البلاد عبر خطابه الشهير في زوارة ولم يتجاوز الثلاثين من عمره.
- في غياب الديمقراطية وسياسة الدولة فما الذي يمكن القيام به للحصول على شهرة شعبية غير أن يتخلص من القواعد الاجنبية وهو شأن اعطاه شعبية اكبر حتى بين كثير من المثقفين والشباب السعيد وكثير من المتنورين وقد انعكس ذلك الصحافة.
- القذافي امتلك خاصية القدرة على القيام بما لم به الآخرون.
- ظهر القذافي في أجواء المد القومي العروبي الوحدوي ، فستطاع أن يستوعب ادبيات وشعاراته الكبيرة: ” وحدة ، اشتراكية ، حرية”.
- احتفظ القذافي بتحقيق وعده للشعب ، فـ ” البيت لساكنه وشركاء لا اجراء ” ، فهذا كان معنى العدل عند الناس ، اي ” الزحف الأخضر ” اي القدرة على تحقيق ما كان يتطلع اليه الشعب ويريده معظم الناس.
- التوجه نحو الفئات المهمشة والتي تمثل نسبة كبيرة من المجتمع الليبي سواء كان في المدن الكبيرة او القرى.
- العدل والعطاء حسب ما راه القذافي مخاطباً الناس بلغة ” الاشتراكية”
- في فترة لاحقة سيتجلى عنها ما يجعله يتخذ لنفسه طريقاً اخرا وفكراً اخراً ، وما عرف بـ ” النظرية العالمية الثالثة”
“إنّ السراب ببطن البيد ختال”:
ليس من المستطاع ، إذن النظر إلى ضربة الحظ والقدر، بمعزل عن فروض ثقافية. لننظر إذن في طبيعة السلطة آنذاك وفي التوجه الثقافي الذي ساعد على الانقلاب العسكري. فالنظام السياسي حينها كان يجدف في طريق مخالف للثقافة وكانت الثقافة وهي ضعيفة أصلاً تجدف في طريق مخالفة للنظام ، كلا الأثنين المتنافرين كانا يجدفان في الهواء الطلق ويجدفان خلف سراب ببطن البيد ، وكان القذافي أذكى من الجميع ومن بقية الناس وذلك بمعرفة الاحتقان الشعبي حينها المتمثل في الخيبة والإحباط. فإنّ ” السراب ببطن البيد ختال”.