المقالة

 المحافظة على الاستقلال

إعلان الاستقلال ليبيا
إعلان الاستقلال ليبيا

“المحافظة على الإستقلال أصعب من نيله”، منشور سياسي مكثف لمشروع سياسي مستقبلي من أجل الشروع في بناء ” الدولة الحديثة” أطلقه الملك إدريس رحمه الله صبيحة الإحتفاء بالإستقلال ، رُددت كلماته كثيراً في منسابات مختلفة ، صدرت هذه التوصية عن حكيم لم يتماهى مع السياسة بقدر تماهيه مع المثل العليا وتسمية الأشياء بأسمها و الإخلاص لليبيا. ماذا صنعنا لتحقيق هذه الحكمة؟

 تناسينا قوة الحدث وعنوانها التقدمي وخدمته لفكرة القدوم والولوج على حياة جديدة ناضجة مزدهرة ومسؤولة بصدق وبناء ” الدولة” التي تواكب العصر وشروط الدخول فيه، ومن حيث ندري ولا ندري ذابت وهامت وغاصت في عيون الضباب كأنّها لم تقل أي شيء.، ودفعنا ثمناً لا يقدر بثمنٍ من فعلة جهلنا المُركب مازلنا نحمل وزره إلى الآن، ودخلنا ساحات مختلف الكوشفات الفكرية إلا في مجال بناء الدولة الحديثة.

منذ تلك اللحظة وإلى الغد والذي يلي الغد وضعنا نحن الليبيون بيننا وبين هذه الحكمة حجابأً سميكاً ونفرنا منها ولم نفكر في مغزاها العميق، ولا نذكرها إلا في ساعات نشوة خمرة الماضي و”كؤوس النصر” ألتي أحتفلنا بها بمزاجنا الضحوك، فقللّنا من شأن معانيها وأزدرينا بحماسة قوتها واهميتها وغدونا نعدوفي طريق غير معبدٍ وتركنا الأمور تسير في تيه حسب التساهيل فلا خطة او تخطيط نحو الدّرك الذي فيه نحيا فيه، ومدى نجاح الشعوب الأخري في تحقيق ما فشلنا فيه.

 ولم يكن لنا رؤية لتأصيل معاني هذه الكلمات ولم نعرْ اهتماما للقادم، فشلنا في بناء دولة ” حديثة عصرية” رغم تبجح الأعمى بذلك والتكرار المزور بأنّها كانت بالفعل ” دولة حديثة”، فلم يتوجه طموح العبارة في عقولنا ولم نتقن التبصر فيها ولم ندرك المقصود منها، فوقعنا في التخبط والفوضى والتناحر والتزمت ودخلنا في حلقة مفرغة من العنطزة والفهلوة والشطارة والتشرذم والتشتت، مع التمجيد والفخر المزيف بفترة وحقبة سياسية أكبر سماتها أنّها لم تكن ” حديثة غصرية”

الملك كان واضحاً، أراد منا أن نتحمل مسؤولية أن نتماسك كـ ” شعب” واحد من أجل ” الوطن” ونتقاسم البلد بروح التعاون والمثابرة، فالمحافظة على الاستقلال تستدعي عدم الإغفاء والاسترخاء وعدم السقوط في فخ ” الفاتح من سبتمبر”

مبدئياً- الشروع في بناء الدولة، لا بالاسم وحسب ولا بالأحلام ولا بتكرار كلمات لا تقول بالفعل أي شيء ولكن وسط الشواغل والعقبات كان في مقدورنا خلق قوة دافعة لبناء الدولة، ما من شكّ أنّ الإستقلال حسب هذه العبارات لم يكن مجرد حق تمّ اكتسابه عبر كفاح طويل ومرير، ولكنه شرف مقدس ينبغي الحفاظ عليه حتى لا يفلت منا توجيه الزمام من الحفاض عليه. ويا للكارثة، فلم نحافظ عليه.

المحافظة على الإستقلال – حسب فهمي – لا تقع على كاهل السطات الحاكمة ولا على البرلمان ولا على القضاء وحسب، بل تقع على عاتق المجتمع الذي غدا بعد الإستقلال حراً ومسؤولاً خلال فترةً وجيزة، كما تقع على عاتق الفرد في محلته ومدينته وفي وطنه بشكل عام. أنّها مسؤولية جماعية وفردية معاً.

ولكن حقبة الإستقلال ذاتها بدأت في نسف هذا المنشور السياسي ونهجت نهجاً مناقضاً لرؤية الملك ومخالفاً له ولم تسعى شبراً واحداً للتوجه بالبلد نحو بناء ” دولة حديثة عصرية”، وإنما وضعت الدستور في غرفة مظلمة وجعلت من ” النظام ” نظاماً عشائرياً قبلياً يستند على وشائج القربى وابناء العمومة وأمزجة صلات الرحم وأخواتها تنفيذيا ً ، أما اشتراعياً أي برلمانياً في بالإضافة إلى ما جادت به السلطة التنفيذية فقد نهج البرلمان نهجاً اديولوجياً و ” قوميا” ولم يفق من الصدمة الاستعمارية  .كان البرلمان يسعى في وادي آخر لا يعرف مقدار الخطأ ومقدار الصواب في العمل السياسي ، في الغالب كان متهوراً أومعانداً إلا في حالات تتعلق بالشأن الأمني.

كلا السلطتين بشاهدة السلطة القضائية أهملتا بإستهتار منشور ” المحافظة على الإستقلال أصعب من نيله”. كما تجاهلتا الدستور، سلطاتان استمرتا في التخبط والتنطع والتنافس غير المجدي في تسجيل المواقف وفي المد والجزر وعدم تجنب الصدام وتحاشيه فضلاً عن عدم القدرة على التأليف بين المتبينات مع الإشباع الوهمي للرغبات ” القومية ” والرغبات العشائرية والقبلية في اصرار وتعنت لا تحمل من قوة العزم والتبصر في شأن البلد ومشاكله وتحدياته شيئاً، فلم نثق بفكرة الملك عن الاستقلال وأهمية الحفاض علية وغفلنا عن فعالية الكلمة وجديتها.

أستمر ذلك التخبط والتعنطز بصورته النرجسية إلى أن استيقظ البلد على بيانٍ مشحون و مغمورٍ صدرعن مجهول مدغدغاً مشاعر الناس- وبالذات كتلة البرلمان المعارضة التي سيكون بعض عناصرها فيما بعد من دعائم شرعية الانقلاب العسكري- وذلك في صبيحة أول يوم من سبتمبر ، بيانٌ من مجهول ظهر في خفية مسح بيانَ صبيحة يوم الإستقلال، وتلا البيان ” الثوري” لاحقاً  بيوم أو يومين اهزوجة مضطربة مُبهمة تبشر كل الليبين قائلةً  : ” بشاير يا ليبي بشاير … والشعب ورا التورة ساير ” و بصحبة اهزوجة أخرى تسبح في الخيالات التي طرب لها الشعب  :” شُرْقت شمس التورا علينا بالحلم اللي اتمنيناه ..” إلى أن قَدِمت في موكب رهيب وهي تتمايل زهواً “مركب ثورتنا” بأشرعتها الخفاقة بأهزوجة ترتطم كلماتها بالموج: ” على شطّ الحرية رست مركب ثورتنا … بعد أمواج الرجعية قاومنها بهمتنا”.. ومن ” الرجعية ” التي قوامها الشعب حتى استمرت ليبيا على نهج ” على دربك طوالي” أثناء حقبة وعصر القذافي إلى أنْ أخذها ” دولة رئيس” تخرّج من جامعة ” الجماهيرية إلى البرلمان الذي مكث في الحكم أطول مدة.

“نارك ولاعة يا بلادي”

مقالات ذات علاقة

سقط المسرح….. وبقي الممثلون

ميلاد عمر المزوغي

آفاقُ الرَّخَاء

يوسف القويري

الخيال… ابتكار المستقبل

يوسف الشريف

اترك تعليق